في الحاجة إلى النبش في الذاكرة يعتقد انه يصعب على المرء تذكير تفاصيل مرحلة من مراحل حياة الإنسان، و خاصة عندما يكون قد مر ما يقارب 20 سنة من وقوعها، لكن بمجرد أن نأخذ قلما و ورقة، أو بالأحرى الجلوس أمام الحاسوب، و نستحضر أحداثا عشناها أو ساهمنا في صنعها بدمنا و عقولنا و روحنا، نجد أن الامتحان ليس صعب الاجتياز عندما تحظر الإرادة لتحريك ذاكرتنا الجماعية للرجوع قليلا إلى الوراء وفاء و إخلاصا للشهداء الذين سقطوا رميا بالرصاص و وفاء لذلك الجيل المليء بالحيوية، فإننا سنجد بالتا كيد بعض من تفاصيل تلك المرحلة لازالت موشومة في أجسادنا و عقولنا و لن و لم يمحوها الزمن أبدا. صحيح إن تدوين بعض الأحداث التاريخية قد تتطلب أحيانا مجهودا لاباس به، لكن ما دمنا واعون بان الأجيال الجديدة التي تسمع من هنا و هناك عن أحداث انتفاضة 1984، فإنها بالتأكيد ستكون متشوقة لمعرفة تفاصيل تلك الأحداث: كيف و متى و أين و من و لماذا ؟ إنني ابدي هذه الشهادة للقراء و المهتمين و المناضلين إيمانا منا بضرورة تدوين ذاكرتنا الجماعية و متمنيا بان تكون شهادتي هذه بداية لإبداء شهادات أخرى مكملة لها. من خلال هذه الشهادة اسمح لنفسي ذكر بعض الأسماء الذين ساهموا بإخلاصهم في صنع تلك الأحداث، و عليه اعتذر لكل من أراد أن اذكر اسمه و نسيته، كما اعتذر تماما للذين يفضلون عدم ذكر أسمائهم و فعلت. احيي كل من صنعوا التاريخ بعد 19 سنة مضت، كما احيي كل الذين يشتغلون على هذا الموضوع من منظمات حقوقية و مدنية بحثا منها عن الحقيقة و إيمانا منها بضرورة تنوير أبناء الريف و كل المغرب حول تفاصيل هذه الانتفاضة المجيدة. قبيل الانتفاضة التحقت بثانوية أبي يعقوب البادسي في الموسم الدراسي 81/1982، قادما إليها من إعدادية الحسن الثاني بتاركيست. وجدت كل الأجواء متوفرة للاندماج في أجواء النضال و الانخراط في حركة تلاميذية منظمة و مناضلة و مهيبة. نقاش و تواصل و تعاون و تآزر هي خصال التلاميذ الريفيين. نقاشات تفوق مستوانا كتلاميذ السنة الخامسة ثانوي. أفكار ماركس و لينين و غيفارا و الاشتراكية العلمية تتطاير من كل أفواه تلامذة ثانوية البادسي حتى أضحت جزءا من قوتنا اليومي ل. ازدحام قوي للتلاميذ – من كل الشعب – من اجل متابعة دروس الفلسفة لأستاذ للفلسفة و هو ريفي الأصل و متمكن (نسيت اسمه). هذه السنة (81/1982) لم تشهد الحسيمة معارك ضخمة، إلا بعض إضرابات الأقسام الداخلية سواء في الإمام مالك (المعهد الديني) و البادسي. موسم 82- 1983 سنة تنظيم الصفوف بامتياز، و خوض الإضرابات بكل أبعادها الثقافية و الخبزية و السياسية. كل الإضرابات المتفق حولها كانت تنجح رغم الحصار و القمع، نضرا لصدق و تضامن تلامذة البادسي و التنظيم المحكم لتحركاتهم (على الأقل على المستوى الزمان و المكان). لقد كانت ابرز المظاهرات لهذه السنة 82- 83 ، تلك المظاهرات التي نظمت ضد رسوا بواخر من الأسطول السادس الأمريكي في ميناء الحسية. ابرز ما كنت أتذكره في هذه المعركة و نحن معتصمون بساحة ثانوية البادسي هو خطاب عامل إقليمالحسيمة آنذاك الذي التحق بالمعتصمين بساحة الثانوية ، مصحوبا بكبار المسئولين الأمنيين عندما خاطبنا قائلا “إن لديكم مطالب فانا مستعد لتدارسها، لكن إلى كان شي حاجا أخرى فروسكوم فلدي ما يكفي من القوة با ش انهرسكم واحدا واحدا”. رد عليه احد التلاميذ “باش بالعقل؟” و قال العامل ” شكون هذا لي تكلم. إلى عندك الشجاعة ابان”، لكن لا احد رد عليه و نحن جالسون جميعنا على الأرض. انعقاد القمة الإسلامية بالدارالبيضاء في يناير 1984. الأجواء العامة المحيطة انتفاضة 84 على مستوى المغرب تصاعد الأزمة الاقتصادية بسبب الانصياع الكلي للمغرب لتوجيهات صندوق الدولي “ف. أي. مي” الداعية إلى تقليص ميزانية القطاعات الغير المنتجة على رأسها الصحة و التعليم. الزيادة في الأسعار اذ شهد المغرب زيادات متتالية في الأسعار، و استمرار الاعتقال السياسي في صيغته الأكثر استبدادية. قمع انتفاضة 1981 بالدارالبيضاء بالحديد و النار استعملت فيها الدبابات و الطائرات المروحية و أن جروح تلك الانتفاضة كانت لم تندمل بعد. فرض الحظر العملي على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب و تطبيق الإصلاح الجامعي المشئوم و زرع الأجهزة الاستخباراتية علانية في الجامعات و المسماة من طرف الطلبة اختصارا ب”الاواكس”. عى المستوى الحسيمة مدينة مهمشة و محاصرة منذ انتفاضة 1958/1959. شلل اقتصادي كلي نظرا لغياب البنيات التحتية الضرورية (الطرقات و الموانئ و المعامل…). إغلاق معامل “صالاديرو” لتصبير الأسماك. بدايات إغلاق نادي البحر الأبيض المتوسط بأسواني (المحطة السياحية الوحيدة التي ظلت تربط الحسيمة كمدينة متوسطية بالخارج). لكن رغم كل ذلك، إلا أن سكان الحسيمة ضلوا متشبثين بالحياة. فرغم الحصار فان مدينة الحسيمة كانت تشهد نهضة ثقافية و فنية و سياسية منقطع النظير. جمعية البعث الثقافي لعبت هذه الجمعية الجادة آنذاك برئاسة الأستاذ عبد العالي لمعلمي و زميله الراقي دورا رائدا في التربية و التنشيط الثقافي و التواصل الشبابي. و كانت كل أنشطتها بلا استثناء تعرف نجاحات منقطعة النظير. من ابرز هذه الأنشطة التي حظرتها لهذه الجمعية هو الأسبوع الثقافي المنظم بدار الشباب أواخر الموسم الدراسي 82 – 1983، ساهمت فيها فرقة اتواتون و شعراء و معرض للصور لفنان تشكيلي من تطوان…الخ. مجموعة اتواتون الغنائية: ظاهرة غنائية حسيمية بامتياز، تميزت بكلماتها القوية المرتبطة بالأرض و الإنسان و التاريخ، وبلحن يستمد جذوره من الغناء الريفي الأصيل. كان التلاميذ يحفظون أغاني مجموعة اتواتون (المنسيون) عن دهر قلب، و يرددون أسماء أعضائها بكل افتخار (بوجمعة، اسبع، عزيز، عبد الحق …الخ). فبالإضافة إلى أغاني اتواتون، كان التلاميذ النشيطين يتبادلون بينهم تسجيلات لوليد ميمون و سعيد المغربي و قعبور و العاشقين و مارسيل خليفة و غيرها من الأغاني الملتزمة و خاصة الفلسطينية منها. النادي السينمائي كنت لست من هواة هذا النادي و لا منخرطا فيه (ربما كنت متخلفا من حيث هذا الجانب أو لم يوجهني أحدا إلى هذا النوع من الأنشطة)، لكن كانت تصلني أجواء النقاشات التي كانت تدور هناك بعد عرض الأشرطة. و علمت في السنوات الموالية، و أنا بمدينة طنجة باعتقال كل المكتب المسير للنادي السينمائي (الرفاق عيسى بويازيضن، احمد البلعيشي، جمال المحدالي و منعم الازرق…). إضرابات الأقسام الداخلية (الإمام مالك و البادسي) لحسن الحظ أنني عشت في الداخليتين معا (السنتين الأوليتين قضيتها في داخلية الإمام مالك و السنة الأخيرة بثانوية البادسي)، لسبب بسيط هو أن كل التلاميذ القادمين من تاركيست كانوا يوجهون إلى داخلية المعهد الديني(الإمام مالك)، نظرا للاكتظاظ الذي كان يعرفه القسم الداخلي بالبادسي. هذا التواجد مكنني بخلق علاقات مع التلاميذ النشيطين بثانوية الإمام مالك و إعدادية سيدي عابد و من بينهم على سبيل الذكر الرفيق إدريس السكاكي و الرفيق جمال الكتابي (هذا الأخير كان لا زال تلميذا بالسنة الرابعة إعدادي و له نصف القسم الداخلي فقط، و كان لا يحظر إلى القسم الداخلي إلا قليلا و خاصة في فترة الإضرابات أو التحضير لها). كان القسم الداخلي مدرسة حقيقة لتكوين شخصية الإنسان. نسجنا علاقات يصعب نسيانها و تبنينا أفكارا ستبقى موشومة في ذاكرتنا إلى الأبد. هناك أسماء و وجوها تركت بصماتها بين تلك الجدران لم اعرف بمصير العديد منهم منذ ذلك التاريخ، لكن يبقى أسماء كالمرابط الملقب ب “المفرع” ابن ثامركارث و عبد السلام بلخدة (أول مدافع عن الامازيغية و سط تلاميذة الحيسمة)، أسماء لا تنسى نضرا لبساطتهم و صدقهم و إنسانيتهم بالرغم انهم لم يكونوا من “قياد” الحركة التلاميذية آنذاك. عرفت هاتين الداخليتين عدة إضرابات من اجل تحسين الوضعية المعيشية للتلاميذ. إن لم أخطئ فان جل إن لم اقل كل الإضرابات تقيت نجاحات باهرة و ذلك في نضرى يرجع إلى قوة الحركة و خوف البعض من أن نسميهم ب “ايخواشن”، مما جعلا الحارسين العامين للداخلين “قوزيع” بالامام مالك و “اقشار/الراشدي” بالبادسي يعيشان على أعصابهما ليلا و نهارا و كادا أن يفقدا عقليهما نظرا لضغط إضرابات التلاميذ من جهة و ضغط السلطات من جهة ثانية. موسم 1983-1984 (موسم حافل بالنضالات) كنت تلميذا في السنة السابعة علوم رياضية، رفقة رفاق مجنونين بالرياضيات و متشبعين بقيم الحرية و التقدم. أتذكر منهم محمد بن التهامي و محمد بن التهامي، و عبد الالاه الغبزوري ومحمد لمقدم و محمذ البدموسي (هذا الأخير كان داهية في العلوم الرياضيات و التلميد رقم 1 بدون منازع في قسم الباكالوريا علوم رياضيات)…….. دون أنسى الآخرين طبعا. للأسف فباستثناء محمد المقدم لم اعد اعرف كثيرا عن مصير الآخرين سياسيا و مهنيا. عندما أتكلم عن قسم الباكلوريا علوم رياضيةلموسم 83-84، فإنني أتكلم عن قسم مناضل 100 في المائة، و الذي كان ينخرط بجميع أفراده دون استثناء في المعارك التلاميذية. الاستعدادات ليناير 1984 كنا نسمع عن التنظيمات الماركسية اللينينية و خاصة منظمتي إلى الأمام و 23 مارس و نتحدث كثيرا عن الطلبة القاعديين بل كنا نعرف أو نسمع عن أبناء الحسيمة منهم. كما كنا نتابع أنشطة الاتحاد الاشتراكي و الكنفدارية الديموقرتطية للشغل و نحظر احتفالات فاتح مايو (و أتذكر أن في إحدى مظاهرات الكنفدارية بمناسبة فاتح مايو رفعنا شعار ” لا بوعبيد لا علال، إلى الإمام إلى الإمام”.و هذه المظاهرة حظرها العديد من الرفاق التلاميذ أتذكر منهم مثلا الرفيق سعيد الفارسي. كما كنا نناقش دائما أهمية التنظيم وخاصة تنظيم الحركة التلاميذية في إطار الوداديات. أهمية التنظيم (معطيات احكي تفاصيلها لأول مرة) أمام شدة القمع وتوسع الحركة، فطن التلاميذ إلى أهمية التنظيم مما دفعنا أواخر 1982 /1983 و بداية 1983/1984 إلى تنظيم أنفسنا في إطار مجموعات عنقودية. بالنسبة إلى مجموعتنا مثلا كانت منظمة بشكل عنقودي مكونة من 10 أفراد اذكر منهم اسمين فقط و هما تلميذين سبقا أن درسا في الرباط قبل أن يعودا إلى الحسيمة و يتعلق الأمر بالرفيقين مصطفى علاش و ميمون ؟؟؟؟؟ (لا اسمح لنفسي الآن أن اذكر كل الأسماء التي بقيت سرا إلى يومنا هذا ، ربما سيتم الإفصاح عن ذلك عندما اكتب مذكراتي مستقبلا أو عندما سأشعر بالإعياء). كنا نجتمع في موقعين سيدي عابد و الصفصاف (الذي دمر الآن ليفوت إلى تجار الأرض كما فوتت صاباديا كاملة لناهبي الأرض و الماء و الهواء). كان أحيانا يحضر معنا تلميذا واحدا من المعهد الديني و هو الرفيق/ الشهيد علي بلقايدي الملقب آنذاك ب”عليليت”. كانت اجتماعاتنا تدور حور كيفية تدبير أمورنا بشكل أفضل و كيفية ضبط خطواتنا بعيدا عن أعين السلطة. كما أننا كنا نحضر لمعاركنا العادية و المعركة الهامة التي حدد لها تاريخ 24 يناير و هذا التاريخ كان يتداول على السن الجميع باعتباره أولا يوم المعتقل، و ثانيا هو يوم يشاع بأنه يمكن أن ينفجر فيه الشعب المغربي كله. و من بين أهم المسؤوليات التي تحددت لأعضاء المجموعة هو أن كل واحد منا مطالب بتنظيم 10 تلاميذ آخرين و هكذا دواليك دون أن يعرف أحدا بان هناك مجموعة أولى و ثانية أو ثالثة. كنا متأكدين بان معاركنا ستنجح بنسبة كبيرة، لأننا كنا نضمن نزول على الأقل 100 شخص مضبوط تنظيميا في وقت واحد، بالإضافة إلى المتعاطفين و المجموعات الأخرى التي قد تكون منظمة هي الأخرى بطريقتها دون علمنا لكنني اجهل إلى يومنا هذا طبيعة تنظيمها و شكله و هل اصلا كانت منظمة ام لا. فعلى سبيل المثال، اذكر مجموعة مهمة انسحبت من شبيبة الاتحاد الاشتراكي أبرزهم (ابن بلدتي) الرفيق سعيد الفارسي و محمد طحطاح و اوراغ ….الخ. كان لهؤلاء دورا مهما في التنظير و التاطير نظرا لتكوينهم السياسي و الأدبي. كما كانت هناك مجموعات أخرى مكونة من مناضلين صادقين و جادين و اعتقد أن انتمائهم الجغرافي (امزورن و نواحيها) عزز وحدتهم و انسجامهم و تواصلهم اذكر منهم على سبيل المثال الرفاق (مجيد اقوضاض، عبد الالاه السكاكس، فوزي اكراد احمد السكاكي بن التهامي و التهامي و محمد المقدم، عبد الالاه الغلبزوري و مجيد تدموري و نور الدين اوسار …الخ) و لا انسى صديقين آخرين هادئين و اللذان يتقنان جيد اللغة العربية و مجتهدين في مادة الفلسفة و التنظير الايديولوجي و هما حسن نحميدوش و جمال بوقيش). لي باركسيست يطلق هذا الاسم على مجموعة من التلاميذ الذي يقضو ن فترات استراحتهم في الحديقة المجاورة لداخلية البادسي (مدرسة المعلمين حاليا). و حسب علمي فان ترجع هذه الظاهرة إلى تاريخ سبق التحاقي بالحسيمة، لكنها استمرت قبل و بعض الانتفاضة. فرغم انعزاليتهم، فلقد كانت لهؤلاء علاقة احترام مع الجميع. لا يحضرون كثيرا في النقاشات و لا الاجتماعات، لكنهم ينزلون جماعة إلى المعارك. أحيانا كانت توجه لهؤلاء انتقادات لأنهم يعيشون عالمهم و يتهمون بعدم أخد الأمور بجدية (حسب منتقديهم). و اذكر من هؤلاء مثلا الرفاق رشيد بنعزوز و فؤاد الغعلبزوري و سمير السلامي…الخ). القاعديون كان واضحا بان هناك تعاطفا قويا مع الطلبة القاعديين، إذ كلما تعرضت الحركة الطلابية للقمع في وجدة و فاس تنخرط الحركة التلاميذية بالحسيمة بتلقائية في معارك تضامنا معهم. كما أن أسماء للقاعديين و معتقليهم كان تتداول على السنة التلاميذ (اذكر على سبيل المثال اسم بوعلى عبد العزيز و اسم اليازدي و الجوهري بوجدة و المرحوم حكوم بفاس….الخ، كما كنا نسمع عن متابعات و مضايقات يتعرض لها مناضلي الحسيمة كالهجوم الذي تعرض له منزل عائلة السلامي المناضلة بحثا عن ابنهم آمين الذي تمكن من الفرار بأعجوبة…. كيف اندلعت انتفاضة 1984 صراحة كانت كل الألسن تتداول يوم 24 يناير (يوم المعتقل) كتاريخ قد يقع فيه شيئا ما في المغرب كله و أن من الواجب الاستعداد له الانخراط فيه كمعركة شعب. و قبل وصول هذا التاريخ و تسخينا للأجواء ضربنا موعدا للإضراب داخل ثانوية البادسي يوم الخميس 12 يناير على الساعة 10 صباحا (إن لم تخني الذاكرة). بوصول هذه الساعة كان الجميع في الموعد ، لكن بمجرد رفع الشعارات الأولية “اتحدوا اتحدوا في الإضراب شاركوا”، إلا و تدخلت قوات القمع بهمجيتها المعهودة و بدون أدنى إنذار مسبق (للإشارة أن يوم انطلاق الانتفاضة كانت جل القوات البولسية بالحسيمة توجهت إلى الدارالبيضاء للمساهمة على تامين تنظيم القمة الإسلامية المنعقدة هناك التي تزامنت مع هذه الانتفاضة المجيدة). كان تدخل قوات القمع عشوائيا و انهارت ضربا و رفسا على كل تلميذ أو تلميذة و جدوها أمامهم. تسلقنا الجدران و كسرنا النوافذ بحثا عن الهروب من جهنم و الاعتقال، لكننا تجمعنا مباشرة من جديد في الشارع على يمين بوابة ثانوية البادسي و نظمنا مظاهرة جريا على الأقدام (عن طريقة “زولو انكاطا” بجنوب افريقيا، متجهين نحو ثانوية الإمام مالك. قبل الوصول بقليل خرجت قوات الجيش المرابطة في القشلة المحاذية لملعب شيبولا و المجاورة لثانوية الإمام مالك ليمنعونا من التوجه إلى المعهد الديني/ الإمام مالك، و هناك بدأت المواجهات الأولى. و توجهت المظاهرة بعد تحريف مسارها إلى إعدادية سيدي عابد و تمكنا فعلا من إخراج تلامذتها و كان حجم المظاهرة يزداد عددا. بمجرد الخروج من إعدادية سيدي عابد هاجم الكومسير الحسيمة (قصير القامة) المظاهرة بسيارته، لكن المتظاهرين ردوا عليه بتحطيم الزجاج الأمامي لسيارته السوداوية اللون). و في جبل سيدي عابد تم الاتفاق على ضرورة إنجاح مقاطعة الدراسة و التواجد أمام سينما الريف (السينما الوحيدة التي كانت إقليمالحسيمة يتمتع بها كمعلة تاريخية و ثقافية، لكنها دمرت سنوات قليلة بعد ذلك). بعد خروج المتفرجين في (الأفلام الهندية و الكراطي) باعتبارها هي الأفلام الوحيدة تقريبا التي كانت تعرض في تلك السينما، ولحسن الحظ كان هناك النادي السينمائي الذي كان يعرض أفلاما جيدة كل يوم سبت لمنخر طيه. خرج هواة السينما و وقوبلوا بالشعارات تدعوهم إلى الانضمام للمظاهرة. و هذا ما حدث من طرف العديد منهم فتوجهت المظاهرة نحو محطة “فلوريدو”. و بمجرد وصولنا التحقت بنا مظاهرة أخرى (من جهة سوق انيارشان/الثلاثاء، مكونة من عمال و نقابيين. الشخص الوحيد الذي تمكنت من معرفته هو الفنان بوجمعة ازحاف اتواتون الذي كان يردد بصوته الهادر شعار “نشن مارا نحزن انقانغ ارمخزن”. و منذ ذلك الحين أصبح هذا الشعار يردد في كل المعارك الذي يحضرها الريفيون أينما حلوا و ارتحلوا. تدخلت القوات القمعية من جديد و اندلعت المواجهات و اختار المتظاهرون اللجوء إلى الجبال و خاصة جبل مرموشة و الجبال المجاورة له، حيث شكل المنتفضون سلسلة بشرية رائعة، بعد مطاردة المخزن لهم و اعتقال العديد منهم. لم ننم في الداخلية ذلك اليوم خشيا من الاعتقال وقضيت الليلة مع احد أصدقاء لي في الحسيمة. في اليوم الموالي، جاءت تعزيزات عسكرية ضخمة حتى أضحت من المستحيل التجول في شوارع الحسيمة، إذ كان بين كل مترين أو خمسة أمتار عنصرا من عناصر الجيش ما كان مثيرا بالنسبة لي هو لأول مرة أرى عناصر للجيش بذلك الحجم (طوال القامة و أقوياء البنية) ، اعتقد انهم من الفرق الخاصة غرضهم كان واضحا هو إطفاء الانتفاضة في المهد. سمعت أن في اليوم الموالي اندلعت مظاهرة للبحارة و عندما كانت متجهة نحو المدينة جوبهت بقمع شديد. و بما أن المدينة كانت محاصرة، غادرها كل التلاميذ الداخليين ضاربين موعدا للتواجد في الساحة يوم الخميس الموالي 19 يناير. امتدت المواجهات إلى امزورن و ثاماسينت والأسواق و البوادي و البلدات المحيطة للحسيمة كانت تصلنا أخبار بان مظاهرات و مواجهات اندلعت في عدة بلدات و قرى، و على رأسها بلدتا امزورن بلدة ثامسينت و سوق الأحد بالرواضي. سمعنا بأنه تم إطلاق النار على المتظاهرين بتماسنت و كان الحديث عن سقوط شهداء. يعد سوق الاثنين بايت احديفة اقرب سوق للدوار الذي اسكنه. ذهبت إلى السوق يوم الاثنين (رغم الجروح الطفيفة التي كانت بادية على يدي اليمنى من جراء مواجهات 12 يناير 1984)، التقيت ببعض تلامذة نواحي ايث حذيفة اذكر منهم احمد الموساوي و عبد الحق الزياني و الزايدي و محمد العمراني (إن لم تخني الذاكرة) و آخرون لم اعد اذكر أسمائهم. نظمنا اجتماعا طارئا في الصفصاف قرب مستشفى ايت حذيفة، و اتفقنا على فعل شيء ما لكن لابد من الحذر نظرا لتطويق السوق. سوق الاثنين هذا اليوم كان على غير عادته. التجار لم” يفرشوا” سلعهم كالمعتاد. انتشار واضح لقوات الدرك و المخازية على طول خريطة السوق. و أمام انعدام شروط فعل شيء ألغينا الشكل الذي اتفقنا تنظيمه إذ لم يكن ممكن تنظيم مضاهرة اعتمادا على ثلاميذ لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين. امتدت الانتفاضة إلى كل مدن الشمال/الريف التاريخي تماما كما رسمها محمد بن عبد الكريم الخطابي في خريطة جمهوريته بدءا من الناضور مرورا بتطوان و طنجة و و صولا إلى القصر الكبير. و قد شهدت مدينتا الناضور و تطوان اعنف المواجهات حيث استعمل فيها النظام الدبابات و المروحيات و الرصاص الحي حسب شهود عيان. كان أملنا كبير أن تصل الانتفاضة إلى البيضاءالمدينة الصناعية ذات ال 5 ملايين نسمة آنذاك، لكن سكان الدارالبيضاء لم يكونوا قد أضمدوا جراحاتهم بعد القمع الشديد الذي تعرضوا له إبان انتفاضة 1981، و خاصة بعد أن سمعنا بان مواجهات مماثلة وقعت في مراكش الحمراء. الخميس 19 يناير عودة جميع التلاميذ إلى البادسي و استمرت المظاهرات و الحقليات. كلف عامل الإقليم آنذاك لجنة من الأساتذة النقابيين للتوسط. كان طلب العامل هو توقيف الأشكال النضالية، في الوقت الذي كانت مطالبنا هي تحقيق مطالب التلاميذ و على رأسها إطلاق سراح جميع المعتقلين المعتقلين. بالنسبة لثانوية البادسي إن لم تخني الذاكرة لم يحتفظ آنذاك رهن الاعتقال إلا تلميذين فقط سمير السلامي و تلميذا آخر (نسيت اسمه). توصلنا لاتفاق مع العامل بوساطة الأساتذة إلى إطلاق سراح المعتقلين و الحق في التنظيم في إطار الوداديات. كان شرط العامل أن إطلاق سراح المعتقلين سيوازيه إخلاء الساحة فورا و نقل النقاش إلى الأقسام بدل الساحة، لاقتراح الشكل التنظيمي المتكامل للسلطات. و هذا ما تم بالفعل بعد إطلاق سراح المعتقلين و وصولهم إلى المعتصم، إذ نقلنا النقاش إلى الأقسام (بعد نقاش صعب بين التلاميذ من جهة و بين التلاميذ و لجنة الأساتذة من جهة أخرى)، و خاصة بعد إطلاق سراح المعتقلين إذا خاطبنا احد الأساتذة النقابيين المكلفين بالوساطة (و هو من تطوان و رأسه أصلع و اعتقد انه كان أستاذا للاجتماعيات)، بكلمة بليغة جاء فيها ”إن كنت لينا ستتعصر و إن كنت صلبا ستتكسر”، و دعاني و الدموع تذرف من عينيه الى حل الاعتصام و مواصلة نقاشاتنا في الأقسام و هذا ما تم بالفعل. مع البقاء على المقاطعة الشاملة للدروس. استمر النقاش في الأقسام و مقاطعة الدراسة في انتظار ما يحدث يوم 24 يناير إلى أن جاء خطاب الحسن الثاني مليئا بالوعد و الوعيد. إذ اتهم سكان الشمال بأكملهم ب”الأوباش” و “الذين يعيشون على المخدرات و التهريب” و بأنه نعرفه عندما “كان وليا للعهد”، في إشارة واضحة إلى المجزرة الرهيبة التي اقترفها النظام في حق الريفيين إبان انتفاضة 1958/1959. مباشرة بعد ذلك الخطاب شنت قوى القمع اعتقالات بالجملة في حق النقابيين و على رأسهم المسئولان في جمعية البعث الثقافي (لمعلمي عبد العلي و الراقي) و بدأت الاعتقالات و المداهمات و التهديدات في كل مكان و حوصرت ثانوية البادسي من جديد. أما اللجنة الأساتذة المكلفة بالوساطة، فقد توصلت بتهديد مباشر من طرف العامل بعد أن استعملها في الحوار من اجل توقيف التصعيد. الاعتقالات و المتابعات انطلقت المتابعات و الاعتقالات و التهديدات، إذ كانت القوات القمعية أكثر شراسة بعد خطاب الحسن الثاني. ففي البادسي فإن كنا قد استطعنا تحقيق مكسب إطلاق سراح كافة المعتقلين التلاميذ، إلا أن تهديد العائلات و أولياء الأمر لم تتوقف. و مادمت أدلي بشهادتي، فانه لأول مرة تم استدعائي إلى اسنادة و حظر المرحوم عمي بوطاهر مكاني الذي جوبه بكلام نابي و تهديد من طرف قائد ايث بوفراح، كما اعتقل ولي أمري بالحسيمة احد معارف عمي و هو تاجر في الشارع المجاور لفلوريدو (بو شعيب). و للإشارة بان كل الداخليين القادمين من (الكامبو) البادية كان يفرض عليم إيجاد وليا للأمر بهم يقطن المدينة. على صعيد الحسيمة صراحة اجهل بعض المعطيات الدقيقة حول ما كان يجري على المستوى الشعبي (بحارة و عمال و نقابيين)، لكن ما يمكن أن أؤكده هو اعتقال الأستاذين المشار إليهما أعلاه اعتقال حفيظ تيفريراس، و متابعة الفنان بوجعة اتواتون، و الذي اعتقل فيما بعد و حوكم ب5 سنوات سجنا نافذة و اعتقال العديد من أبناء الحسيمة الطلبة بجامعة وجدة، اذكر على سبيل المثال بوعلى عبد العزيز بو لحراك، اليزيدي و الإخوة بنشريف (مصطفى و احمد و عبد الصماد) و الذين حوكموا جميعهم ب5 سنوات سجنا لكل واحد منهم. اعرف هؤلاء لأنهم درسوا من قبلي في تركيست و هم أبناء ايث بوبراح…الخ. على مستوى ثاماسينت: البلدة التي شهدت إطلاق الرصاص ضد المتظاهرين إذ كان هناك الحديت عن شهداء من بينهم اشريف مورود (الذي للأسف لا احد يذكر اسمه الآن و لا يخلد احد ذكرى استشهاده حسب معلوماتي). كما أن هناك الشرقاوي محمد اخترقت جسده رصاصة و نجي بأعجوبة من الموت و بعدها حوكم ب 15 سنوات سجنا نافذة. و كان الحديث عن اعتقال العشرات من المعتقلين احتفظ على 28 منهم و حوكم احدهم (البكرىوي محمد ب 20 سنة سجنا) و حوكم 5 آخرين من بينهم قاصرين ب 15 سنة سجنا فعبد اللطيف بنعزوز مثلا كان سنه لا يتجاوز 17/16 سنة إلا انه أدين ب 15 سنوات سجنا نافذة. كما حوكم بثلاثة من معتقلين حوكموا ب 10 سنوات سجنا و الآخرون تراوحت احكامهم بين 4 أشهر و 10 سنوات. و إليكم لائحة معتقلي ثاماسينت و الأحكام القاسية الصادرة في حقهم: الاحكام الصادرة في حقهم الاسم الكامل 20 سنة البكرىوي محمد 1 15 سنة بنعزوز عبد اللطيف 2 15 سنة بنسيعمر نجيح 3 15 سنة الشريف عبد الخالق 4 15 سنة القاضي رشيد 5 15 سنة الشرقاوي محمد 6 10 سنة العتابي عبد الحكيم 7 10 سنة مخلص عبد الحفيظ 8 10 سنة الفاسي سعيد 9 5 سنوات اليوسفي رشيد 10 5 سنوات اليوسفي العاقل 11 5 سنوات المرابط عبد الحق 12 5 سنوات المرابط سعيد 13 5 سنوات ادرها محمد 14 5 سنوات المسعودي احمد 15 2 سنتين المرابط امحمد 16 4 اشهر المسعودي حسن 17 4 اشهر العتابي فريد 18 4 اشهر العتابي عبد الحي 19 4 اشهر اقروش عبد الوهاب 20 4 اشهر المرابطي محمد 21 4 اشهر بن عزوز مكي 22 4 اشهر الشرقاوي عمر 23 4 اشهر الشرقاوي حسين 24 4 اشهر الازرق خالد 25 4 اشهر بنتهامي سعيد 26 4 اشهر محمد فدية 27 ؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ 28 هكذا انتهت انتفاضة 1984 بالحسيمة، لكن القضايا الذي خرج من اجلها المنتفضون لزالت لم تتحقق إلى يومنا هذا فالمطالبة بالكرامة و الحرية و العدالة الاجتماعية و رفع الحصار على الريف و إطلاق سراح المعتقلين السياسيين لازالت تحافظ على راهنتيها أكثر من أي وقت مضى. كلمة لابد منها أتمنى بان يقوم المناضلون الذين عاشوا تلك الانتفاضة تدوين شهاداتهم و على الجمعيات الحقوقية أو تلك التي تشتغل على الذاكرة كذاكرة الريف مثلا، و العمل على جمع هذه الشهادات و تدوينها لأنها المادة الوحيدة التي ستبقى شاهدة على بطش المخزن في هذه المنطقة العزيزة من وطننا الغالي. سعيد العمراني [email protected] حررت ببروكسيل يناير 2013