أن يزيح بعضهم أعينهم بعيدا عن مشهد أو واقعة “فاحشة” لأي دافع كان أمر وحق مؤكد للفرد، لكن أن يبلغ الأمر بالبعض الى مستوى اعتبار كل الحركات والسكنات التي تصدر عن باقي الأفراد فواحش وإخلالا بالحياء العام يشير إلى مستوى موغل من الشذوذ يجرد الإنسان من كل أحاسيسه الجميلة وعواطفه الجياشة التي تمده بالأمل وتساعده على الحلم، تلك الأحاسيس التي يحق له أن يحياها وقتما شاء وأينما شاء ودون انتقاص، لحظات رقي إنساني يصعب على من وضع عصابات على عينه وعقله أن يتمثلها ويدركها، أو بالأحرى أن يعيشها من ينظر إلى العالم من خلف السواد، فتنمحي في عينيه الألوان ولا يرى العالم وما حوله إلا متشحا بالسواد، إن ما حدث يوم الخميس 10 يناير الجاري على متن الطائرة المصرية المتجهة من القاهرة نحو الدارالبيضاء، حين ثار زمرة من “ثوارنا البواسل” احتجاجا على قبلة “فاحشة” عرضية في أحد الأفلام المعروضة على شاشات التلفاز الخاصة بالطائرة، إلى حد تعريض حياة المسافرين الأخرين للخطر بسبب رفض طاقم الطائرة الإذعان لمطلبهم بتغيير الفيلم كما جاء في مقال للمفكر المصري سعد الدين إبراهيم الحاضر في نفس الطائرة تحت عنوان: القُبلة التى كادت تودى بحياة مئة راكب بسبب متشددين مغاربة1، نشر بجريدة التحرير الاليكترونية بتاريخ 25/1/2013، لا يهم من قام بالأمر ولا صفاتهم ومواقعهم بقدر ما يهم فهم الحدث والخلفية التي أنتجته، فالحدث في ذاته الى جانب اخرى تعتبر مؤشرات أولية لبروز اتجاهات اجتماعية ذات أساس ثقافي وديني مؤسسة على قراءة متطرفة للدين تنزع إلى فرض قراءة أحادية دون غيرها، وتكريس منظومة قيم خاصة لا تحضى بالإجماع من لدن كل مكونات المجتمع وبعيدة كل البعد عن الفكر المتنور والمنفتح على القيم الإنسانية الكونية، إن الحدث، رغم بساطته وقلة الاضرار التي نجمت عنه للطف الاقدار وحسن تصرف الطاقم في تدبير الازمة المفتعلة بسبب قبلة الرجل العنكبوت، يستحث فينا التفكير والنظر في ما يقع ربما في غفلة عنا، حيث ان الامر يستدعي تجاوز اعتبار الحادث وما وقع حدثا عرضيا أو سلوكا معزولا ( وهنا من المهم تذكر مجموعة من الأحداث المشابهة: لجان عين اللوح، الهجوم على الممثلة لطيفة أحرار، مسرحية ديالي، فتاوي عبد الله نهاري، فيلم “تنغير جيروزاليم”….). الحدث مناسبة للتساؤل هل ثواني القبلة تستحق كل هذا اللغو والضجة؟ ما هي المعايير التي تحدد معنى الحياء العام وما هو مستوى الخدش الذي ألحقته به تلك القبلة؟ ومن له السلطة في وضع تلك المعايير وإقامة آليات الرقابة والردع؟ إن التطاول المقصود والمدعوم من جهات وأطراف سياسية بعينها مستغلة الدين، أصبح يطال الفضاء العام وتمتد رقعته لتشمل مجالات عديدة كالسياسة، الثقافة، الفن، … في ما يشبه موجة من التطرف والغلو صارت تكتسح المجتمع رويدا رويدا، وفي غياب الدولة ومؤسساتها لضمان وحماية الحريات والحقوق للجميع وعلى قدم المساواة، يدعونا الى التساؤل عن مستقبل البلاد والعباد: هل سنجلد أو لما لا نصلب كل ممثل أو ممثلة تقدم على تصوير أو تجسيد مشهد يخدش الحياء العام؟ هل سنحرق كل دواوين نزار قباني و أبي نواس…؟ هل سنقطع أيادي كل الفنانين(ات) الذين يجرؤون على رسم جسد عاري؟ إن ما حدث على الطائرة ويأخذ اشكال اخرى في حياتنا اليومية، يفصح عن تنامي فكر متطرف وشاذ، ينم عن فهم سطحي للفن بكل أشكاله وجهل بوظائفه الاجتماعية في التغيير والتربية والسمو بالكائن البشري في زمن سيطر عليه قيم السوق السلعي باعتباره آلية من اليات المواجهة منظومة قيم التبادل الرأسمالية، إن السلوكات والممارسات من هذا النوع تعبر بصدق عن قصر النظر إذ يحصرون زاوية نظرهم على السينما والفن ككل في شكليات ويفرغونه من محتواه الحقيقي، فيركزون على الجانب الإيروتيكي في القبلة، الجسد، الرقصة أو العمل الفني ككل بغض النظر عن الرسالة أو القيمة الجمالية التي يمثلها ذلك العمل، وهنا لا يختلفون عن صانعي الفيلم ذاته، الذين يخضعون الفن لهيمنة الفكر السلعي الذي يدمر العقل ويكرس الاستلاب بسعيهم الى تقنين كل مظاهر الحياة بما فيه وضع معايير تقيد الفن وتقتل الطابع الابداعي للحد من امكانيات الخلق الفني وتعطيل وظائف الفن الاجتماعية، فالأعمال الفنية السائدة والرائجة لا ترقى في مجملها بالخلق والإبداع الفني، بل تعمل على تسويق أفكار تسعى الى نشر الفكر الاستهلاكي وتدمير الدفاعات الانسانية التي تقاومها، ومنتوجات فنية تقضي على استقلالية الفرد وحريته، بشكل يتنافى مع طبيعة الفن، باعتباره الحل والملاذ للإنسان للخلاص بعد تراجع أدوار الثقافة والدين نتيجة التحكم فيها من طرف القوى السائدة، اذن فقد كان من الاجدى توجيه النقد من زاوية أخرى تسمو بالفن وعبره القيم الجمالة والدينية والروحية والحسية التي كانت موضوع احتواء وتغييب من طرف مؤسسات التسليع والتشويش على حق الإنسان في الإحساس و حقه في السعادة والحلم.