البطيوي: أوفقير قتل بالطائرات مضربين عن العمل في مناجم الفحم بجرادة قال إن وعيه السياسي بدأ يتشكل حينما رفع تلاميذ بالناظور شعارات مناوئة للنظام محمد أحداد في كراسي الاعتراف تجري العادة أن يسرد المحاور حياته منذ أن رأى نور الحياة الأول إلى نهاية مساره الحياتي، لكن محمد البطيوي، آثر أن يسير ضد هذا المنطق، ويشرع في بناء الأحداث بالطريقة التي يراها هو مفيدة للتاريخ المغربي، أي أنه اختار أن يبدأ بلحظة عودته إلى المغرب بعد 27 سنة من حياة المنفى الاضطراري تارة، والاختياري تارة أخرى. في بروكسيل، يتذكر البطيوي قصته مع الاعتقال والتعذيب البشع الذي تعرض له بمدينة وجدة، بعدما ورد اسمه إلى جانب طلبة آخرين في اللائحة السوداء للمشاركين في إضرابات «أحداث الكوميرة» سنة 1948، ويتوقف طويلا عند تجربة المنفى وقصة هروبه من المغرب وعلاقته بمومن الديوي، أحد أبرز معارضي نظام الحسن الثاني، ويعود، فوق ذلك، إلى تفاصيل تنشر لأول مرة حول التنسيق الذي كان يجري خارج المغرب للإطاحة بالحسن الثاني. - في بداية هذا الحوار الطويل، نريد أن نعرف بداياتك الأولى، ولادتك، نشأتك، عائلتك الصغيرة… أنا من مواليد دار الدريوش 23 يناير 1963، وعشت فيها إلى حدود السنة الرابعة، وبعدها حدث ما أسميه دائما نوعا من التراجيديا، حيث أصيب أخي عبد العزيز ذي ال 16 ربيعا بمرض السكري قبل أن يغتاله الموت في الستينيات من القرن الماضي بسبب غياب الأنسولين وانعدام وسائل العلاج وقتها. أصبحت المدينة بالنسبة لوالدي، الذي كان يشتغل في قطاع العدالة منذ 1950، رديفة للموت والسواد ولكل ما هو سيء، لم يعد يحتمل الألم الذي خلفه موت أخي، الشيء الذي أدى به إلى اتخاذ قرار صعب، هو تغيير مكان السكنى. مازلت أتذكر ذلك وكأنه حدث أمس، كانت بقربنا سينما «كارمن» التي حاز فيلم اقتبس من قصتها على جوائز عديدة، وهي السينما التي كانت تذكر والدي دائما بموت ابنه، إذ لم يستطع طوال شهور أن يقاوم استبداد الذاكرة. - ما قصة «كارمن» التي أصبحت مشهورة جدا بعد الفيلم الذي أنجز عن تاريخها بمنطقة الريف؟ كانت امرأة قصيرة تبيع أفلام الفيديو وتربطها علاقة طيبة جدا بسكان المنطقة، خاصة الأطفال الصغار، إذ كانت تهتم بهم كثيرا بالإضافة إلى أنها كانت المسؤولة عن كل القاعات السينمائية بمنطقة الشمال. أذكر أيضا أن ابنها الصغير «مانولو» كان يشتغل معها في السينما بتبادل الأدوار في كل مرة، وفي حال مرض «مانولو» كان خاله هو الذي يساعد «كارمن» في السينما. إنها حقا جزء من ذاكرتنا الجماعية. - قلت إن والدك لم يستطع مقاومة الألم الناتج عن وفاة أخيك، أين استقر بكم المقام بعد رحيلكم عن مدينة الدريوش؟ إذن في سنة 1966، قرر والدي أن يرحل عن مدينة الدريوش بعدما عجز عن تحمل الآلام التي صاحبت موت أخي حينها، واستقر به الرأي أن يرحل بمعية عائلتي إلى مدينة جرادة بعدما تدبر أمر انتقاله من محكمة الدريوش إلى محكمة جرادة ككاتب للضبط، وكما تعلمون فإن جرادة كانت معروفة بمناجم الفحم الحجري. والذي لا يعرفه كثير من الناس عني، أن أبي سجلني في مدرسة قرآنية، وحفظت ما يقرب من 45 حزبا. في تلك الفترة، تزامن وجودنا في جرادة، المحسوبة على المدن الشرقية، مع اشتعال إضرابات عنيفة من طرف العمال وشلت هاته المناجم بطريقة كلية، مما أفضى إلى استعمال القوة المفرطة والقمع في حق المضربين. كنت أبلغ من العمر وقتئذ أربع سنوات، لكن مشاهد القمع أتذكرها جيدا. - ما الذي قامت به قوات الأمن تحديدا؟ لا أعلم لم جيء بكل تلك القوة الهائلة إلى جرادة من مختلف الأجهزة الأمنية، رغم أن عدد العمال كان ضئيلا، عنف المضربون بالعصي والهراوات وصوب رجال الأمن الرصاص في اتجاه المضربين بطريقة بشعة، لكن الأمر الأقسى الذي لن أنساه أبدا هو الطريقة التي كانت تقنص بها مروحيات تابعة للأمن المضربين عن طريق استعمال الرصاص الحي، ولا تنس أن هاته الأحداث تزامنت مع المرحلة التي كان فيها أوفقير يتحكم في كل شيء ويقتل الناس بوحشية بالغة. فما فعله في جرادة من تقتيل بشع لمضربين كانوا يطالبون فقط بتحسين ظروف العمل، قام به في الريف قبل أربع سنوات، حينما دك الريف وقتل المئات من سكان المنطقة ببرودة دم بالغة. توالت الإضرابات في جرادة وصار القمع أكثر فتكا وأكثر بشاعة، وفي سنة 1970 قرر والدي أن يرحل عن مدينة جرادة في اتجاه ازغنغان، ومن غريب الصدف أن موعد الرحيل تزامن مع يوم تنظيم جنازة جمال عبد الناصر. كان يوما حزينا بكل ما تحمله كلمة حزن من شحنات عاطفية، لأننا كنا نحب عبد الناصر كثيرا، ووالدتي كانت تحبه أكثر مما تتصورون. في الصباح الذي سبق موعد رحيلنا عن جرادة، زرت أصدقائي في المدرسة الابتدائية وألفيتهم في حالة عصيبة بعد انتشار خبر موت عبد الناصر، الشيء الذي حذا بنا إلى القيام بتحية العلم مع دقيقة صمت إكراما لروح الرجل. سيطر الحزن علي يومها، فأن تتقبل خبر الرحيل عن المدينة مع كل ما راكمته من ذكريات الطفولة هناك، ومع رحيل رجل كنا نعتبره رمزا حقيقيا، أمر صعب جدا. في سنة 1970 التحقنا بمدينة ازغنغان، وسكنا في بيت إحدى الشخصيات المشهورة بالمنطقة، وهو الفنوع، الذي كان من الأوائل الذين منح لهم الملك الراحل محمد الخامس رخصة الحافلات. كان الهم الوحيد لوالدي أن يوفر لنا كل الشروط المناسبة لإتمام مسارنا الدراسي، لم يكن يهمه أن نحصل على وظيفة بقدر ما كان يحثنا على التحصيل وعلى امتلاك ناصية المعرفة، في هذا الصدد، التحقت بمدينة الناظور، لأتابع دراستي بابتدائية الإمام مالك ثم بثانوية عبد الكريم الخطابي. من سنة 1975 إلى سنة 1982، درست بثانوية عبد الكريم الخطابي، وهناك بدأت تتشكل أولى ملامح وعيي السياسي، لكن قبل ذلك، أتذكر أن أبي لم يكن يحبذ النقاشات السياسية كثيرا داخل المنزل، بيد أنه بعد المحاولتين الانقلابيتين بدأنا نناقش بعض القضايا، وعرفت من والدي أن المخزن له تاريخ أسود بالريف، وحكى لي أن الجيش اغتصب النساء وقتل الأهالي بدم بارد، وحكى لي كذلك عن قائد الثورة محمد الحاج سلام أمزيان، الذي واجه بطش المخزن آنذاك. - إذن التحقت بالإعدادية الثانوية محمد بن عبد الكريم الخطابي، ولاشك أن الملامح الأولى لوعيك السياسي بدأت تتشكل وقتها، لاسيما وأن هاته الظرفية تزامنت مع انتشار الأفكار اليسارية واشتداد الصراع بين المخزن واليسار.. قبل المرحلة الإعدادية، شهدت الناظور ما أصبحنا نطلق عليه بأحداث الكندي، والكندي هو اسم لإعدادية مشهورة بالمدينة. في سنة 1973 تحديدا، خرج التلاميذ للاحتجاج ورشقوا الابتدائية بالحجارة وحملوا شعارات قوية ضد النظام حينذاك، كنت أسمع لأول مرة مثل تلك الشعارات القوية. تدخلت قوات الأمن بقوة ضد التلاميذ وقادت حملة اعتقالات واسعة في صفوفهم، واستخدمت العنف بطريقة عنيفة. في المرحلة الإعدادية، بدأت أحضر لندوات ومحاضرات يؤطرها مناضلون من التقدم والاشتراكية يتقدمهم صلو وأغودا، أو من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومع توالي الأيام، تشبعت بالأفكار الاشتراكية بفعل التكرار، ولا شيء آخر، وهكذا صرت أعرف لينين وإنجلز وماركس. تعليق