بوطيب عبدالسلام، رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية و السلم. أثارت طبيعة ضيوف المهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة الذي استضافته مدينة الناضور المتوسطية، و المواضيع التي تمت مناقشتها على هامش الموضوع المحوري – " أسئلة المتوسط" – جدلا كبيرا، و متابعة صحفية محلية و وطنية ودولية قل نظيرها،مما عكس أهمية الحدث و قيمته السياسية والحقوقية والعلمية. و انقسم المتتبعون له – من مختلف المواقع والأطياف – بين مدين له- أي للمهرجان – و قادته و ضيوفه، متهما اياهم باتهامات عدة، أقلها خطورة، التشجيع على التطبيع مع اسرائيل ، و بين مستحب للفكرة، و متحفظ عنها بسبب مجيئها في غير وقتها ،و مشجع لها و محبذ لاستمراره- أي المهرجان- بنفس النفس، و الجرأة ،و الشجاعة في طرح الأفكار و البحث عن امكانيات وصيغ التقاء المختلفين – بشكل غير رسمي- لبحث قضاياهم العالقة و المساهمة في ايجاد حلول لها .و قد عرف هذا اللقاء الدولي تعبير عن مواقف متباعدة جدا، و تضارب كبيرفي التقييم و التفاعل : - محليا،حاول بعض المحليين افشال الحفل الافتتاحي احتجاجا على حضور اسبانيين من " مناصري" اطروحة جبهة البوليزاريو. و الحال أن واحدا من المحتجين عليه حضر الى المهرجان منذ دورته الاولي ، و نال جائزة الجمهور في الدورة الاولى عن فلمه " في الضفة الاخرى من الذاكرة"، وسمح له ذلك أن يكون عضوا في لجنة تحكيم الدورة الثانية بجانب من احتج عليه في الدورة الثالثة. و بجانب هؤلاء احتج كثير من أشباه الصحفيين ممن يشتغلون في المواقع الالكترونية المحلية – التي تجاوز عددها الخمسون بكثير- على الجهة المنظمة التى لم تقبل عروضهم الخيالية لتغطية الحدث ، و تعاملت مع جهات مهنية دوليا و وطنيا و محليا تحترم المهنة و أخلاقياتها. ورغم ذلك نجح هؤلاء في ابتزازهم للجهة المنظمة أمام سكوت من كان يجب أن يتدخل لردعهم. - وطنيا: أصدرت جمعيات عروبية قومجية – يكاد أن تسقطها توجهها العروبي القومجي في عنصرية ممقوتة – بلاغا تدين تواجد " صهاينة" ضمن الحاضرين. وقد ركز هؤلاء على تواجد المغربي – الاسرائيلي – الفرنسي سيمون سكيرا، الذي عرج على البيضاء للترحم على والديه قبل الالتحاق بالمهرجان باعتباره مخرج لفلم فرنسي – مغربي شارك في منافسات الدورة. و الحال أن لا أحد يمكن أن ينزع على أي مغربي – مهما كانت ديانته أو جنسيته الأولى و الثانية- انتمائه للوطن الا البعثيين الجدد. - احتج بعض " التقدميين" الأسبان على عرض فلم " في ضلال الصليب" و اعتبروا الامر تمجيدا و تقربا الى اليمين الاسباني ، و تشويها لتاريخ اسبانيا، و اتهموا مخرج الفلم بأنه تلقى تمويلا من جهات يمينية متطرفة اسبانية لتمرير خطاب الكنيسة، و الحال أن المتتبع الذكي للفلم المذكور سيخرج بنتيجة مغايرة لما ذهب اليه هؤلاء "التقدميين" الأسبان وهي نفس الخلفية التي تحكمت في من برمج الفلم من قيادة مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية و السلم، الذين أرادوا وضع التجربة الديمقراطية الاسبانية على المحك ، خاصة بعد ظهور وثائق جديدة عن مرحلة الانتقال الديمقراطي. – احتج كثير من المتتبعين على عرض افلام تنتقد التجربة التركية ،خاصة فلم "الشاحنة الزرقاء"، وفسروا ذلك بأنه استهداف لتجربة حكم العدالة و التنمية التركي ، و أخاه في الرضاعة ، الحزب الحاكم محليا، باعتبار أن القائم الاول على هذا المهرجان- كاتب هذه السطور – ينتمى الى حزب في مواجهة "قتالية" مع حزب العدالة و التنمية، و الحال أن قيادة المركز تعج بالمنتمين الى مختلف الاحزاب السياسية المغربية. – احتج الاخوة التونسيون و المصريون و كثيرا من القوميين المغاربة على تواجد أكاديمي فرنسي- اسرائيلي ضمن المتدخلين في ندوة " أسئلة المتوسط" ، و الذي دعي الى ضرورة تطبيع العلاقة العربية الاسرائيلية راهنا، مشيدا "بالتجربة الديمقراطية" الاسرائيلية التي يمكن أن تكون نموذجا لبعض الدول العربية .و الحال أن الامر لم يكن يحتاج الى احتجاج بقدرما كان يحتاج الى التذكير أن الدولة الديمقراطية الحقيقية هي تلك التي تمارس الديمقراطية داخليا وخارجيا و تعمل على اعلاء حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا. – احتج الاصدقاء في حزب الاتحاد الاشتراكي ، ومعهم كافة الديمقراطيين المغاربة بمن فيهم كاتب هذه السطور ، على نفس الاكاديمي ؛ حينما حاول مس بعض رموز النضال الديمقراطي ببلادنا، واصفا اياهم بمحبي اسرئيل ، و بمن كانوا يتلقون تمويلا من الدولة و المخابرات الاسرائلية، ملوحا بوثائق تاريخية في الموضوع، و مذكرا بمهنته و تخصصه ، ( مؤرخ متخصص في العلاقات السرية المغربية الاسرائيلية). والحال أن مجلة مغربية ناطقة بالفرنسية سبق لها طرح الموضوع بصيغة أخرى ولم يحتج عليها الا قلة . – كذب أشباه الصحفيين ،من قناصي الوشايات، خاصة المحليين منهم على،على المؤرخ الفرنسي – الاسرائيلي بنون ييغال السابق الذكر، و ألصقوا به "تهمة" القول بان المرحوم الحسن الثاني باع اليهود للدولة الاسرائيلية، و الحقيقة أنه قال – و على مسمعي و مسمع كبار الشخصيات المتوسطية التي كانت تقتسم معه المنصة ، أن الملك الراحل طالب بالتعويض عن الفراغ الاداري الذي تركته هجرة اليهود، خاصة و أنه كان قد صار على درب أبيه في اعطاء اليهود ما يستحقونه من المناصب في وطنهم الام ، و خلفية هذه الوشاية الكاذبة النيل من شجاعة القائمين على المركز الذين فتحوا هذا المجال الصغير أمام المختلفين بحثا عن رحمة التقارب. - قبل بداية المهرجان، احتج أعضاء من لجنة الدعم من ذوي التوجه السياسي الديني العرقي – في غياب " الديمقراطيين الحداثيين " عن اشغال اللجنة ، على تواجد كمال هشكار، المتهم بالتطبيع مع اسرائيل من خلال مواقفه المعلنة و فلمه " تنغير جيروزاليم ، أصداء الملاح" و – الذي لم يشر اليه بالاسم بل بحداثة تعاطيه مع عالم السينما الوثائقية – في لجنة التحكيم،و على اعطاء الجائزة الكبرى اسما "اسبانيا" أي " مار تشيكا"، و على تواجد افلام فلسطينية- اسرائيلية ضمن البرنامج الاولي المقترح من لدن الجهة المنظمة للمهرجان، و قد كلفت هذه الملاحظات ، و أخرى التي تحكمت فيها نفس الخلفيات، المنظمين قيمة المنحة التي كانت سوف تقدمها لهم لجنة دعم المهرجانات السينمائية ببلادنا، و الممولة من المال العام. و بالرغم من اختلاف طبيعة الاحتجاجات ، و أهدافها الباطنة و المعلنة ، حيث تنوعت بين رفع الشعارات و اصدار البيانات النارية كما هو حال النسيج المدني المناهض لتواجد اسبان "مناصرين" لأطروحة الجزائر في قضيتنا الوطنية ، و مناصريهم من "صحفيي" المواقع الالكترونية المحلية .الى التهديد بمغادرة المهرجان – خوفا على أرواحهم من الاصوليين التونسيين – كما هو حال الاصدقاء النونسيين . و المطالبة من الضيف الفرنسي – الاسرائيلي مغادرة المهرجان أو المكوث في الفندق كما طالب بذلك المغاربة– الذين مسوا في قياداتهم التاريخية – و المصريين و الجزائريين و بعض التونسيين بالاضافة الى بعض الفرنسيين و بعض الضيوف من أمريكا اللاتينية. كما توزعت حلول ادارة المهرجان بين اعادة التأكيد على مغربية الصحراء و المطالبة بأن لا يكون موضوع مزايدة سياسية على المهرجان و منظميه،المعروفين تاريخيا بموافقهم الوحدوية، و الدخول في نقاشات ماراطونية الى حدود الصباح ليوميين متتالين للاتفاق على صيغة بيان يجنب المهرجان انسحاب بعض ضيوفه ،خاصة من العرب الذين ما زالوا يخلطون بين اليهودية كدين و الصهيونية كايديولوجية عنصرية استعمارية، لان ذلك يشكل خطرا – ليس على المهرجان في حد ذاته فقط بل على مشروع مركز الذاكرة المشتركة من اجل الديمقراطية و السلم برمته الرامي الى بناء علاقات انسانية بين المختلفين من خلق الله ليجدوا نقطة لقاء سنوي يناقشون فيها اختلافاتهم، و يقيمون أعمالهم الرامية الى السلم و العدل ونشر ثقافة حقوق الانسان. كما لم يكن سهلا اقناع الضيوف الاسبان و الاتراك و مناصري التجربة التركية من سدادة اختيار افلام الدورة ، التي كان هدفها اثارة ذات النقاش الذي " اندلع" في عز المهرجان . و هو نقاش صحي و ضروري كي لا يسقط الناس في عبادة التجارب و تسويقها ببلاهة . ورغم كل هذه الاحتجاجات و المناوشات ، بعضها بخلفية سياسية – ايديولوجية واضحة- ، و بعضها الاخر بخلفيات صراعات جهوية، و بعضها الثالث بخلفيات صراع محلي متعدد الخلفيات و الاهداف ، و رابعها بخلفيات بئيسة مرتبطة بضرورة اعادة النظر في تطور الإعلام الالكتروني المحلي و الوطني الذي سقط في أيادي من لم يكن مستعدا مهنيا و أخلاقيا للاشتغال فيه ، نجحت الدورة بامتياز، و توزعت الجوائز على فائزين من المغرب ، و تركيا ، وفرنسا،و اليونان و مصر، و لا أحد طعن في نزاهة لجن التحكيم و لا في سدادة قراراتها . ما المشكل في الاصل،هل دور المركز اشعال النيران و اطفائها ؟؟؟؟ لا أبدا، و لا وقت لدينا لذلك، تتعدد المهرجانات السينمائية السياسية – الحقوقية في العالم و تختلف، إلا أن للمهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة خصوصية وحيدة تتطلب من المتفاعل معه – بالاضافة الى تكوين سينمائي رصين – تكوينا معينا في اليحث التاريخي ، و قدرة للتمييز بين التاريخ و الذاكرة ،و تفقها في القانون الدولي ،و القانون الدولي الانساني و الديمقراطية و ثقافتها ، ناهيك عن التشبع بقيم حقوق الانسان و ثقافتها و مناصرة التنوع و حماية الاختلاف ، و الايمان بالحق في المعتقد و حقوق الشعوب الاصلية في التعبير عن نفسها و ثقافتها ، بالإضافة الى الوعي التام بضرورة المساهمة في خلق مجالات متعدد للمختلفين قصد التعبير عن اختلافاتهم و البحث عن صيغ تقريب المسافات بينهم ، ذلك أن المساحة التي يوفرها مركز الذاكرة المشتركة من اجل الديمقراطية و السلم – الذي استفاد من التطور الايجابي للمغرب على المستوى الحقوقي و السياسي- هي تجربة وحيدة في المحيط المتوسطى و العالم و تتطلب كثيرا من الذكاء و الشجاعة و الدعم الرسمي و الشعبي .و هي الشجاعة و الكفاءة التي استمدها القائمون على التجربة من تفاعلهم مع تجربة هيئة الانصاف و المصالحة ، التي كانت ستكون تجربة قوية لولا رياح ما يعرف " بالربيع العربي" السيء الذكر. هل نجح المركز الذي كرم تجارب الانتقال الديمقراطي المتوسطي و من بينها تجربة هيئة الانصاف و المصالحة في الجلسة الافتتاحية في هذا الامتحان العسير ؟ للإجابة على السؤال من الضرورى استحضار الدوافع التي من أجلها أسس المركز و الاهداف التي وضعها نصب أعينه لتحقيقها. فالمركز جمعية متخصصة في الاشتغال علي قضايا الذاكرة المشتركة للمغاربة مع مكونات محيطهم الجغرافي والسياسي في أبعدها الحقوقية والسياسية و التنموية كموضوع. وبالقضايا المرتبطة بالذاكرة والذاكرة المشتركة كمعرفة ومجال اختصاص. ومن أهدافها : القيام بأنشطة البحث والدراسة و التناظر حول الذاكرة المشتركة في أبعادها الحقوقية والسياسية والتنموية؛وبلورة خطة منهجية لمعالجة القضايا المرتبطة بالذاكرة المشتركة مستلهمة من منهجية العدالة الانتقالية كما بلورتها المنظمات الدولية. مقاربة المصالح المشتركة والقضايا المرتبطة بالذاكرة والذاكرة المشتركة للبلدان موضوع اشتغال المركز بما يساعدها على بناء مستقبل لتعايش إنساني جديد يقوم على العلاقات الندية والاحترام المتبادل والتعاضد. العمل على ترسيخ وتنمية قيم التضامن والتفاهم بين بلدان موضوع اشتغال المركز من أجل صون السلم، وتقوية الصداقة بين الأمم، والشعوب الأصلية، والمجموعات العرقية والقومية والإثنية والدينية واللغوية. اذا هل نجح المركز خلال هذه الدورة في تحقيق بعض أهدافه ؟ نعم . و الخاسرون هم من سجن نفسه في طابور المرددين لشعارات لا أحد يكفر بمحتواها، أو حراس " المعبد القومي العربي" الذي لم يعد يعنى أي شئ لنا نحن المهووسون بخلق فضاءات الاختلاف من أجل بناء المشترك، و أكبر الخاسرين هم من لم يعرف بعد أننا نعيش في مغرب ما بعد هيئة الانصاف و المصالحة بالرغم من محاولاتهم طمس هذه التجربة التي أنقذت المغرب من براثين ربيع قروسطي. قدري العيش في أجواء الاختلاف: أنا هنا في مدريد منذ أربعة أيام في ضيافة "مؤسسة كارسون بالتسار للعدالة الدولية " من قيمة ضيف كبير، وذلك بحضور جل الشخصيات الحقوقية في العالم ، و الوجوه المرتبطة بقضايا العدالة الانتقالية، و عدم الافلات من العقاب، و القانون الدولي، و القانون الدولي الانساني، و المؤسسات الحقوقية الوسيطة ، و كبار موضفى الاممالمتحدة ، وقد ناقشنا طيلة أسبوع صيغ اعمال العدالة الدولية في القضايا التي تشغل بال العالمين، لكن الملاحظ أن مداخلات جل الاسبان – الحقوقيين منهم و المنتمين سياسيا الى فصائل اليسار برمتهم – سرعان ما سرقتهم الاضواء وانحرفوا عن خطابهم الحقوقي وغرقوا في خطاب سياسي خاصة عندما تعلق الامر "بقضية الصحراء الغربية" ، فبالرغم من أنني قدمت جردا كاملا لجرائم "جبهة البوليزاريو" و طالبت مرارا بالتعاطي مع الامر من زاوية نظر حقوقية ، فلم أنجح في ذلك خلال الجلسات العامة ، لكن بصيص الامل كان يبدو لي في الجلسات الخاصة مع أصدقائي الاسبان من الحقوقيين و السياسيين اليساريين ، لذا أعتقد أن علينا نحن الحقوقيين المغاربة أن نضع اليد مع يساريينا المؤمنين بعدالة قضية وحدتنا الترابية ، لفتح نقاش عميق مع الاصدقاء الاسبان في ملف وحدتنا الترابية ، ومدخل هذا الحوار في اعتقادي – في المرحلة الاولي – اقناعهم بأن جبهة البوليزاريو تستغل استغلالا بشعا مفهوم حق تقرير مصير الشعوب في نزاع عمقه صراع بين دولتين، و بضرورة الفصل بين التعاطي الحقوقي و التعاطي السياسي مع هذه القضية ، اذا نجحنا في الامر فباقي الاشياء تفاصيل سنتغلب عليها حتما لفائدة قضيتنا . ما أحوجنا الى فضاءات الاختلاف الحر و العقلاني من أجل البحث عن حلول عميقة لمشاكلنا العالقة. انتهي تعليق