طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :26
في محطة الحافلات كنت لا أزال في حالة غير طبيعية..نسيت كل المعلومات التي قالها لي الحاج متولي صاحب عربة الفول والطعمية ..التفت يمينا وسألت أحدهم عن حافلة جامع الازهر ..قال لي بانني اقف في المحطة المناسبة لذلك.. كات الساعة تشير الى الثانية عشر والحرارة بدأت في الارتفاع أكثر فأكثر .. انتظرت طويلا تحت اشعة الشمس الحارقة .. من بعيد سمعت الاذان لصلاة الجمعة يصدح من كل الاتجاهات ..لكن الحافلة لم تأت بعد …سألت آخر كان على اليسار بجانبي عن سر هذا التأخير ٬فقال لي بان الامر عاد جدا ٬وقد يطول الامر أكثر من ذلك في الكثير من الاحيان .. وبأن الخط في اتجاه الازهر جامعه وجامعته يكون مزدحما دائما .. بقيت واقفا بقرب الرجل أنتظر كباقي الركاب.. وفي بعض الاحيان كنا أتبادل معه بعض الجمل والكلمات.. بعد نصف ساعة تقريبا جاءت الحافلة أخيرا ..ركب الرجل وتبعته وتبعني حشد من الناس٬ ونظرا لقوة الزحام ٬لم يعد لي مجال للتحرك أو حتى القدرة على تغير وجهة رأسي من اليمين الى اليسار .. انطلقت الحافلة في رحلتها السيزيفية الدائمة ..مد وجزر لذلك الطوفان البشري داخل الحافلة .. نتلاطم ببعضنا البعض في كل وقوف و في كل انطلاقة من جديد .. السيارات الكثيرة والقديمة جدا ..تتوقف بدون انذار ..و بشكل يدعو الي التوتر ..وفي كل محطة للحافلات يزداد العدد.. لدرجة يضطر معها البعض الى التمسك بالنوافذ و قوابض الأبواب ..بعض الركاب يظلون في وضعية شرود خلف الحافلة من الخارج على الدوام.. حتي ولو شاءت الاقدام ونزل الكثير من الركاب في محطة من المحطات ٬ واصبح لهم مكانا في الحافلة من الداخل ٬يظلون هناك. وينزلون في المحطات المقبلة حسب اختيارهم .. الامر عادي بالنسبة لهم وعادي حتي بالنسبة للجابي الذي لا يطالبهم بدفع ثمن التذكرة .. كان الرجل الذي تبعته وركبت الحافلة خلفه٬ ينظر الي من بعيد باستغراب .. وحتى أتفادى نظراته المتكررة..اشحت بوجهي عنه قليلا وحاولت النظر عبر النافذة . بعد محطات كثيرة ومناطق مختلفة ومتعددة ..بدأ عدد البنايات في الشارع يتناقص ..وبدأ يخف ذلك الازدحام المفرط للسيارات الذي تعرفه شوارع وسط البلد ..و بدأ يقل عدد الركاب داخل الحافلة وخارجها .. في المحطة قبل الاخيرة ٬ نزل ذلك الرجل و ما أن رأيته حتى تبعته بسرعة ٬مخافة أن تنطلق الحافلة من جديد.. لما رآني ٬توقف الرجل . ونظر إلي باستغراب ..حينها كانت الحافلة قد أقلعت ..قلت له مستفسرا : يا سيد انا فقط عايز أسألك لو سمحت منين اعبر لجامع الازهر ..؟ استمر الرجل في النظر الي وقال لي بعصبية : انت تبعتني وركبتي ورايا ليه ..؟؟ جامع الازهر ايه!!!! ..دا انت في منطقة هضبة الجيزة في محافظة الجيزة على الضفة الغربية لنهر النيل ..ما بتشوفش الاهرام هناك ؟ انتبهت الى الافق هناك ورأيت الاهرام ..قلت له : مش انا سألتك عن حافلة جامع الازهر وأنت قلتلي انها حتتأخر ..وانك تعرف الاوقات جيدا واني المحطة اللي كنت واقف فيها كانت صحيحة … قاطعني بعصبية وقال لي: آه.. سآلتيني و قلتلك كل دا .. بس أنا ماكنتيش رايح لهناك .. والمحطة بيمر فيها اكثر من عشر اطوبيسات كل واحد رايح لحتة …وانت جيت ورايا ليه ..؟ بدأ الرجل يرعد ويزبد قلت له بدون حسرة : خلاص شكرا أهي فرصة ازور فيها الاهرام .. استدار الرجل وهو لايزال يصرخ احتجاجا على هذا الموقف..ورحل في اتجاه مجمع سكني. وتركني في ذلك المكان أتأمل انصرافه .. التفتت نحو الاهرام هناك في الافق .. و بدأت استجمع أنفاسي٬ ولم أعد أسمع سخط الرجل هناك .. ولا ضوضاء الراجلين ومرور السيارات .. لحظة مدهشة كانت تدعو الي التأمل فعلا ..لحظة عظيمة بجلال قدرها .. يا الله …هذه العظمة كلها من صنع الانسان ؟ .. كانت الاهرام تبدو لي قريبة جدا .. فبدأت المسير نحوها راجلا ..مشيت كثيرا ولكن حجم الاهرام لم يتغير ..ظلت على حالها كأنني أخطو في مكاني لا غير .. في ذاكرتي لا أحتفظ بمثل هكذا أحجام كبيرة من صنع الانسان ..كانت الجبال الاطلسية هي فقط ما كانت تختزنه ذاكرتي . وخاصة ذلك الجبل الوحيد الذي كان يطل على حيينا في قصر السوق ويسمى جبل أكنان .. و بما أنني لم أكن اعرف حجم الاهرام عن قرب.. لم أكن قادرا كذلك على الحكم على حجمها الحقيقي عن بعد .. لذلك عجزت عن احتساب المسافة المتبقية للوصول اليها . في الجانب الايمن من الطريق ٬كان الكثير من السياح يتجهون في نفس الاتجاه . وحينما يصلون الى نقطة هناك في مفترق الطرق ٬ يعترض طريقهم أربعة اشخاص بجلابيبهم يبدو أنهم من الصعايدة.. و يأمرونهم بتغيير الطريق .. عبرت الطريق الى الجهة الاخرى و سرت بدوري في نفس الاتجاه . وحينما وصلت الى ذلك مفترق الطرق٬ سألني أحدهم عن وجهتي وقال لي : الاهرام ياسعادة البيه ؟ فقلت له :أه لو سمحت … قال لي : اسمع يا فندم انت لازم تعبر من زقاق دا .. نظرت الى ذلك الطريق فوجدت جدرانه من طين كأنه مدخل لحضيرة او ماشابه ..رفضت ذلك.. وقلت له: الاهرام أهي قدامي ..سأكمل في هذا الطريق المعبد .. معليش وشكرا لك .. قال لي: لا ..لا..ماعليش انت يافندم .. لايسمح للزوار الذهاب من هذا الطريق المعبد بالمرة ..فهذه الطريق مخصصة لسيارات الحكومة بس . و طريق السياح .. اهو ..من هذا الجانب .. مادام الامر كذلك ليس هناك أدنى مشكل .. شكرته وانصرفت. دخلت الزقاق كما أمرني بذلك ..و عندما قطعت مسافة مائة متر تقريبا في عمق المكان ..وجدت باحة كبيرة جدا وفيها الكثير من الأحصنة والابل ..حسبت الامر في البداية سوقا للمواشي والانعام ..لكن سرعان ماتبين لي عكس ذلك خاصة عندما اندفعت نحوي كوكبة من الناس أصحاب الخيول والابل يعرضون علي ركوبها.. طلبت منهم التمهل بأدب وطرحت عليهم سؤالا جوهريا للفهم : من فضلكم انا سلكت هذا الطريق للوصول الى الاهرام فقط .. رد أحدهم وقال : طبعا احنا حنوديك للاهرام ..؟ قلت له :شكرا لك ولكن أنا اريد ان اذهب الى الاهرام راجلا وليس راكبا .. رد الرجل ضاحكا وقال : ماينفعش افندم تروح على رجليك .لابد من الحصان قلت له : لا أريد حصانا أنا لست هنا للسياحة ..فقد وجدت نفسي في هذا المكان بالصدفة .وأريد أن أصل الى ذلك المكان راجلا … قال لي : انت أول مرة تزور الاهرام ؟!! قلت له : نعم اول مرة !!! قال لي : تعرف يافندم ان الحكومة بتفرض على كل السياح اللي عايزين اروحو الاهرام انهم لازم عليهم يركبوا ركوبة..يا على حصان.. يا على جمل .. احترت في امري٬ كيف لي ان أركب حصانا وان ادفع اجره وانا استطيع الذهاب الى هناك راجلا.. واحتفظ بما تبقى من نقودي .. على حائط كان بجانبي اتكأت ..وشعرت بأنه منذ وصولي الى أرض المحروسة٬ والامور تسوء يوما بعد يوم ..فكرت كثيرا ٬ثم استسلمت لقدري و قلت الخير فيما اختاره الله .. التفت نحو السائس و سألته عن ثمن استئجار الحصان. رد علي وقال: ثلاثون جنيها يافندم .. يالله …هذا الثمن بالنسبة لي ثلاث ليال اخرى في الفندق .. حاورت نفسي وقلت انا لست أوربيا حتى يطبق علي نفس التسعيرة ..لماذا ابعثر نقودي بهذه الطريقة البليدة على كماليات لن تفيدني في شيئ . شكرته و عدت ادراجي في اتجاه الزقاق للخروج الى الشارع ..و قررت ألا أذهب الى الاهرام نهائيا سأكتفي بالنظر والتصوير من بعيد فقط .. وإنا في طريقي نحو الخروج اعترض طريقي اصحاب الخيول والابل ومنعوني من متابعة المسير ..حاصروني في الزقاق .. و أرغموني على العودة الى الباحة و ضرورة استئجار الحصان . اندهشت لهذا التصرف الذي لم أكن مستعدا لمواجهته . توقفت وقلت لهم:يا سادة.. أنا حر ..لا اريد الذهاب الى الاهرام بالمرة ..أريد فقط العودة الى الفندق .. نطق أحدهم وقال : كان ذلك ممكنا قبل ماتدخل الى هذا المكان ..أما الان لم يعد امامك خيار ..يا إما تاخد الحصان وتمشي طوالي للاهرام ويادار مادخلك شر ..يا اما تدفع ثمن الحصان وتروح للاوطيل والقلب دعيلك .. ضحكت لهذا المنطق الغريب وقلت : ولماذا هذا التسلط الغير المبرر.. هو مافيش قانون في هذا البلد .. قال لي : انت مش كلمت ناس هناك في الشارع وقالو لك لازم تخش للاهرام من هنا ..وانت وافقت ؟ قلت له : نعم.. ولكن هم فقط دلوني على الطريق .. قال لي : لا يا فندم .. احنا بندفع لهم عن كل فرد دخل من هنا ..واحنا د لوقتي ملزمين بالدفع عنك ..خلاص انت دخلت ..ياتركب ..يا تدفع ..خلاص فهمت ؟ .. تذكرت ورطة الفتوغرافي والشرطي وجواز السفر .. وخشيت الوقوع في ورطة أخرى وسأكون مضطرا للدفع من جديد في جميع الاحوال .. خاصة وهذا المكان مهجور تقريبا حتى الاقدام على طلب النجدة هذه المرة لن يفيد في شيئ .. ما العمل اذن ..؟ سلمت أمري لله… اقتربت من صاحب الحصان ودخلت معه في مفاوضات ..وقلت له بان أجر اقتناء الحصان مرتفع جدا٬ وطلبت منه تخفيض السعر .. بعد مفاوضات عسيرة استقر السعر على عشرين جنيها ..تماما كأجرة سيارة نقل من الاسكندرية الى القاهرة ..تقريبا ساعدني أحدهم وركبت الحصان ..كنت كعريس يزف لعروس بالغصب.. وانا على صهوته اخرجت عشرين جنيها من محفظتي الجلدية ومنحتها للسائس صاحب الحصان .. طفل في العاشرة من العمر تقريبا امتطى هو الآخر كذلك حصانا ووقف الى جانبي ..تسلم الرجل النقود وتفحصها وقال لي بتهكم : ايه دا يافندم ..دي عشرين جنيه ؟.. قلت له : أليس هذا هو الاتفاق الذي تم بيننا .؟ قال لي : نعم هو الاتفاق.. بس للحصان الواحد مش لاثنين .. قلت له : انا راكب على حصان واحد فين الثاني ..؟ قال لي : اهو .. واشار الي الطفل الذي يركب الحصان قربي .. واستمر قائلا : دا يافندم مش رايح اتفسح زي حضرتك.. دا رايح معاك مخصوص علشان ارجع الحصان لما حضرتك توصل للاهرام بالسلامة ..فلازم حضرتك. يافندم تدفع حق الحصان الثاني .. يعني في المجموع اربعين جنيها … والله لا أدري ماذا دهاني في تلك اللحظة .. تذكرت كل ما تعرضت له من مشاكل من قبل ..وتذكرت كم كنت أختزن من حنق تجاه هذه الممارسات …لم أدر كيف قفزت من ذلك الحصان وصرخت في وجه الرجل بشكل جنوني وقلت له : والله لجب لكو البوليس ياحرامية ..ياقطاع الطرق ..والله لنا رايح للبوليس دي لوقتي …يانصابين ..لو عاوزين تقتلوني هنا اقتلوني ..ماعدش اهمني حاجة .. الراجل تطلع في وجهي وقال بوقاحة : ايوى استعبط علينا استعبط ..والله لندفنك هنا قبل ما تتخطي رجلك عتبة الحوش … هناك في خلفية الباحة توجد غرفة من قصب وبداخلها ربوة من الخشب تماما كربوة الحاج ابو الفضل بواب العمارة ..بداخلها يوجد شيخ يبدو في السبعين من عمره يحتسي كآس شاي في كامل الهدوء .. كان يتابع اطوار الحكاية من البداية ..وضع كأس الشاي على طرف الطاولة ..واستند على طرف عربة بحصان يبدو انها محملة بعلف الاحصنة والابل وقال بأعلى صوته وهو يقف : خلاص ..خلاص ياشعبان .. جات داهيا انت واياه ..ركبو خلينا نخلص .. شعبان نظر الي وهو في غاية الحنق تراجع الى الوراء وغير المكان .. جاء أحدهم وطلب مني الركوب ثانية .. ساعدنى بلطف وركبت الحصان من جديد .. سار الطفل امامي وتبعته ..كان الكل يراقب موكبنا ونحن نغادر …شعبان كان يموت غيضا وهو ينظر الى بطرف عينيه .. خرجنا من الباحة نحو زقاق خلفي ..جدرانه من الطين أيضا.. فوجدت نفسي في ارض جرداء بها بعض التلال من التراب والكثير من الاوساخ والاكياس البلاستيكية العالقة بنباتات شوكية تعبث بها الرياح.. لم أكن سعيدا أبدا .. سرنا زهاء ألف متر تقريبا وصعدنا تلة ترابية بلونها الاحمر .. فوجت نفسي أمام الهرم الأكبر أو هرم خوفو وهو الأثر الوحيد الباقي من عجائب الدنيا السبع،..في المكان هناك بعض السيارات ..بعض الابل يستعملها السياح لأخذ صور و للتنقل أيضا .. ثم بعض الخيام السوداء اللون نصبت هنا وهناك تبيع منتوجات الصناعة التقليدية والكثير من زجاجات العطور … أول ماتبادر الى ذهني في تلك اللحظة هو 20 جنيها التي أجبرت على دفعا لقطع مسافة لم تتجاوز ألف متر تقريبا . وأنا الذي حينما كنت صغيرا ابن ست سنوات في صحاري قصر السوق كنت عندما أخرج للعب مع الاطفال قرب المنزل ٬نبتعد عشر كيلومترات أو أكثر فقط ونحن نطارد الكلاب الضالة . بعد ان دخلنا حرم الاهرام واقتربنا من مكان تجمهر فيه السياح٬ تبين لي وجود ثلاث اهرامات وليس واحدا ..اهرامات مختلفة الحجم و متباعدة عن بعضها البعض .. علمت فيما بعد أنها تحمل أسماء خوفو، خفرع ومنكاورع. وانها بنيت قبل حوالي 25 قرنا قبل الميلاد، والأهرام حسب احد الفرضيات هي مقابر ملكية كل منها يحمل اسم الملك الذي بناه وتم دفنه فيه، والبناء الهرمي هنا هو مرحلة من مراحل تطور عمارة المقابر في مصر القديمة … قلت للطفل الذي يصحبني: لماذا لا نبدأ رحلة الاستكشاف من الهرم الاخير هناك .. ثم نعود للهرم الكبير .. قال لي ذلك الطفل : يافندم ..احنا نجيبك بس قرب الهرم الكبير و بعدين ارجع الحصان ..ولو كنت عاوز تروح هناك للهرم الصغير كنت لازم تقول لأبويا و كان لازم تدفع زيادة .. نظرت للطفل نظرة غضب ولم أقل له شيئا ..فقط نزلت من على الحصان وأنا أكتم الغيظ بداخلي .. تقدمت نحوه وانا أمنحه حبل اللجام امتنع عن ذلك وقال لي : ابويا منبه علي ماسيبش حد اروح الا بعد مايزور خيمة بيع العطور.. مش العطور او بس ..فيها كمان ورق البردي او حاجات مصرية جميلة .. لو سمحت نزورها شوية علشان عمي صاجب الخيمة هو كمان بيزعلش ؟ نظرت له نظرة اشفاق وفي داخلي بركان ..منحته للمرة الثانية مقاليد اللجام وقلت له وانا أصرخ صراخا يشبه الهدوء : امسك..امسك ..قبل ماطلع علي جتثك القديم والجديد ..امسك .. باندهاش مسك الطفل الحبل.. وعاد يركض بالحصانيين معا الى مكان فخ الاحصنة والابل .. تحسست محفظتي الجلدية مخافة فقدانها . وجلست على حجرة مسطحة على شكل مستطيل في أسفل الهرم الكبير ..وشعرت بحجمي الصغير جدا أمام عظمة هذا الهرم خوفو الذي يصل طوله الى 148 مترا .. طلبت قارورة ماء من بائع متجول ..منحته نفس الثمن الذي كان ينادي به .. شربت جرعتين فقط وافرغت الباقي ببطئ على رأسي … محبتي الدائمة