تعتبر مندوبية التخطيط مؤسسة وطنية. وعندما تم تحويلها إلى مندوبية سامية، فلكي تسمو بالمهام الملقاة على عاتقها إلى درجة أعلى من المواطنة الحقّة، خاصة حين نعلم أن ارتباطها الأسمى هو مع المغرب الدولة والتاريخ وليس مع الحكومات والوزراء. فالحكومات تذهب وتأتي. وكذلك الوزراء، لكن المغرب باقٍ بدولته وتاريخه. كان الهدف الأساس من وراء تطوير المندوبية، لتنتقل من مندوبية عادية إلى مندوبية سامية، أن تكون إطارا علميا بحثا في منأى عن التجاذبات السياسية للحكومات الحزبية، والضغوطات التي يمارسها الحزب الذي يملك الأغلبية، وحتى عن "البوليميك" الحزبي الذي يطغى في بعض الأحيان بين الأغلبية والمعارضة. ولتحصينها من مختلف أشكال التدخلات والضغوطات من هنا وهناك، كان من الضروري تمكينها من وسائل البحث العلمي الدقيق لإنتاج المعلومة الإحصائية، ذات الوزن والوقع، انطلاقا من اعتمادها على معايير دولية متعارف عليها وليس على إرادة حكومة ومزاجية وزرائها. بناءً على هذا، من الطبيعي جدا أن تكون أرقام المندوبية مختلفة، إن لم نقل متناقضة، مع أرقام الحكومة. ليس من الضروري أن تكون معطيات هذه المؤسسة متناسقة أو منسجمة أو نسخة طبق الأصل لمعطيات الحكومة على غرار نموذج "نقل لصق" copier-coller))، وإلا فلا معنى لاستقلالية المندوبية ولا وجود لشخصيتها المعنوية. إن الاختلاف لا يفسد للودّ قضية، بل فيه رحمة. ومن دلائل رحمتها أن المعطيات التي تقدمها المندوبية تعتبر بمثابة صمام أمان، ليس لأنها تناقض أو تنفي معطيات الحكومة، بل لحثّ هذه الأخيرة على مراجعة وتدقيق الحساب. ولِمَ لا نقول دقّ ناقوس الخطر للتحرك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه درءًا لأية سكتة قلبية محتملة، خاصة إذا تمادت الحكومة في التلويح بأرقام هنا وهناك من دون تمحيص ولا تدقيق. فما الفائدة إذن من لعبة شدّ الحبل وإعلان الحرب على جهاز وطني فقط لأنه قدّم معطيات تخالف المعطيات التي تقول بها الحكومة؟ وهل من الضروري ألاّ تنطق جميع الأجهزة والمؤسسات إلاّ بما تنطق به الحكومة؟ هذه ليست ديمقراطية. لقد جاء الاستقبال الملكي للمندوب السامي للتخطيط ليعطي الموافقة على المعايير والمنهجية التي سيتم اعتمادها في عملية الإحصاء العام للسكان والسكنى التي من المقرر أن تنطلق في شهر شتنبر المقبل. ومن المعلوم أن هذه العملية من الأهمية بمكان من حيث إنها تسمح بجمع كمية كبيرة من المعلومات والمعطيات عن الأحوال العامة للبلاد خلال السنوات الأخيرة. وهي بكل تأكيد معلومات جديدة وهامة ستمكّن الخبراء والمحللين من وضع اليد على التغيرات التي عرفها المغرب في العقود الماضية. وهي نفس المعطيات التي ستفيد الحكومة نفسها في إعداد الميزانيات والمشاريع والاستراتيجيات المقبلة. فهل ستشكك الحكومة، مثلا، في المعطيات التي حصلت عليها المندوبية من عملية الإحصاء بدعوى أنها غير ذات مصداقية؟ مرة أخرى، هذه ليست ديمقراطية. إن مثل هذا السلوك يدفع إلى القول إن هناك محاولات ل"تكسير" المؤسسات وإفراغها من محتواها وتهميشها وإقصائها بل تدجينها من أجل إفقادها لدورها الوطني مما يفتح الطريق لسيادة فكر وحيد متزمت ومنغلق يطلق رصاصة الإعدام على الديمقراطية. لذلك، من الواجب حماية مؤسسة التخطيط.