عن القدس العربي في فورة مباغتة من الجنون، أحرق نيرون روما وأحالها رماداً فانتشى وعزف على قيثارته لحن الفناء، وهو الذي نصّب نفسه إلهاً بعد أن زعم مرة أنه شاعر روما الأول. لكن حان الأوان اليوم لكي يتزحزح نيرون عن الحيّز المتفرّد الذي احتله طيلة قرون في كتب التاريخ وقواميس الاعلام، ليفسح المجال لنيرون الألفية الثالثة، الديكتاتور السفاح معمر القذافي، الثائر بلا ثورة الذي ألغى الدساتير والاحزاب والقوانين والقيم، وأخيراً الغى الشعب الليبي نفسه، ونسي العقيد القذافي ان للشعب قلبان، كما يقول جبران عن الرجال العظام، قلب يتألم وقلب يتأمل. ولم يكن للعقيد ما يكفي من نفاذ البصيرة حتى يرجح فرضية ان يصنع الشعب من ألمه بذورا لثورة معمّدة بالدماء الطاهرة القادرة على ان تجرف نظام الطاغية المفرط في الهمجية والفساد الذي رد على مطالب الشعب المشروعة في الحياة والكرامة بالقصف الجوي والرماة والقناصة والمرتزقة من كل الآفاق والاصقاع، فكانت اول حرب يخوضها 'القائد الفاتح' في تاريخه العبثي هي تلك التي خاضها ضد شعبه، مقسما بانه سيحارب الى آخر قطرة دم تجري في عروق الليبيين. على امتداد عقود طويلة اشتكى العرب من صورتهم المتردية في العالم وعزوا الاسباب لعوامل عديدة، ونسيوا ان مردَّ ذلك هو فساد الانظمة العربية وانغماسها في النهب والارتشاء والمضاربات الدولية على حساب شعوبهم، والتحالفات المريبة مع اعداء الأمة والتآمر على حركات التحرير والمقاومة العربية، والسمسرة في القضية الفلسطينية والمزايدة عليها وادراجها في بورصة التنازلات المميتة. حيث أدمن الطغاة العرب على خيانة قضايا الأمة مع العشيقة الاسرائيلية التي اطلقت يدها في اعناق ابناء الأمة مستفيدة من مظلة الولاياتالمتحدةالامريكية حامية الصهيونية باستمرار وانظمة الاستبداد العربي الى حين ووقت معلوم. لكن دماء الشعب الليبي العظيم التي أريقت بغزارة أحرجت أنظمة النفاق العالمي التي راهنت على النفط الليبي حتى ولو كان ممزوجاً بدم الشعب المغدور. لكن ثورة الليبيين الحقيقية هذه المرة في غنى عن بلاغات الادانة المحتشمة والتعبير عن النوايا الحسنة والدعوات الاستفزازية الى 'ضبط النفس' خصوصاً وان الآلاف من اخواننا الليبيين لفظوا انفاسهم الاخيرة بفعل السلاح والترسانات العسكرية التي زوّد بها الغرب نظام الطاغية ولم يشترط ابدا ولو من باب تبرئة الذمة عدم استعمالها ضد الشعب ما دامت مرصودة لخوض حروب نظامية مع اعداء خارجيين مفترضين لكن الطاغية القذافي يعتبر شعبه العدو الأول. وما يصح على 'جماهيرية' القذافي يصح على أغلب دول العشائر والقبائل العربية التي لم تخض اي حرب سوى ضد شعوبها.. ويكفي ان نتأمل في فحوى خطاب سيف الاسلام المشهور على الشعب لكي نتأكد من ان الطغاة يرون في ابناء بلادهم رؤوسا اينعت وحان قطافها. لكن السحر انقلب على الساحر، بعد ان انطلق مسلسل التحرير الثوري العربي وها هو بركان ثورة وغضب شعبنا الليبي الشجاع انفجر ضد 'جماهيرية' العقيد الدموي المجنون الذي يحمل رئيس مخابراته اسما بليغ الدلالات والمعاني والمقاصد اذ ان اسمه هو 'قذاف الدم'! فهل سيبقى العالم يتفرج على حرب الابادة، التي يشنها القذافي ضد الشعب الليبي الأعزل؟ صنم آخر يتهاوى في عصر الوثنية الاستبدادية التي حاولت ممارسة طقوس 'الحلولية' في افسد صورها، فاختزل الطاغية الرهيب القذافي في نفسه الشعب والوطن واعتبر البلاد ضيعة عائلية تورّث للابناء، لكن هذه الفقاعة الهشة انفجرت في وجه اصحابها، وتحول الشعب الليبي البطل واسطة عقد الثورة العربية المظفرة وايقونة النضالات المريرة ضد انظمة عمّ فسادها وقمعها واستبدادها وجشعها البحر والبر والأجواء. النصر والعزة للشعب الليبي وثورته المجيدة.