طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية التاسعة : اول ما شاهدت صورة هذا الرجل في فيلم قصير في سنة 2009 على ما أظن .. قلت لا يمكن لهذا الوجه السينمائي ألا يأخذ حقه من الشاشة الكبيرة..ملامح وجهه لها دلالات عميقة ..تحكي بمفردها لغة تعابير الوجه والصوت والحركة .. لازلت أذكر تلك الأسئلة الكثيرة التي طرحت علي في الندوة ، بعد أن شاهد جمهور المهرجان الوطني فيلم « أندرومان ».. ولعل من بين هذه الأسئلة التي كانت تردد كثيرا آنذاك وبشكل ملفت للنظر ..هي : من هو ذلك الشخص الذي لعب دور « بوغابة ».. لم يكن حينها "با حسن".. كما يناديه الجميع، معروفا لدى العامة. كان من رواد الحركة المسرحية باكادير ومن قبل كان قد أدي بعض الأدوار في أفلام قصيرة و في فيلم تلفزيوني على ما اعتقد ..كان اندرومان هو اول فيلم سينمائي طويل بالنسبة له .. لكن صدقه واحترافيته وتقاسيم وجهه المتفردة، كانت تنبئ بميلاد ممثل بحجم الكبار.. اشتغل معى باحسن في ثلاثة أفلام .."فيلم اندرومان من دم وفحم "وفيلم "الرقاص" .. وفيلم "كيليكس دوار البوم"... علاقتي ببسيزيف السينما المغربية لها وقع خاص على نفسي ..فانا اعتبره صديقا حميما او قل بالدارجة المغربية "عشيري" .. حيث أنه كان يقطن معي في نفس المنزل زهاء ستة أسابيع ونحن نصور فيلم "أندرومان" ببولمان.. نظرا لغياب وجود فنادق حينها في المنطقة ، وكنا نكتري فقط دورا جاهزة من العائلات مباشرة ...وكان في الكثير من الأحيان يتحملني وان اشكو له ما كنت أعانيه آنذاك من مشاكل متعددة والظروف المادية المتردية التي كان يمر بها الإنتاج .. وحتى حينما انتهينا من التصوير ..كان حسن بديدا هو من صاحبني على متن السيارة إلى الرباط ..
لا زلت أذكر ونحن نصور المشاهد الأخيرة في فيلم "أندرومان" حيث كان من المفروض على "با حسن" باعتباره بوغابة .. أن يتوجه في حوار إلى الممثل الكبير "محمد خيي" و أن يقول له: "وقف ولا غادي نفرغ فبوك هاد العمارة" ...كانت عبارة بسيطة لكن حسن بديدا كان في كل مرة يقول : "وقف ولا غادي نفرغ فيك هاد العمارة » اي كان يحذف كلمة الشتيمة وهي « بوك » أثارني ذلك وتوجهت إليه وقلت له ..باحسن لا ادري لماذا تنسى كل مرة كلمة "بوك" فهذه الشتيمة لها دلالات عميقة لان هذا المدعو اوشن مجرم في حق ابنته وفي حق القبيلة ..وهي عبارة ترسم ملامح الشخصية ويجب أن تقال كما هي حتى الان ... نظر الي" باحسن " كانه يقول لي بانه لاداعي لكل هذا الشرح وانه يفهم الامر جيدا ..مسك بيدي وأخذني جانبا وراء شجرة وقال لي : أعذرني يا صديقي راني حشمت من خيي..نسب ليه والديه ... ضحكت لما قاله وناديت على الممثل الكبير محمد خيي ولما حضر حكيت له حكاية الشتيمة ..ضحك هو الآخر كثيرا ..وشكره على عواطفه النبيلة وقال له : "باحسن"خذ راحتك راه التمثيل هذا... مرت السنون وظلت شخصية هذا الرجل تصاحبني دائما.. بنبله وطيبوبته وروحه الإيجابية.. أثناء كتابتي لسيناريو فيلم "دوار البوم".. وحينما كنت اشتغل على شخصية "أسعيد" الجندي البسيط المتواضع بطل فيلم دوار البوم..الذي يحب بصدق ويكره بصدق تذكرت "حسن بديدا" و هذا ساعدني كثيرا في رسم ملامح الشخصية كثيرا .. بل كنت أضيف إلى الشخصية بعض اللمسات الفنية والتعبيرية التي يجيدها "باحسن" أكثر من غيره... وحين تقابلنا ذات صباح في مقهى مجاور لمركز مهرجان مراكش من سنة 2015 لم تكن لي مع "باحسن" سوى عشرة دقائق للاتفاق حول اشتغاله في الفيلم وحول شخصيته..كان الأمر يسيرا جدا..فالدور على مقاسه تماما .. في اللقاء الثاني كان هو يوم بداية التصوير بورزازات.."باحسن " يحب دائما أن يحفظ حواراته مبكرا..له ذاكرة قوية وحين يتمكن من حواراته يمتعك بأدائه العميق وببراعته في استعمال قسمات وجهه.. لا أخفيكم القول أنه في بعض اللحظات وأنا أمام الشاشة الصغيرة تحت الخيمة الصغيرة للمخرج ، أتحول بفعل ابداعه من مخرج إلى متفرج… أول من أدخل البهجة على الوجوه التي لم تستأنس بعد ببعضها البعض في اول يوم تصوير.. هو "باحسن" ... هو أول من بدأ الرقص في "البلاتو" .. وأول من كان ينشر البسمة أينما حل وارتحل .. كان يستيقظ مبكرا جاهزا بملابس الشخصية.. مستعدا للإنطلاق...لا يكل ولا يمل من كثرة الإعادات بل في بعض الأحيان قد يأتي إلى "البلاطو" طول النهار وقد لا يشتغل بتاتا نظرا لظروف مختلفة..ورغم ذلك لا تفارق الابتسامة وجهه… ذات يوم وهذه شهادة في حق مخرج أناني ..طلبت من "باحسن " ان يتكآ بجسده على فوهة بئر وأن يصرغ بأعلى صوته : شكون انت وراه مكانسمع والو ...شكون انت ....كانت الساعة تشير الى الثالثة فجرا ..والبرد القارس .. قلت له كررها بدون انقطاع ..وفي نفس الوقت كان المشرف على المؤثرات البصرية يسقط المطر على حسن بديدا ..وبالتالي كان لزاما علي ان انتبه لاداء الممثل وكذا لزخات المطر الذى كان يتلاعب بها الريح ... اعدنا المشهد مرتين و في المرة الثالثة ..نسيت قول كلمة "قطع" حتي يتوقف الممثل عن الصراخ ..ودخلت في جدال مع صاحب المؤثرات البصرية الذي كان بالقرب مني على ضرورة وجود كثرة الامطار ..فطال حديثنا ..ونسيت "باحسن" و ظل يصرخ في البئر ..يصرخ الى ان بح صوته والتفت الى الفريق التقني وقال : وفين هاد المخرج ...واش باقي هنا ... تداركت الأمر وتوجهت اليه مسرعا وانا في غاية الحرج ..حضنته وطلبت المعذرة ..كان متفهما حتى في أحلك الظروف ..لازلت اذكر انه كان مريضا في الايام الاخيرة للتصوير .. درجة حرارته كانت مرتفعة ولم يعلن مرضه لاحد.. بل كان يداري مرضه خشية التأثير على برنامج التصوير خاصة وان رمضان كان يداهمنا .. لنهاية التصوير معه في هذا الفيلم أيضا حكاية أخرى ...فمن المعتاد ان الممثل حينما ينتهي من مشاهده نحتفل به و نحضنه ونودعه ..اخر مشهد في الفيلم لحسن بديدا كان في المقبرة .. لكن لم اعلن عن نهاية التصوير بالنسبة له ..مساعد المخرج نبهني لذلك لكننني تجاهلته ..باحسن ظل صامتا لم يقل شيئا ...حملنا اغراضنا واتجهنا نحو النهر وحينما بدآنا نستعد لتصوير لقطات خاصة بالممثل المقتدر امين الناجي ..آعلنت حينها عن نهاية التصوير لحسن بديدا ... صفق الجميع بفرح لهذا الممثل السيزيفي الذي يتعب جدا في تآدية آدواره بدون كلل ولا ملل ..حضنني مودعا وقال لي .. ماعليكش حسيتي بيا مابغيتش نهاية التصوير تكون في المقبرة ... في فيلم "دوار البوم" "باحسن " هو الوحيد الذي استطاع أن ينسج علاقة جد جد متميزة مع مدير التصوير اليوناني..كان يحبه كثير، وحينما كنت أختار لقطات مقربة لحسن بديدا. كان مدير التصوير يسعد بذلك غاية السعادة..ويمنحها وقتا اضافيا وجهدا اكبر ... أعرف أن ما قلته عن حسن باديدا آو سيزيف السينما المغربية ليس جديدا.. فالكل يعرف طيبته تمام المعرفة و لم أجد أحدا منذ أن عرفته يقول عكس ذلك… حسن له سحر خاص يفوز بقلب كل من يعترض طريقه … لكن سأقول لكم سرا خطيرا عنه ..احذروه انه لا يرحم.. لقد استولى على البندقية التي كانت معه في الفيلم وأخذها تذكارا معه وهي محشوة برصاص الحب الصادق ونكران الذات..وقد يصيبكم في أية لحظة في قلوبكم بمحبته التي لاتقاوم .. محبتي الدائمة لك صديقي "باحسن " وإلى حكاية أخرى من الحكايات الوثائقية ..