أثيرت ضجة كبرى حول التقرير الذي قدمه مؤخرا المندوب السامي للتخطيط في شأن مستوى نمو الاقتصاد المغربي، فقد خلص التقرير إلى الإنذار من انكماش واضح. ونظرا لكون هذا الحكم غير معتاد، فقد طال التقرير منذ بروزه إلى الوجود تشكيك واسع، وذهبت بعض التحليلات إلى اعتبار تقرير المندوب مجرد شكل من أشكال المعارضة للحكومة، ونظرا لانتمائه السياسي تم اتهامه بتسييس مؤسسة رسمية. وقد تعزز التشكيك في تقرير السيد المندوب السامي بالاستناد إلى تقارير جاءت بعده، تؤكد المستقبل الواعد للاقتصاد الوطني. وقصد الخروج من وضعه الشاذ سارع المندوب إلى الانقلاب على تقريره، وسار في خط تقارير ترسم صورة ايجابية حول الموضوع. وإذ يعاب على المندوب التسرع في إصدار أحكام، واستدراكها بنفس السرعة، فإن ذلك يفصح ربما عن عطب وضبابية المعايير وعدم صلابة المعطيات التي استند عليها فريقه في تحليل الظرفية. إن أهم ما كان ينبغي المبادرة به هو استفسار القائمين على إصدار التقارير عامة حول شأن المؤشرات التي تم استعمالها في التمحيص، والحكم على الوضعيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المغربية. فالتوقعات العلمية تنبني أولا على الإسقاطات، التي تتأسس بدورها على متغيرين على الأقل يمتدان لفترة زمنية دالة إحصائيا. وبعد استخراج قانون يحكم منحى تطور معين خلال فترة معينة، ينتقل الدارس إلى مرحلة التوقع التي ستنبني بدورها على مؤشرين احدهما حقيقي، يتمثل في نتيجة دراسة السلسلة الإحصائية، وثانيهما مجهول نسبيا اذ عادة ما يستنتج من الظروف والتحولات، التي يعتقد أنها ستتحكم في الإسقاط. وبما أن الظروف تتغير علاقتها بالظاهرة المدروسة بين قوة ثبوت التأثير إلى انعدامه؛ فسيستحيل الاعتقاد بثبوت اثر العوامل؛ اذ منها ما يتقوى ومنها ما يضعف ومنها ما يختفي ومنها ما يظهر لأول مرة... ولكون الإسقاط غير متيقن من خطية سيره، فإن التوقع اقل وثوقية. ومن تم تتضح ضرورة الإفصاح عن أمرين: يتمثل الأول في الأدوات التي تم استعمالها، والمنهجية التي سلكت. حتى إذا اعتمد الغير غيرها من الأدوات والأساليب التي من شانها التأثير في المخرجات، تظل دائرة التفاوت مقبولة. ونظرا لحساسية الموضوع الاقتصادي، واثر الصورة السوداوية التي ترسمها التقارير في الاستقرار المجتمعي، وجلب الاستثمارات، وتحطيم التجارب السياسية... يفترض بشدة الإقرار بنسبية ما نتوصل إليه، والتحلي بجرعات كبيرة من التواضع والاحتياط من لغة الأرقام. لذا فإن العرض الذي قدمه السيد الحليمي على أساس حقيقة، وليس مجرد توقعات نسبية، قد يضع المؤسسات الرسمية في مواقف حرجة، وتفقد مصداقيتها عند ذوي القرار. فالمندوبية مؤسسة رسمية أمينة على تحليل المعطى الرقمي، ومكلفة بأن تضع رهن إشارة المؤسسات الحكومية معلومة، تتحلى بنسبة عالية من الصدق، والقرب من الواقع، وكفيلة بأن تجعل ما يبنى عليها من تصاميم واختيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية... يتمتع بحظ وافر من النجاح. لعل المشكلة الكبرى تكمن في إمكانية تساهل المؤسسات في إسناد مسؤولية الدراسات والإحصاء إلى مؤسسات ومكاتب ومجموعات وأشخاص... ربما لا تتوفر فيهم الأهلية ولا شروط البحث العلمي... فتنتج تقارير وصور مغلوطة حول الواقع، ان لم تفضح، تنبنى عليها مشاريع وقرارات، تنتهي إلى الفشل. والمفيد ان المنزلق الذي وقع فيه المندوب السامي، يقدم لنا فرصة ينبغي للسلطة الحكومية أن تستثمرها باتخاذ الإجراءات الضرورية لتحصين المرافق العمومية، وتضمن تدقيق المعطيات التي تقدمها، تفاديا لما من شانه أن يترتب عنها من جرائم مالية واقتصادية وسياسية واجتماعية...