لا يمكن لمواطن أن يلجأ إلى إحراق نفسه إلا إذا وصل إلى أعلى درجة من الخيبة والإحباط أو تعرض لاختلالات نفسية أو لضغوط خارجية أقوى من ذاته الصغيرة ونفسه الثائرة. فالحياة هي مشروع ينشئه الإنسان لنفسه، ويبنيه بعقله وطموحاته، وبأحلامه ومنجزاته. ولأننا اجتماعيون بطبعنا ويصعب علينا العيش خارج المحيط الاجتماعي، فإننا غالبا ما نتعرض لضغوط خارجية نواجهها أحيانا بأسلحتنا الطبيعية أو التواصلية أو حتى التدبيرية كالقانون والقضاء والتحكيم وأحيانا أخرى يصعب علينا مواجهتها فنشعر بالخيبة والهوان. والمراكشي الراحل مبارك الكرصي الذي أقبل على إحراق نفسه بحي السعادة في مراكش وهو بعد في عنفوان الشباب، واحد آخر من الذين ضاقوا ذرعا بالضغوط الخارجية، فاستسلم في لحظة ثورة وهيجان كما استسلم قبله آخرون. نحن نفقد يوميا آلاف المواطنين الذين يغادروننا إلى الدار الأخرى، وتلك سنة الحياة، فلكل نهاية لم يصنعها لنفسه إنما قادته الأقدار لها. والصحافة والتلفزيون لا تذكر من أمواتنا إلا من امتلك الشهرة في حياته أو كسب الجاه والمال. وبعيدا عن الأسباب التي قادت مبارك إلى الانتحار فقد افتقدنا فيه إنسانا يحمل على عاتقه مسؤولية عائلة تتكون من سبعة أفراد يعيلهم بجهاد يومي بين دروب المدينة وأحيائها لكسب لقمة العيش. من المؤكد أن مبارك تربى على الصبر والتحمل والكفاح والعطاء ولولا ذلك لما صمد كل هذا الصمود وسط عائلة متعددة الأفراد ضعيفة الزاد، ولعله كان يعتز بهذه الصفات التي اكتسبها واعتز بها باعتبارها أسمى من المال. ولعله لم يكن يتوقع وهو المتواضع البسيط أن يخلق كل هذه الضجة وأن يرحل اسمه بين المدن والعواصم باعتباره نسخة أخرى مطابقة لنموذج التونسي محمد البوعزيزي. لعل مبارك الكرصي انهار في لحظة ضعف بسبب الضغوطات الخارجية وما أكثرها، فاستسلم لشيطان التمرد الداخلي حين عجز عن التصدي لتصرف غير مسؤول من طرف قوى خارجية تزهو بسلطتها ولا تتقن التواصل مع المواطنين. كيف ما كان الحال فمبارك الكرصي ليس سوى نموذج لآلاف المواطنين الذين تكاد النار تضيء بين جوانحهم من مشاعر الغضب والخيبة والخوف والهوان إن هي أذكتها الحسرة والقهر. فحين تصمت لغة العقل ويركب التمرد خيله ويحمل سيفه البتار، فلا سلام ولا كلام إلا الهلاك والدمار : لم يغز قوما ولم ينهد إلى بلد إلا تقدمه جيش من الرعب نحن نعرف أن النفس أمانة وحرمتها كبيرة عند الإنسان، فلا يحق للمرء تدميرها ما دام ليس هو الذي صنعها، ولكننا أمام وضع ينفلت فيه الصواب، وتتبخر فيه القيم، وتغيب عنه الملل والعقائد. نحن أمام وضع يفقد فيه الإنسان السيطرة على نفسه، فلا تنجلي أمامه إلا أحاسيس الغبن والعناء والظلم، وكلها معادية للأديان والقيم. إن المنتحر لم ينتحر لحظة انتفاضته الذاتية، ولكن المؤكد أنه انتحر قبل ذلك نفسيا عشرات المرات إن لم نقل أكثر، ففكر ودبر، ثم فكر ودبر، ثم احتار وتحير، فلم يجد للحل طريقا، ولم تمتد إليه يد، ولم تداعبه أخرى لتهدئ من روعه وحيرته. وكم كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر رائعا حين وصف المنتحر بطفل صغير لم تطاوعه أعضاؤه على الوقوف فسقط. ولعل مبارك وغيره وصلوا جميعا إلى درجة عالية من الإحباط، فلم يهتدوا إلى طريق الوصول إلى أهدافهم رغم أنها واسعة، ودخلوا أكثر من مرة إلى بيوت القلق والاكتئاب التي تشبه إلى حد ما بيوت "دراكولا" المخيفة، فلم يعد يربطهم ببهجة الحياة رابط، ولم يعد يصلهم بلذة العيش خيط. إنهم آلاف المواطنين ممن تاهت بهم السبل، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، فلا هم صنعوا لأنفسهم أملا يعيشون عليه، ولا هم صارعوا من أجل تحقيق هدف وضعوه نصب أعينهم. فمن أجل مبارك ومن أجل هؤلاء جميعا يجب أن نتحرك اليوم لحماية هذا الوطن من مشاعر التمرد والخيبة والقهر والاستصغار. فالنار التي قد يصعب غدا إطفاؤها هي التي نوقدها اليوم بإهمالنا ونغذيها بعدم المبالاة، ولعلها نفس النار التي يوقدها الإحباط والانتقام يوميا لدى آلاف المعطلين والمقهورين والتائهين. فالأب في بيته، والأستاذ في قسمه، والطبيب في عيادته، والمسير في مكتبه، والشرطي في عمله والصحفي في جريدته كلهم مسؤولون اليوم عن تربية جيل يؤمن بتحمل المسؤولية، والثقة بالنفس، والقدرة على مواجهة الصعوبات وتحديات الحياة. وهؤلاء جميعا هم من يدفعون اليوم بجيل المغرب إلى هذه السوداوية وسوء تدبير الذات وانعدام النضج وضعف الحصانة النفسية، وعلينا أن تعترف بهذا الضعف لكي نعالجه ونتخطاه، ولكي نزرع في أنفس المواطنين التائهين والحائرين قيم التفكير الإيجابي والتفاؤل بالغد والإيمان.