في مطلع عقد سبعينيات القرن الماضي، وعلى امتداد أكثر من عقد، لم نكن غالبيتنا، ونحن تلاميذ وطلبة نفهم كنه ما كنا نردد من شعارات في إضرابات واحتجاجات ضد الدولة؛ ضد وزارات التعليم المتعاقبة ومنها قولنا : "آش قريتيونا؛ قِرد، بقرة، برتقال"، مسفِّهين محتوى البرامج مستنكرين تدني المستوى العام للتربية والتعليم، محملين المسؤولية ل"النظام" الذي كان نكّس العديد من "الحقوق" الطلابية ومعها حقوق المعلمين التي كانت وراء انتفاضة 1965. بعد توالي السنين تدنى مستوى التحصيل المعرفي والفكري والمستوى التعليمي إلى ما هو أفظع، وبعدما تنورت بصيرتنا وتفتق وعينا؛ فطنا إلى أن مسؤولية التدني ليست منوطة بالنظام وحده وليست متعلقة بالبرامج وحدها، وإنما بالطرف الثاني في ثالوث المنظومة الاجتماعية/المجتمعية الذي هو الشِّغيل والذي ليس هو إلا رجال التعليم، جلهم، وليس الكل؛ مع كل احترامي للأشراف منهم؛ إذ ركبوا صهوة اللعبة وحولوا أيام الدراسة إلى مبكى، وغيروا حلقات الدرس إلى ندوات احتجاج، تقاعسوا بدعوى أنهم أكدح الكادحين وناضلوا بهدف رفع الأجر وخفض ساعات العمل، استمرؤوا الراحة المرتبطة بالعطل وألحوا على الإضراب حتى تحولت كل الأيام إضرابا، بله عطلا مؤدى عنها؛ فتكدست الأموال ملء الملايين والملايير في حسابات بنكية وانتفخت الأوداج واكتنزت الأبدان وصار المعلم مقاولا ومستثمرا ومتفرغا لفعل كل شيء، وباختصار صار يعيش على نفقات الدولة والمال العام باطلا، وحق فيه قوله تعالى (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم... سماعون للكذب وأكالون للسُّحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم (..؛ أما مريدوه في الفصول فيؤدون ضريبة الإضرابات المتتالية، ضريبة المعلم الذي يدرس ليلا ليحصل على الماسترز والدكتوراه ويحسّن سلم أجره إلى سلم خارج التصنيف أو يتفرغ إلى شغل في ديوان وزير أو سفير وتكون نتيجة طموحه في الشهادة العليا والمركز السامي هي العياء والنوم في القسم ويكون الضحية هم أبناؤنا عماد مستقبل الوطن في القرن الواحد والعشرين وهم الذين يصح أن يصيحوا اليوم "آش قريتيونا" ويصح لنا نحن في إطار المحاسبة الحقة والمطالبة بالعقاب أن نقول،"ماذا جنيتم نظير ما قدمتم، عدا دعوة أبنائنا إلى الدروس الخصوصية وبأثمان تحددونها خارج لائحة الأسعار". أن يطمح المعلم ليكون صحافيا في آن واحد "ويزاحم" المهنيين من الإعلاميين في قداسة المهنة أو أن يصبح دكتورا أو مسؤولا أو مدير ديوان وزير أو سفير، أو حكما رياضيا أو مندوبا للمباريات الرياضية، فكله مأخوذ على محمل الجدية والاحترام، لكن أن يتحول المعلم إلى "حلايقي" في المساحات الخضراء والساحات العمومية أو إلى "براح" في المناسبات الرياضية والحفلات والأعراس ليلا مقابل ما يشبع به البطن، أو إلى خطاط على الجدران أو إلى مساعد خياط يتفنن في غزل الخيط لإنتاج الجلابيب النسوية مقابل دراهم بخسة ويترك الفصل الدراسي على مسؤولية من تقدّم في السن من التلاميذ، فذلك أكبر معنى للسُّحت، لأن المعلم، والحالة هاته، لا يتنازل عن أجره الشهري الذي يتقاضاه عن وظيفته. من جملة ما عشته من سحت تناولتْه معلمتي وأنا في الابتدائي ب"ألبير دوري" (الحطيئة لاحقا) هو حينما كانت تلح علينا في إطار النشاط والتربية الأسرية باقتناء بيضة لكل تلميذ بدعوى أنها ستعلمنا كيف نحضر وجبة سريعة هي "لومليط"، فنكد نحن في اقتناء البيض وتفلح هي في تعليمنا ببيضة واحدة وتحمل الباقي معها، وفي الأسبوع الموالي تعلمنا كيف نوقد نارا، فتلح علينا على جلب علبة ثقاب لكل تلميذ، فتعلمنا وقيد النار بعود واحد من الثقاب، وتحمل معها الباقي من العلب. وهكذا دواليك؛ يستمر السحت، وبعد شهرين ونيف تعاود الكرّة، فتلح علينا بجلب البيض والطماطم هاته المرة، لتعلمنا كيف نحضّر وجبة "البيض وماطيشة" فتفلح في اكتناز عدد جديد من البيض وقرابة صندوق من الطماطم. أما اليوم، ومن جملة السحت الذي يأكله البعض أو ينوي أن يكون أكّالا له، فذلك الذي يتجلى من نكثة عاشها بقال مع معلم، حين اشترى هذا الأخير علبة معجون بأربعة دراهم وزوّد البقال بورقة التعاضدية للتعويض عن الأمراض، وطلب إليه أن يملأ له سعر المعجون، قبل أن يذكّره بأن الأمر لا يتعلق بصيدلية وإنما بمحل للبقالة.