طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :14
عادة عندما أختلي بنفسي للكتابة، أحتاج الى طقوس خاصة للغوص في الذاكرة. هذه الطقوس غالبا ما تغيب عنا في هذه الظروف من الحجر الصحي، فالرجوع إلى الأمكنة الأصلية وتغيير الفضاءات، بإمكانه أن يضخ الذاكرة بشحنة قوية تساعد على رواية الأحداث كأنها شريط بصري . أقول هذا تحت تأثير رغبة جامحة للخروج إلى مقهى البيضاوي بمركب مدينة العرفان ..وطلب قهوة سوداء لأختلي في ركن مظلم إلى حدما، فأشرع في الكتابة . قد يتساءل البعض : ولماذا ذلك المكان دون غيره؟ ذات صبيحة من العام 2013 لم أعد اتذكر اليوم بالضبط، التقيت، قرب مقهى البيضاوي بمركب مدينة العرفان بالرباط، رجلا يشبه إلى حد كبير الفنان القدير محمد بنبراهيم، تطلعت إلى ملامحه جيدا فلم أستطع تمييزها، فمحمد بنبراهيم أعرفه جيدا وقد اشتغل معي في فيلم مسحوق الشيطان سنة 2008 ، ولا اظنني أنسى ملامح وجهه بهذه السرعة. لكن وبدافع الفضول، اقتربت منه، فإذا بي أمام رجل كفيف لايرى بتاتا وقد اتكأ على كتف صديق له، يمشيان في صمت وبخطوات متثاقلة. عندما لم يعد يفصلني عنهم سوى مسافة صغيرة جدا، أيقنت حينها أنه ليس هو محمد بنبراهيم، فعدت أدراجي إلى مقعدي في المقهى، ونظري لازال مرتبطا بالشخصين. بعد هنيهة توقف الرجلان أمام الصيدلية المتواجدة في نفس المركب، فسمعت الرجل يوصي رفيقه بشراء دواء معين، ومن نبرة صوته عاد الشك ليراودني من جديد، و بدون تفكير أو مراوغة قمت من مكاني هذه المرة واتجهت نحو الرجل مباشرة، و قلت له بنبرة تردد: السلام عليكم سيدي، أيمكن أن تكون أنت الممثل المغربي محمد بنبراهيم؟ رفع رأسه قليلا وبصوت مبحوح الى حد ما يشي بتعب باد عليه وقال : نعم، أنا هو . تجاهلت الشعور بالحزن الذي كاد يكمم فمي ويحجب صوتي فسألته مرة أخرى : أعذرني سيدي، لم أعرفك منذ الوهلة الاولى، أعذرني أرجوك، فأنا في حرج… قال لي مقاطعا كأنه يلتمس لي العذر : فعلا، فداء السكري أجهدني كثيرا وأخد بصري ولم أعد أقوى على الرؤية أو الحركة، وغير ملامحي كثيرا، ولكن من تكون أنت ؟ قلت له : أنا عزالعرب العلوي، ربما لن تعرفني من صوتي فقد مر على لقائنا خمس سنوات تقريبا. قال لي : أتقصد عزالعرب العلوي المخرج ؟ قلت له : بالضبط، قال بفرح وغبطة : يا الله ! كم أنا سعيد جدا بلقائك يا ولدي. والله اتذكرك باستمرار ..وأتذكر معاملتك الطيبة لي أثناء التصوير . توقف عن الكلام وتوجه الى صاحبه الذي كان يرافقه وقال له : هل تذكر حينما جئنا أول مرة للرباط لمستشفى الشيخ زايد وقلت لك أنه لى صديقا مخرجا هنا بالرباط "ولد الناس ..." ولكن ضاع مني رقم هاتفه، اتذكر ذلك؟ رد عليه صديقه وقال : نعم أذكر ذلك وقلت لي أنك اشتغلت معه في فيلم سينمائي. قال له بنبراهيم : لا،لا ... كان فيلما تلفزيونيا لكن بطريقة سينمائية. تبارك الله ، هذا هو المخرج صاحب فيلم أندرومان الذي كنت أحكي لك عنه عدة مرات ولم تكن تعرفه. فتوجه إلي صاحبه بالكلام فقال :لقد طال بحثه عنك ليهنئك عن نجاح فيلمك أندرومان. فقاطعه بنبراهيم ليقول لي : والله إنني كنت سعيدا جدا بما حققه فيلم أندرومان. حقا، سعادة الفنان لاتوصف حينما يذكره الآخرون بالخير ويثنون على عمله. استرسل الرجل في الحديث طويلا …تحدث عن مرضه وعن اشتياقه للتصوير والمهرجانات …وعن …وعن…. هي الذكريات وجلساتنا وحواراتنا من كانت تثقل كاهلي في تلك اللحظة المسروقة من عمر الزمان . ذكريات كانت ترغمني على تأمل وجهه وقسماته التي أنهكها المرض. استجمعت قواي حتى لا أنهار حزنا لما آل إليه حال الرجل، فمنحت لصاحبه رقم هاتفي، شكرتهما معا وانصرفت. لم يتم استعمال ذلك الرقم فيما بعد بالمرة، ولم يرن الهاتف… لم يتصل بنبراهيم ولا أي احد من طرفه ..لتكون الصدفة قد صنعت آخر لقاء بيننا، لقاء الوداع. بعدها بشهور قليلة، شاع الخبر المشؤوم، محمد بنبراهيم أسلم الروح لبارئها في مستشفي الشيخ زايد ودفن في بير جديد حيث كان يقطن في 8 ماي 2013، غادرنا الرجل الطيب بغير رجعة. مازلت أذكر فرحه وابتسامته ومهنيته العالية ونحن في فيلا بحي مابيلا بالرباط ، حيث كان تصوير فيلم مسحوق الشيطان. قال لي ذات صبيحة ونحن نستعد لتصوير مشهد التعذيب والألم يعتصره بعد أن اكتشف مؤخرا إصابته بمرض السكري : كم أنا حزين يا عزالعرب، أشعر بخيبة كبيرة من خيانة قسمت ظهري… قلت له : لطفك يارب، و من فعل بك ذلك ؟ وماهي هذه الخيانة ؟ قال وهو يغالب دموعه : خيانة الجسد، جسدي بدأ يخونني وأنا في أوج عطائي،خانني في وقت أنا في أمس الحاجة إليه ... نعم لقد قال ذلك بحزن شديد، وشعرت بالألم يعتصر قلبه الطيب. بمواساة أجبته، وانا أداري حزني قدر المستطاع ، بأنه لايزال بصحة جيدة ..وما هذه إلا وعكة صحية عابرة وستمر بإذن الله...، وأضفت : كم من واحد منا عاش بداء السكري عمرا طويلا وكم ممن قضوا نحبهم وهو في صحة جيدة، قلت وقلت...لكنه لم يكن يسمعني حينها...كان قد دخل في حوار عميق مع الجسد الخائن كما تصوره. اثناء التصوير كانت بعض آثار المرض تبدو جلية على ملامحه، فقد كان في بعض الاحيان يشعر بدوار مفاجئ ... وخوفا عليه، كنت قد كلفت أحدهم بمرافقته في كل تحركاته وبشكل دائم، رغم أنه كان يرفض ذلك باستمرار . لا أخفي عليكم أنني كنت شديد الإعجاب بهذا الرجل، كنت أتحين الفرص للاشتغال معه، نضج تجربته في السنوات الأخيرة قبيل مرضه كان واضحا للعيان، بل كانت طفرة لايختلف حولها إثنان . فمن يتذكر محمد بنبراهيم أيام الثمانينيات وبداية التسعينيات سيجزم لامحالة، بانه ليس الشخص نفسه، فطريقة فكاهته التي كانت تركز على تقليد لهجة "العروبي"، كانت لا تثير سوى طبقة معينة من المتفرجين، فكان بعيدا كل البعد عن الطبقة المثقفة والواعية العارفة بأمور الفن الحقيقي . أذكر ان صديقا لي بفاس ذات يوم، ونحن في مقهى النهضة بالاطلس، في انتظار الدخول لعرض سينما ريكس، حدثني كثيرا عن محمد بنبراهيم، وأسر لي بأن لقاء تاريخيا حصل بين محمد بنبراهيم وصلاح الطويل الفنان والمناضل المعروف آنذاك بمواقفه الثائرة. هذا اللقاء هو من غير الرجل رحمه الله من فنان فكاهي مقلد إلى ممثل أصيل، فنضجت طريقة تشخيصه وانتقل إلى مصاف الكبار، وتغير مفهوم الفكاهة لديه من نكت بسيطة إلى قضايا الوطن وهموم المواطن. فأصبح حضوره في الأفلام حضورا وازنا وملفتا للنظر . هذا الممثل المقتدر فقيد الشاشة المغربية، حسب علمي و من خلال معايشتي له أثناء التصوير، يستطيع على غير العادة أن يتنقل في سلم المستويات الدرامية والتعبييرية بطريقة الكبار. فيمكنك مثلا عند أدائه دورا ما في مشهد ما، أن تطلب منه نقصان أو زيادة طفيفة بنسب مئوية محددة كزيادة عشرة في المائة في منسوب الدراما على سبيل المثال، وحين تعود إلى خيمة الإخراج وتستقر أمام الشاشة ترى النتيجة…ياسلام ! تجد بأنه منحك تلك الجرعة المطلوبة من الدراما بالضبط بدون زيادة ولانقصان..فنان استطاع رحمه الله أن يصل إلى درجة عالية من الدقة. يعشق كلمة الواقعية في كل شيء، حتى حينما كان يتعرض للتعذيب من طرف محمد خيي في مشهد من الفيلم، كان هذا الأخير يشفق على حاله ويتعامل مع بخشونة مقبولة مراعاة لحالته الصحية، لكن ذلك كان يثير حفيظة محمد بنبراهيم فيصرخ : "لا ..لا..سمحوليا ..خص المشهد اكون واقعي ..كتفوني مزيان ..باش تكون الخدمة زينة." كان له ذلك، وتم التعذيب بشكل شبه واقعي، وتم تصوير اللقطة بنجاح ، وعندما ذهبت إليه للتعبير عن امتناني لمجهوده المضاعف، وجدته الرجل ينزف دما من حاجبه الأيمن، طلبنا الطبيب لكنه اعترض، طلب فقط لوازم الإسعاف الأولية واكتفى بذلك. مع هؤلاء الكبار تغيب الكلمات ويتعذر الوصف ...هذا الرجل عرف مسارا متميزا، خط طريقا في عمق الدراما المغربية وسار على دربه بخطى ثابتة. لايسعني وأنا أحكي حكايتي مع هذا الرجل، سوى آن أقول له حيث هو : "نم قرير العين فقد وفيت وكفيت، واجتمع فيك ماتفرق في غيرك، فلك الرحمة من بوابه والواسعة ولك محبة الناس، فهي جزء لا يتجزأ من محبة الله..." وإلى حكاية أخرى من حكاياتي الوثائقية ... فقط أطلب منكم تقاسم هذه الحكايات مع الأهل والأصدقاء حتى لاتظل حبيسة هذ المكان. محبتي للجميع