تقديم من أكبر إشكالات التنمية التي واجهها وسيواجهها المغرب هي قضية التدبير الترابي. وهذا المفهوم لا يرتبط فقط بقضية التقسيم الجغرافي للمغرب إلى مساحات ترابية في إطار ما يعرف بالأقاليم أو الولايات أو حتى الجهات. هذا المفهوم يظهر اتساعه حينما يتعلق الأمر بالتدبير المجالي للتراب الوطني وهو المفهوم الذي يبدو أكثر قربا من واقع إشكاليات التنمية بالمغرب. دراسات التنمية لا تنفك تعطي الحيز الأكبر في إطار محاولات الدارسين لفهم أسباب تأخر أو تقدم بلد ما بإخضاع تجربة التدبير المجالي فيه للتحليل. وتقريبا للفهم فإنه يمكن تقسيم العالم إلى كتلتين: كتلة استطاعت تنظيم مجالها الترابي واستغلال إمكانيات الأوساط بها ( ومجالات الآخرين إن أمكن ذلك!) عبر وسائل تنظيمية وبالتالي ارتقت اقتصاديا واجتماعيا، وكتلة تشكل غالبية دول العالم فشلت في هذا المعطى وما زالت تتخبط في مشاكل اقتصادية واجتماعية ومنها بلادنا. و المغرب يبدو مقبلا على إدخال مفهوم جديد للجهوية، ما زالت خطوطه العريضة محل غموض، في إطار تدبير التراب الوطني أملا في تحقيق إقلاع اقتصادي. والجهوية كاختيار إداري هو أقرب ما يكون لمفهوم جديد للحكم. وكيفما يكون شكل هذه الجهوية التي يراد للمغرب أن ينهجها فإن المطلوب أن تكون أقرب للتجارب الدولية التي تختلف في الشكل لكنها تنبني على أسس واضحة ليس أقلها تمتيع الجهات بالكثير من الصلاحيات الأساسية وسلطة اتخاذ القرار الاقتصادي والتدبير المجالي المحلي. وهذا المعطي الأخير يبدو بالمغرب وهو يشكل تحديا كبيرا للسلطات المركزية نظرا لعدم بروز إرادة حقيقية لتغيير عقليات التسيير المركزي التي أبانت عن فشل حقيقي في تدبير مغرب متعدد الجهات والخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية. ولفهم مثل هذا التحدي وتبسيطه فإن الجهوية تقتضي توفر إرادة سياسية من المركز للخروج من تقاليد طويلة في التدبير وهو تحدي سياسي حقيقي يقتضي المفاضلة بين توسيع هامش حرية الجهات في اتخاذ القرار وبين الهواجس الأمنية التي بنيت عليها دولة ما بعد الحماية. هذه المفاضلة هي التي تشكل لدى منظري علوم التنمية أساسا للحكم في قدرة بلد ما على الخروج من حالة التأخر التنموي. هذه الإرادة، إن توفرت، ستكون إقرارا بفشل التدبير الترابي في المغرب سواء بشكله الحالي الذي عدل بشكل سطحي عبر فترات وهو تدبير ورثته النخبة المغربية من المدرسة الاستعمارية. ففي حمى حصول البلد على وضع الاستقلال السياسي سنة 1956 يصف G. Mutin المغرب بعبارة فيها الكثير من الاختصار عن الوضع الذي تركته فرنسا، فيقول إن الناظر للمغرب سيجده عبارة عن : «l'axe Casablanca-Kénitra et le désert marocain ».. إن عبارة الصحراء هنا تعبر بالفعل عن الواقع بعيد الاستقلال لأن أغلبية مناطق المغرب وجدت نفسها بعد 1956 في نفس الوضعية التي دخلتها فرنسا وإسبانيا بعد توقيع معاهدة الحماية وإخضاعها لهذه المناطق بقوة السلاح فيما بعد. نفس الوصف بصيغة أخرى نجدها عند الجغرافي الفرنسي الشهير J-F. Gravier بقوله: إن مسرح الأحداث في المغرب لا يقع إلا في المائتي كيلومتر من السواحل الأطلسية بينما بقية المناطق في الأطلس والريف وتخوم الصحراء شكلوا مجموعة المتفرجين. من دولة “السيبة” إلى الدولة اليعقوبية على النمط المغربي في أغلب إن لم يكن كل الدراسات التي عمدت للنظر في عصر المغرب ما قبل الحماية، تبرز حالة عداء شديد لمصطلح “السيبة”. وتجعل هذا المصطلح لصيقا بحالة اللانظام، وهي الحالة التي أدت حسب هذا الفهم إلى الوقوع في براثن الاستعمار.مثل هذه القراءة لا تخرج من السياق الدارج الذي يحمله مفهوم “السيبة” حتى في إطار الثقافة الشعبية التي تبسطه على أساس أنه خروج عن النظام أو حتى عن المألوف. لكن تاريخيا مفهوم “السيبة” ارتبط بفشل حركات السلطان الحسن الأول في أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالمناطق التي كانت تحت السيطرة المباشرة للمركز اعتبرت “بلاد المخزن” بينما التي هي في يد كبار القواد وبيد القبائل اعتبرت “بلاد السيبة”. وهنا يبدو جليا بان مفهوم النظام ليس له علاقة بالتسمية، فالبلاد التي يحكمها القواد أو مجلس القبائل هي بلاد نعمت بنفس مستوى الأمن إن وجد في “بلاد المخزن”. بصيغة أخرى فالتقابل كان بين “بلاد المخزن” و”بلاد السيبة” أو بصيغة أخرى بين النظام المركزي والنظام اللامركزي وليست بالضرورة بين النظام والفوضى. تاريخيا ليس ثمة جدال بأن أصل الحكم بالمغرب كان نظاما مركزيا مع شيوع وجود هامش كبير للقواد كممثلين للسلطة المركزية في مناطق تعيينهم أو حتى لمجالس الجماعة أو القبائل. واقع الحال يقول بأن السلطة المركزية كانت مهتمة بأمرين: إعلان الولاء للمركز ولو اسميا وإخراج المكوس. وفي الحالات الاستثنائية كحالة الحرب، كان على الهامش أن يخضع للتجنيد أو يقوم بتمويل الجيش الذي يمر من مناطقه. كما كانت هناك قواعد عامة تدخل في إطار حفظ السلم الأهلي كأن تقوم قبائل مثلا بقطع طرق التجارة أو التحالف مع قوى ثائرة ضد المركز أو التقاتل بين المجموعات القبلية. هذه كانت شروط المركز المغربي حتى خلال عهود كبار السلاطين في الدول المتعاقبة، والخارج عن هذه الشروط كان يتعرض للعقاب على شكل حركات عسكرية موجهة من المركز أو من المتحالفين معه مباشرة. خارج هذه الحالات كانت القبائل في مناطق مجالها أو مناطق تحالفانها مع قبائل أخرى تملك حرية كبيرة في تدبير مجمل شؤونها ليس على المستوى الاقتصادي وحسب بل عبر تنظيم مجالات الاستغلال الاقتصادي وحتى على المستوى الاجتماعي والثقافي. فتدبير الاختلاف كان يتم وفق الأعراف المحلية ووفق مبدأ التوافق بين الحساسيات وحتى العقوبات على مستوى الجرائم كانت تتم بموافقتها بل إن القبائل الكبيرة كانت تتوفر على منظومتها التأديبية الخاصة. ويبدو أن شساعة بلاد المغرب وصعوبة توفر مواصلات سريعة كانت إحدى الأسباب التي أدت إلى شيوع هذا النظام في العلاقة بين المركز ومحيطه. وصول القوة الاستعمارية ستؤدي بالمغرب للخضوع لنمط التسيير الفرنسي الشديد التمركز المبني على أفكار “يعقوبية” من نتاج الفكر الإداري الفرنسي لما بعد الثورة الفرنسية. أساس هذه السياسة مبنية على فكرة توفر سلطة مركزية ذات صفة تشريعية وتقريرية وجهات تنفيذية. وهذه الجهات لم تتوفر على أية مؤسسات تمثيلية للسكان يسمح لها حتى بإبداء الرأي. وهذا النمط الاستعماري من التسيير الذي طبقته الحماية الفرنسية كان الأساس الذي بني عليه هو تحقيق هدف أساسي و “هو دعم المجهود العسكري قصد التحكم في البلد والإستجابة لأهداف استعمارية ” ( عبد الهادي رونق 1991) . الخصوصية المغربية – إن جاز القول- في هذه الجهوية كانت عبارة عن إدارة فرنسية بأدوات مغربية. فقد تم تقسيم المغرب إلى جهات على رأس كل واحدة منها ضابط عسكري مرتبط مباشرة بالإقامة العامة وبجانبه قائد يمثل الملك وهو في الأصل تحت السلطة المباشرة للضابط العسكري. ما سيلاحظ هنا أن وسائل وطرق عمل المخزن القديمة التي كانت مخصصة للمدن سيتم تعميمها على مجموع التراب المغربي، وبذلك ظهرت تلك التراتبية الإدارية التي مازالت مستمرة ليومنا هذا وإن عدلت عبر وجود الولاة والعمال بدلا من القواد. فالوالي أو العامل هو رأس الجهة أو الإقليم ويتبعه في الأهمية نزولا بالمدينة “الباشا” ثم “الخليفة” ثم “الشيخ” وأخيرا “المقدم” بينما بالمجال القروي هناك “القائد الممتاز” ثم “القائد” ثم “الشيخ” “فالمقدم” في آخر هذه التراتبية. لقد وجدت قوى الحماية الفرنسية في هذه البنية المخزنية الحلقة المفقودة في بسط السيطرة المطلقة على المغرب بمدنه وقراه، وتقوية هذه البنية السلطوية القديمة كان لها أهداف أمنية صرفة وهي ضرورة التحكم في الهاجس الأمني باعتبار أن فرنسا واجهت مقاومة شرسة في المناطق التي دخلتها وبشكل خاص بالمناطق التي ظلت لوقت طويل تخضع لمفهوم “بلاد السيبة”. خلال مرحلة الاستقلال بقيت هذه المنظومة الأمنية أكبر إرث ترثه النخبة السياسية بالمغرب من فرنسا. ومحاولات اليسار الأولى للتخلص من هذا الإرث ووجه بمعارضة صريحة من القصر أولا ولكن حتى من ممثلي هذه المنظومة من قواد وباشاوات الذين شكلوا مراكز مقاومة للحكومات المغربية الأولى لما بعد الاستقلال. رد فعل هذه المراكز كما هو معروف سيكون المواجهة مع اليسار بأدوات مخزنية تطوت وسائلها وإمكانياتها وطرق عملها. برهنت هذه القوى على قدرتها على المناورة عبر التحالف مع قوى مناوئة لليسار المغربي محليا (الفديك مثلا) لتشكل تحالفا معها شكل الدعامة الأساسية للحكم المركزي الذي قاده الملك الحسن الثاني لاحقا وبداية لإنتاج نخب موالية للقصر ومصادمة مع اليسار. هذا النمط من التسيير الموروث من عهد الحماية كان في واقع الأمر تحصيل حاصل لحالة الإفراغ التي عرفتها البوادي المغربية وبشكل خاص بعد ظهور ظهير التحفيظ العقاري الشهير سنة 1913 وبالتالي خلق فرصة لتوفير السند للمركز عبر خلق طبقة كبار ملاك الأراضي التي استرجعت من المعمرين لاحقا وبالتالي ربط مصالحهم بمصالح الدولة المركزية مباشرة. هذه الظروف أدت لتحطيم النسيج الاجتماعي بمختلف جهات المغرب عبر تحطيم الآلية الاقتصادية التي تعمل بها (من الملكية الجماعية للأرض إلى ظهور الملكية الفردية) وبالتالي أصبحت معزولة من أية قوة تأثير. أما القوى التي حاولت مواجهة واقع دولة ما بعد الحماية وجدت نفسها في أتون معركة غير متكافئة مع المركز مبنية على الهاجس الأمني. وللتاريخ فقد كان الريف أول من دفع فاتورة رفض هذا الواقع المفروض عبر انتفاضة 58-59. كما ودفعت قوى اليسار بتشكيلاتها المختلفة ثمنا باهضا هي الأخرى لرفضها سياسة المخزن المغربي بما فيها من تدجين للعملية السياسية وقمع الحريات السياسية والنقابية. الجهوية بالمغرب.. على المقاس بعد كثير من الشد والجذب سيخرج ظهير 16 يونيو 1971 ليقسم المغرب لسبع جهات أعطيت لها صفة “الجهات الاقتصادية”. هذه الجهات كانت دائما تدور حول مراكز حضرية كبيرة أو هي مدن لها وزن تاريخي أو حتى لأسباب تتعلق بتدخلات النخب السياسية لإعطائها هذا الدور. فظهرت جهة الجنوب (أكادير) وجهة تانسيفت ( مراكش) وجهة الوسط (الدارالبيضاء) وجهة الشمال الغربي (الرباط) وجهة شمال الوسط ( فاس) وجهة الشرق ( وجدة) وجهة جنوب الوسط (مكناس). لا حقا سيتم تعديل هذا الظهير بمرسوم 11 أبريل 1979 أخذا بعين الاعتبار لوضع الأقاليم الصحراوية التي تم استرجاعها. هذا الفهم للجهات اعتمد على مقاربة أن الجهة تتشكل من مجموعة أقاليم هي على المستوى الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي تتوفر أو يفترض فيها التوفر على محددات تساعد على الحفز على تنميتها ( الفصل 2 من الظهير). ويؤسس الفصل الرابع لتأسيس ما سيعرف لا حقا “بالمجالس الجهوية الاستشارية”. هذه الطبيعة الاستشارية لمثل هذه المجالس لم تكن تعني أكثر من إبداء الرأي في المشاريع الاقتصادية والاجتماعية التي تهم الجهة. بمعنى آخر أن ممثلي السلطة المركزية من ولاة وعمال هم القيمون على مبدأ التقرير في هذه المشاريع ولن يكونوا مضطرين للتعامل مع أعضاء هذه الغرف إلا من باب الإعلام وهو ما ثبت لاحقا من خلال التجربة. المحصلة تقول بأن هذه الغرف وحتى الجماعات المحلية التي وجدت كان المطلوب منها هو تطبيق ما عرف بالمخططات الثلاثية والخماسية التي كانت تبرمج بالرباط بطريقة أو بأخرى عبر مكاتب بيروقراطية، معرفتها بالحاجات الحقيقية للمناطق تكاد تكون منعدمة. بعد تقادم مفاهيم هذا الطرح الجهوي ابتداء من سنة 1998، بودر إلى تعديل خريطة الجهات دون تعديل في عقليات تدبيرها. فحاليا يتوفر المغرب على ستة عشر جهة تختلف خصوصياتها بشكل يصعب تصور أن بلدا مثل المغرب بحاجة لمثل هذا العدد الكبير من الجهات. ويمكن التساؤل بكل علمية عن ما يجمع الأقاليم التي اقتطعت من واقعها الجغرافي-المجالي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لتلحق بأقاليم ومناطق تختلف معها في كل ما ذكر. بل يجب التذكير في هذا الصدد انه حتى الأقاليم نفسها لم يعتمد في تحديدها على الكثير من الموضوعية ماعدا الهواجس الأمنية وحتى الانتخابية. وكمثال صادم في الجهوية الحالية يوجد في إحدى أكبر الجهات وهي جهة “مكناس تافيلالت”. فمساحة هذه الجهة تقارب 80 ألف كيلومتر مربع وهي مساحة تتجاوز مساحة دول البنيلوكس مجتمعة. وتمتد هذه الجهة على مساحة واسعة من الجنوب الشرقي الجاف وتمر عبر السفوح الشرقية للأطلس الكبير وجزء من الأطلس المتوسط والسفوح الغربية لهما لتمتد حتى “هضبة سايس”. يعني أن المسافة الواجب قطعها بين أقصى نقطة في بالمنطقة الشمالية الغربية للجهة مع أدناها في الجنوب الشرقي لا يقل عن 700 كلم!!. بحسبة جغرافية بسيطة فهذه الجهة تتوفر على خمسة مجالات جغرافية متنوعة وتتوفر على تركيبة بشرية متنوعة بتنوع أنماط استغلال هذه المجالات اقتصاديا بالإضافة إلى خصائصها السوسيوثقافية. فمن استغلال الواحات واقتصاد “القصور” بأقصى الجنوب إلى الاقتصاد الرعوي بالمناطق الجافة على السفوح الشرقية للأطلس الكبير إلى الاقتصاد الغابوي على سفوح الأطلس المتوسط مرورا بالزراعة المعاشية بالسفوح الغربية إلى زراعة الضيعات بمناطق الحاجب ومكناس. نفس هذا الخلل يمكن ملاحظته في جهة “سوس ماسة درعة” وإن بحدة أقل على مستوى التجانس السوسيو-ثقافي وهو نفس الخلل الموجود بالجهة الشرقية. في أفق جهوية حقيقية إن المبدأ العام الذي يعتمد في المقاربات الدولية للجهات هو مشابه لحد كبير للمبدأ الاقتصادي المعروف في التجارة الدولية les avantages comparatifs. بصيغة أخرى فالتساؤل المطروح هو حول القيمة المضافة التي يمكن أن يساهم بها مثل هذا التقسيم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية كهاجس أساس . مثل هذا الطرح هو الذي أدى لخلق الجهة على أساس أنها وحدة إدارية تفترض حدا أدنى من التجانس بين مكوناتها الطبيعية والبشرية وإمكانياتها في خلق آليات اقتصادية خاصة بها. إن الجهة تؤسس انطلاقا من قدرتها على خلق فضاء متجانس من حيث قدرته على التفاعل بين مكوناته أو ما يعرف بالمنظومات أو الأنساق les systèmes et les sous-systèmes. فالجهات عبارة عن أنساق يتفاعل فيها المعطى الطبيعي مع المعطى البشري الذي ينتج بدوره المعطى الاقتصادي. هذه الأنساق تفترض عدم وجود تبانيات كبيرة في أنماط الاستغلال المجالي وبالتالي توفر إمكانيات التكامل. فالحديث عن الجهة يفترض الحديث عن وحدة متكاملة من الناحية الإدارية والبشرية. والمعطى البشري يعتبر الحافر نحو التكامل وعدم وجود تباين كبير على مستوى الخصوصيات السوسيوثقافية هي من الأشياء المرغوبة. فهذه الخصوصية هي التي تربي القدرة على خلق مستوى من التنافسية مع الجهات الأخرى. وفي البلدان التي تتوفر على خصوصيات مناطقية وجهوية فإن العنصر البشري يؤخذ في الاعتبار على أساس أن الانتماء الجهوي لا يتعارض مع الانتماء الوطني. وفي المغرب مازال الحديث عن وحدة الجهة يشكل جزءا من الطابوهات في التصور العام على مستوى النخب السياسية التقليدية أو حتى على مستوى وسائل الإعلام القائمة. وهذا الواقع ناتج عن سيادة الخطاب المحافظ على المستوى الرسمي منذ سنوات طويلة وهو خطاب لا يتورع على اعتبار أن أي نزعة جهوية هي بالضرورة منافية للمصلحة العامة للبلد دون إعطاء ولو حيز لمساءلة هذه الجهة، ومدى قدرة البلد على تحقيقها أو حتى التدرج في تطبيقها.كما يمكن إرجاع هذا التخوف إلى سبب موضوعي وهو أن المغرب لا يتوفر على تجربة حقيقية في التسيير اللامركزي. فالنخب التي أنتجت خلال خمسين سنة الماضية هي نخب لديها باع طويل في تنفيذ الأفكار وليس إنتاجها وهو واقع للأسف لا يمكن نكرانه. فالنخب على مستوى الجهات هي نتاج للمركزية وسيكون من الصعوبة بمكان أن تنتقل من مستوى التنفيذ إلى مستوى التقرير دون حدوث صعوبات حقيقية. ما نسمعه حاليا حول ضرورة إيجاد صيغة مغربية قحة تجعل من إمكانية التفاؤل إمكانية صعبة. فالتجارب الماضية الفاشلة ماثلة للعيان ويكفي النظر لموقع المغرب بين الأمم لرؤية حجم الخسارة التي خسرها خلال ما يزيد عن خمسين سنة من الاستقلال السياسي. فالتدبير الجهوي هو قرار سيادي يفترض الخروج من أزمة يتحكم فيها الهاجس الأمني الذي عمر لما يزيد من خمسين عاما من الاستقلال إلى الهاجس الاقتصادي. الوصول لمثل هذه المقاربة سيكون من الصعوبة الحديث عنها في ظل عدم توفر تجربة مغربية حقيقية في مجال تدبير عقلاني للتنوع في المغربي. فالوصول لتحقيق مثل هذه الخطوة تفترض اعترافا صريحا بفشل السياسات السابقة وبالتالي خلق قطيعة فعلية معها. وخلق مثل هذه القطيعة تفترض حصول إصلاحات جوهرية تمس سلة من القوانين على رأسها الدستور وتبدأ من خلال خلق نقاش عمومي مفتوح وبدون طابوهات حول حجم هذه الإصلاحات والتأكيد على ضرورة إنتاج مؤسسات دستورية أساسها احترام الصلاحيات والقطيعة مع أساليب الماضي. مثل هذه المشاريع تبدو أوراشا ضخمة تحتاج لسنوات كثيرة لكن الأهم الوقوف أما حجم المشكلة وهو ما يفترض توفر إرادة حقيقية لمعالجة واقع المغرب. إن الجهوية الموسعة لن تكون إلا إحدى الوسائل من بين وسائل أخرى تفترض توفر إرادة حقيقية لعدم الخلط عمدا بين ” بلاد المخزن” و”بلاد السيبة”.