260 ب وقال الملك إني أري سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون * يوسف:43* هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات الثلث الثاني من سورة يوسف وهي سورة مكية, وآياتها(111) بعد البسملة, وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة, ونركز هنا علي عدد من ركائز العقيدة والإشارات الكونية في سورة يوسف. من ركائز العقيدة (1) الإيمان بأن القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالي الموحي به إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين) بلسان عربي مبين كي يفهمه العرب ويطبقوه أمرا واقعا في حياتهم, ويبلغوا به غيرهم من الأمم أصحاب اللغات الأخري, لأنه أنزل للناس جميعا, ولأنه الكتاب المبين عن الدين الحق, الواضح الدلالة لكل من استرشد بهديه الرباني الخالص, والذي علمه ربنا تبارك وتعالي لأبينا آدم لحظة خلقه, وأنزله علي سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله, وآتمه وحفظه في رسالته الخاتمة المنزلة علي خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم , والتي تعهد بحفظها تعهدا مطلقا فحفظت علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وسوف تحفظ إلي ما شاء الله رب العالمين. (2) التسليم بأن قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) لم تكن معروفة لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) قبل الوحي بها إليه, ولم يكن أحد من العرب يعرف شيئا عنها, فضلا عن تفاصيلها, سوي آحاد من أهل الكتاب. وقصة سيدنا يوسف في القرآن الكريم هي من الشهادات الناطقة بصدق هذا الكتاب العزيز, وبنبوة النبي الخاتم الذي تلقاه, وبأنه( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, وهنا تتضح الحكمة الربانية من جعل خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) لا يعرف القراءة والكتابة, كما ثبت ذلك بقول ربنا تبارك وتعالي في سورة العنكبوت مخاطبا هذا الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم): وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون( العنكبوت:48). (3) التصديق بأن رؤي الأنبياء حق, وأن الله تعالي يعلم من يشاء من عباده الصالحين تأويل الرؤي. (4) اليقين بأن الشيطان للإنسان عدو مبين, وأنه يترصد بوسوسته جميع بني آدم حتي أبناء الأنبياء والمرسلين, كما حدث مع إخوة يوسف( عليه السلام). (5) الاقتناع بأن المساواة بين الأبناء ضرورة فطرية, ولازمة تربوية, لأن المبالغة في حب الوالدين أو حب أحدهما لأحد الأبناء يدفع الآخرين من الأبناء إلي كراهيته والحقد عليه, والكيد له كما حدث مع إخوة يوسف وهم في بيت النبوة. (6) الإيمان بأن الله تعالي قادر علي أن يمكن لمن يشاء من عباده في الأرض, والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون( يوسف:21), والإيمان بهذه الحقيقة يجعل الإنسان راضيا بقضاء الله وقدره, ومثبتا في حالات النوازل والمحن والابتلاءات, وممنوعا من ظلم الآخرين, لأن الظالمين لا يفلحون. (7) التسليم بأن جميع أنبياء الله قد دعوا إلي عبادة الله تعالي وحده, وحاربوا الكفر والشرك; إيمانا بالله الواحد القهار, ودعوا أممهم إلي التوحيد الخالص له, بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد, كما دعوا إلي تنزيهه سبحانه وتعالي عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, وذلك لأن الله تعالي قد أمر بألا يعبد سواه, ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون, علي الرغم من تسليمهم بأنه سبحانه وتعالي هو فاطر السماوات والأرض, وخالق كل شيء, وذلك من دس الشياطين ووسوساتها إليهم, لذلك يوجه الحق تبارك وتعالي الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله بقوله عز من قائل : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين( يوسف:103). (8) التصديق بأن الإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله, وإسلام الوجه طواعية واختيارا له سبحانه, والخضوع لأوامره خضوعا كاملا, واجتناب نواهيه اجتنابا تاما, واتباع هديه اتباعا دقيقا, وذلك بعبادته تعالي بما أمر وبحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها, وإقامة عدل الله فيها, هذا الإسلام هو الدين القيم, الذي علمه لأبينا آدم لحظة خلقه, وأنزله علي جميع أنبيائه ورسله, ولذلك لا يرتضي ربنا تبارك وتعالي من عباده دينا سواه ولكن أكثر الناس لا يعلمون( يوسف:68). (9) الإيمان بأن النفس الإنسانية أمارة بالسوء إلا من رحم ربي وهو الغفور الرحيم, وعلي كل عاقل ألا يتبع نفسه هواها, وأن يعلم أنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. (10) التسليم بأن للعلم قيمة عليا في الإسلام, وعلي العلماء ألا يغتروا بعلمهم لأن الله تعالي قد جعل فوق كل ذي علم عليم, وأنه تعالي لطيف لما يشاء, وأنه هو العليم الحكيم. (11) التصديق بأن الساعة لا تأتي إلا بغتة, وأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. الإشارات الكونية في سورة يوسف( عليه السلام) جاء في سورة نبي الله يوسف( عليه السلام) عدد غير قليل من الإشارات الكونية التي نوجز منها ما يلي: (1) دون أدني قدر من التكلف, لأن القرآن الكريم لا يحتاج ذلك, أقول إنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون عدد اخوة يوسف( عليه السلام) أحد عشر, ويكون عدد الكواكب في مجموعتنا الشمسية بالعدد نفسه, وأن يري يوسف في رؤياه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين, وتتحقق هذه الرؤيا بسجود اخوته وأبويه له يوم جمعهم الله تعالي جميعا علي أرض مصر, وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالي : إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (يوسف:4).. (2) تسمية حاكم مصر في زمن سيدنا يوسف( عليه السلام) بلقب الملك, علما بأن حكام مصر كانوا يلقبون عادة بلقب( فرعون) الذي جاء(74) مرة في القرآن الكريم. (3) الإشارة إلي واقعة تاريخية وقعت بمصر من قبل بعثة المصطفي( صلي الله عليه وسلم) بأكثر من عشرين قرنا مؤداها مرور سبع سنوات من الخصب العام, تلتها سبع سنوات عجاف من القحط والجفاف والجدب, تلاها عام زالت فيه تلك الشدة, ونزل الغيث, وعم الرخاء, وقد أثبتت دراسات الآثار المصرية القديمة صدق ذلك. (4) التوصية الإلهية التي ألهمها ربنا تبارك وتعالي لعبده يوسف( عليه السلام) بترك القمح المخزون من أعوام الرخاء لأعوام الشدة في سنابله, وقد أثبتت التجارب أن تخزين المحاصيل الزراعية ذات السنابل من مثل القمح, والشعير, والأرز والذرة والشيلم والشوفان, هي الطريقة المثلي في حفظها لمدد طويلة دون فساد, أو تسوس, أو نقص في محتواها الغذائي. (5) وصف عيني سيدنا يعقوب( عليه السلام) بأنهما ابيضتا من الحزن, وهو ما يعرف اليوم باسم الماء الأبيض, وهو عبارة عن عتامة تحدث لعدسة العين تمنع دخول الضوء جزئيا أو كليا إليها حسب درجة العتامة, وقد تحدث بسبب الحزن الشديد المصاحب بالبكاء, أو لكبر السن, أو بسببهما معا, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي : وتولي عنهم وقال يا أسفي علي يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم( يوسف:84). (6) الإشارة إلي أن عرق الإنسان به من المركبات الكيميائية ما يمكن من شفاء عتامة عدسة العين( الماء الأبيض), وهو ما توصل إليه الأستاذ الدكتور عبدالباسط سيد محمد الأستاذ بالمركز القومي للبحوث بالدقي القاهرة, بعد أن قام بجمع عدد من العدسات المعتمة( التي تم استخراجها من عيون عدد من المرضي بالماء الأبيض وذلك بعمليات جراحية) ونقعها في بعض المركبات الكيميائية المعزولة من عرق الإنسان فوجد أنها تحدث حالة من الشفافية التدريجية لتلك العدسات, ووجد أن العامل المؤثر في ذلك هو أحد المركبات الكيميائية لعرق الإنسان, واسمه العلمي الجواندين وأمكن تحضير هذا المركب مختبريا, وإنتاج قطرة للعيون منه حصل بها علي براءة اختراع أوروبية, وأخري أمريكية في عامي1991 و1993 علي التوالي, وقد استوحي هذا العالم المصري فكرة تلك القطرة من قول ربنا تبارك وتعالي علي لسان عبده ونبيه يوسف( عليه السلام) ما نصه: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه علي وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين( يوسف:93). وإن كانت هذه الواقعة من المعجزات, والمعجزات لا تفسر بالقوانين العلمية المكتسبة. (7) الإشارة إلي أن بالسماوات والأرض من الآيات الحسية ما يشهد لله الخالق سبحانه وتعالي بطلاقة القدرة, وببديع الصنعة, وإحكام الخلق, وقد أثبتت الدراسات العلمية ذلك, وإن كان أغلب الناس يمرون عليها وهم عنها معرضون( يوسف:105). وكل واحدة من هذه الإشارات العلمية والتاريخية تحتاج إلي معالجة خاصة بها, لذلك فسوف أقصر حديثي في المقال القادم إن شاء الله تعالي علي النقطة الثانية من القائمة السابقة والمتعلقة بدقة الرواية القرآنية للواقعة, بوصف حاكم مصر في زمن وجود نبي الله يوسف( عليه السلام) بها بلقب الملك, وليس بتعبير الفرعون الذي ساد من قبل زمن يوسف ومن بعده. عن صحيفة الاهرام المصرية 14/4/2008