شعيب عمر واقع المهاجر والتعليم الرسمي في بلد مثل بلجيكا يكون على الطفل أن يذهب للمدرسة ما قبل الأساسية ( أي المدرسة التحضيرية) حينما يبلغ عامين ونصف العام حتى السنة السادسة حيث أن إجبارية التعليم في بلجيكا تبدأ من 6 إلى 18 سنة. بالنسبة للمدارس التحضيرية فالأمر ليس إجباريا لكنه في غاية الأهمية، إذ أن الطفل يتحصل على مداركه الأولى ويتعود على اكتساب لغة البلد الذي ولد به. وبالنسبة لأبناء المهاجرين يكتسي الأمر طابعا خاصا لأن هؤلاء الأطفال تشكل لغة المدرسة بالنسبة لهم لغة ثانية ويتعلق الأمر بالعائلات التي لا تستعمل الفرنسية ولا الهولندية كلغة التخاطب الأساسية بالمنزل، أي أنها تتحدث إما بالامازيغية أو بالدارجة المغربية. وقد يحدث أن أطفال مهاجرين لم يسبق لهم دخول المدرسة التحضيرية لأسباب ترجع لجهل الآباء بالأمر في أحسن الأحوال أو استخفافا به في أسوءها، فيكون على الطفل أن يذهب مباشرة للتعليم الأساسي دون أن تكون لديه أية قدرة على مجاراة مستوى البرامج المطروحة ولا حتى مجاراة مستوى باقي التلاميذ في الصف. وقد حدثت حالات مثل هذه كان فيها تلميذ الأسرة المهاجرة هو الخاسر الأكبر. في هذه المرحلة من التعليم يتم التشديد – تربويا – على ضرورة التواصل مع الأطفال مزدوجي اللغة والحديث معهم باللغة المتداولة في البيت لأهداف تواصلية وليس بيداغوجية، بمعنى آخر يتم تقسيم وقت التلميذ بين اللغة الأم في البيت واللغة الملقنة بالمدرسة. وهذا الأمر يجب أن يستمر حتى الخروج من مرحلة التعليم الأساسي، لأنه من المفترض أن الأطفال بعد المرحلة الأساسية سيكونون ملمين بشكل مقبول بلغتين على الأقل، لغة المدرسة واللغة الأم. وخلال هذه المرحلة لا يتم – في بلجيكا على الأقل- تدريس أية لغة قبل السنة الرابعة من التعليم الأساسي وحتى تدريسها في الأقسام اللاحقة تكون عبارة عن مبادئ عامة ومصطلحات شائعة. في واقع الهجرة المغربية في هذا البلد – ويمكن إسقاطه على بلدان أخرى بشكل أو بآخر- فإن أطفال المهاجرين يعانون الأمرين مع التمارين المدرسية. والسبب الرئيس هو عدم قدرة الآباء والأمهات على تقديم المساعدة لهم نظرا لغياب معرفتهم بلغة المدرسة الرسمية ( الهولندية بشكل خاص). هذا الواقع يؤدي إلى صعوبات جمة تعترض بداية المسيرة التعليمية لأطفال المهاجرين وتؤثر بشكل كبير جدا على مستوى تحصيلهم وقدرتهم على مجاراة مستوى المدرسة. هذا الأمر له تأثير نفسي كبير على هؤلاء الأطفال خصوصا حينما يكون أطفال المهاجرين هم من يتحصل أسوء النتائج على مستوى الفصل – مع وجود استثناءات قليلة للأسف – ودائما ما يشار لهم بالبنان، والإحصائيات دالة في هذا الجانب. الغريب في الأمر أن هذا الواقع المعاش بشكل يومي وبدلا من النظر إلى كونه مشكلة تهدد أبناءهم، يلجأ المهاجرون بشكل غريب إلى البحث عن مشكلة جديدة وإضافية لهؤلاء الأطفال وهم في سن لا تحتمل التجارب، فيعمدون إلى إدخالهم المساجد لتعلم لغة جديدة! المفارقة الغريبة، المضحكة المبكية، أن هؤلاء الآباء والأمهات لا يقومون بأي جهد لتعلم لغة البلد الذي يعيشون به ويحملون جنسيته ومن باب توفير الدعم لأبنائهم، بل ولا يقومون بأي جهد لتعلم اللغة التي يؤمن بعض المهاجرين بان الدين لا يكتمل إلا بمعرفتها وإجادتها!!!! ولفهم ولو جزء من طبيعة تراكم سوء فهم واقع التعليم لدى الطفل، يبدو من الضروري الإشارة إلى جزئية غاية في الأهمية حتى يصير الأمر أكثر وضوحا. فالمدرسة الرسمية تعمل خمسة أيام على مدار الأسبوع، وبعد دراسات طويلة وشاقة قامت بها مؤسسات مختصة في علم النفس التربوي ( وفي بلجيكا بالضبط فإن أهم مؤسسة معروفة في هذا المجال هي “كلية علوم النفس والتربية” التابعة لجامعة KUL وبشكل خاص مركزي ” التربية التجريبية” و”فعالية التربية والتقييم”، هذا دون إغفال مؤسسات أخرى أكاديمية أو تعني بشؤون الطفولة)، توصلت إلى أن أفضل طريقة لتحقيق أكبر مردود للعملية التعليمية تتمثل في خمسة أيام من الدراسة بدلا من ستة التي كان معمولا بها قبل سنوات. ولزيادة مستوى هذه المردودية يدرس للتلاميذ أيام الاثنين إلى الجمعة حوالي سبع ساعات في اليوم باستثناء يوم الأربعاء حيث يدرس التلاميذ ثلاث ساعات من الصباح حتى الزوال. هذا التقسيم لم يأت عبثا بل هو نتاج لهذه الدراسات العلمية، والهدف الأساس هو عدم ممارسة أي شكل من أشكال الضغط البيداغوجي على التلميذ وتوفير فسحة من الراحة خلال نهاية الأسبوع وإعطائه فرصة اللعب وممارسة أنشطة موازية كالرياضة وعضوية النوادي الثقافية والشبابية بل وحتى تسهيل عملية الاندماج الاجتماعي للطفل. الذي يحدث بالنسبة لأطفال المهاجرين، وهو ما أشار إليه السيد دراز بعجالة شديدة، أنهم لا يستفيدون أبدا من مثل هذه الفسحة. ففي الوقت الذي تغلق المدارس الرسمية ويجد الأطفال الأوروبيون الوقت لممارسة هذه الأنشطة الموازية، يكون على أطفال المهاجرين الالتحاق بالصف لدراسة مواد إضافية بالنسبة لهم وفي غياب أدنى شروط للعملية التربوية، سواء تعلق الأمر بالكادر التربوي المؤهل إلى الوسائط التربوية مرورا بالأهم وهو غياب الهدف التربوي. فلا يعرف ما هو هذا الهدف المتوخى من تدريس اللغة العربية، أهو مجرد استئناس، أم معرفة القراءة والكتابة أم التمكن من ناصية اللغة العربية أم أن الهدف هو بالفعل تدبر القرآن الكريم! هل تدريس اللغة العربية في واقع أزمة الهجرة أولوية في حد ذاتها ؟ في واقع الهجرة يعاني المهاجر وأبناؤه من أزمات عدة تدور رحاها حول مفهوم الاندماج وحيث يشكل عامل اللغة أهم مظاهر هذا الاندماج. ولا يمكن تصور الإلمام بأبجديات القوانين والأعراف المحلية والمستجدات العامة في البلد، بالنسبة للآباء، دون المرور عبر تعلم لغة هذا البلد. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل إن سوق العمل أصبح التعامل معه من سابع المستحيلات دون المرور عبر بوابة الإلمام باللغة. وإذا كان الأمر يبدو ميئوسا منه بالنسبة للكثير من الآباء وخصوصا القادمين من المغرب لأسباب سوسيو-ثقافية ضيقة جدا مرتبطة بالنظرة السائدة والحمولة القيمية عن علاقة العلم بالسن، فإن الأمر يبدو كارثيا بالنسبة للجيل الثالث المولود بأوروبا. وإذا أخذنا حالة مدينة مثل بروكسيل كأكبر مدينة “مغربية” خارج المغرب (ما يزيد عن 120.000 مغربي دون احتساب المقيمين غير الشرعيين)، فإنها تشكل مثالا حيا لواقع أزمة الهجرة المغربية. ففي إحصائيات حديثة جدا أصدرتها مصالح وزارة العمل البلجيكية تتحدث الأرقام عن نسبة بطالة بهذه المدينة تصل إلى 25 بالمائة بينما المعدل الوطني هو في حدود 14 بالمائة ( إحصائية 2010) بينما في فلاندرز، وهي الجهة المحيطة ببروكسيل لا تتجاوز هذه النسبة 7 بالمائة. أما في بلدية مثل مولن-بيك فان نسبة البطالة تتجاوز بها حاجز 40 بالمائة. وفيما يتعلق بالشباب، فالمثير أن هذه الإحصائيات نفسها تشير إلى أن نسبة البطالة بينهم وفي الفئة العمرية من 18 إلى25 سنة تتجاوز 35 بالمائة. ولكن الأمر الأكثر دهشة أن هذه الفئة الأخيرة تشكل مجموعة الشباب من أصل مهاجر، مغربي بالأساس، أكثر الفئات معاناة. فالأرقام دالة على وضعية هؤلاء الشباب إذ أن البطالة تصل لمستويات قياسية على الصعيد الأوروبي ككل فتبلغ 70 بالمائة. وقد أشارت إحدى المجلات المتخصصة في سوق العمل ( Vacatures) في ملف شهير حول الموضوع إلى هذه الظاهرة فوصفتها بعبارة” الجيل المفقود لبروكسيل”. وبالقيام بجولة في أحياء المهاجرين المغاربة في هذه المدينة، سيكتشف المرء بسهولة عن عشرات المجموعات من هؤلاء الشباب وهم يستندون للحائط في تذكير بمصطلح “الحيطيون” الذي اشتهرت به الجزائر. وأود أن أشير هنا إلى شهادة احد زملاء العمل وهو بلجيكي كان مسئولا عن إجراء مقابلات توظيف في إحدى الشركات، أخبرني أنه كان يجد صعوبة كبيرة في فهم اللغة الفرنسية التي يتحدث بها طالبي العمل من هؤلاء الشباب من أصل مهاجر، ويقصد هنا أساسا الشباب من أصول مغربية. والإحصائيات نفسها تشير إلى أن نسبة هؤلاء الشباب الذين يستطيعون الحصول على شهادة مدرسية أساسية قبل سن 18 تخول لهم ولوج سوق العمل، لا تتعدى 43 بالمائة، أي أن الفشل المدرسي لدى هؤلاء الشباب يصل إلى أكثر من النصف!! هذا دون الطمع في الحديث عن نسبتهم من الذين يستطيعون دخول مؤسسات جامعية أو معاهد ذات تكرين عال. وواقع الحال يقول إن قرابة 60 بالمائة من أطفال المهاجرين يخرجون من العملية التعليمية وعلى مدار سنوات “خاويي الوفاض” وكل الذي يستطيعون فعله هو البحث عن فرص عمل مزرية يترفع عنها حتى أبناء جاليات حديثة العهد بالهجرة. هذه الصورة التي “يجرها” المغربي معه جرا، بوعي أم لا، تفرض طرح السؤال، لماذا تلتصق هذه الصورة بالمغاربة على الأقل في جانب ضعف مستوى التعليم والتكوين بينهم؟ ليس من هدف هذه الورقة الحديث عن مسببات مثل هذه الوضعية لكن يمكن الإشارة إليها بشكل مقتضب، عسى أن تتاح فرصة في المستقبل للتطرق لها باستفاضة. إن “الكوكتيل” الذي يؤدي لمثل هذه الوضعية راجع لظروف موضوعية مرتبطة بواقع الهجرة وذاتية اجتماعية وثقافية مرتبطة بالمهاجرين أنفسهم. هذه العوامل الذاتية مرتبطة أشد الارتباط بمستوى فهم الآباء (المهاجرون) لمتطلبات الأبناء وبشكل أساسي في حقل التعليم والتكوين. فالأبناء يعانون من عدم القدرة على الخروج من جلباب ثقافة تقليدية صاحبت المهاجرين الأوائل والتي تعتبر التعليم، لدى فئات كبيرة منهم، مجرد مضيعة للوقت وأن الأهم هي عدد الأيدي التي تعمل، وبالتالي المداخيل التي يتحصل عليها. وهذا الفهم السيئ لدور التعليم والتكوين يتجلى في إهمال متطلبات الطفل في مراحل التعليم الأساسية بشكل خاص ولامبالاة الآباء لغياب أبنائهم أو لشكاوى المدرسة، بل والأدهى هو تشجيع أبناءهم على البحث عن عمل في وقت مبكر دون الحصول على مؤهل. إن هذه العقلية نفسها هي التي تعتبر أن الطفل الذي يستطيع بالكاد أن يكتب اسمه بالعربية يستحق أن يحتفى به، لكن الأمر ليس مهما لو كان نفس هذا الطفل يتحصل أسوء العلامات في المدرسة الرسمية! كما انه يمكن الذهاب للعطلة نحو المغرب حتى ولو كان على هذا الطفل أن يواجه المساءلة قانونيا لأن أبواه لم يلتزما بإنهاء برنامج المدرسة وحتى حضور الامتحانات في بعض الأحيان، حتى أن شرطة المطارات كانت تطلب تقديم رخصة المدرسة قبل ركوب الطائرات!! وعلى مستوى بعض الأسباب الموضوعية، فإن علاقة الفقر بمستوى التعليم لا يمكن أن يكون مشجبا لتبرير مثل هذه الأخطاء الجسيمة. فحتى في هذا الخضم يوجد مهاجرون في نفس الوضعية السوسيو اقتصادية، لكنهم استطاعوا تقديم فرص أفضل لأبنائهم وبالتالي تمكن هؤلاء من الوصول لمراكز اجتماعية جيدة جدا. لكن كما يقال.. فلكل قاعدة استثناء! أما قضية العنصرية والتمييز في الفرص فهي مقولة صحيحة وهو واقع لا يمكن القفز عنه. فالمدارس التي يرتادها المغاربة هي في الغالب الأعم تلك التي لم تجد غير المهاجرين من يقبل بتسجيل أبنائهم بها. ومستوى هذه المدارس دال على مستوى البلديات التي ينتشر بها المهاجرون. ثم إن الممثلين السياسيين الذين يسيرون هذه البلديات يبدون وكأنهم سعداء بوجود من يصوت عليهم مقابل ترك ناخبيهم يفعلون ما يريدون ( حالة فيليب مورو رئيس بلدية مولن-بيك Molenbeek مجرد مثال). لكن ألا تتغذى هذه العنصرية من واقع الدائرة المغلقة التي يصنعها الآباء والأمهات لأطفالهم منذ الصغر؟ أليس من الضروري الاهتمام بالتعليم والتكوين كركيزة أساسية للتطور الاجتماعي وتحقيق اندماج إيجابي وفاعل وتدافعي؟ وإذا كان من الضروري تطوير مستوى التعليم فلماذا لا يتم التركيز على تجنب أي عائق أما تحقيق عائد حقيقي للعملية التعليمية؟ ..يتبع [email protected]