إنهاء "أزمة طلبة الطب" يطرح إشكالية تعويض الأشهر الطويلة من المقاطعة    هكذا علق زياش على اشتباكات أمستردام عقب مباراة أياكس ومكابي تل أبيب    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسبانيا حين تتأرجح بين الملكية والجمهورية
بقلم: محمد الروين


مقدمة:
المهتم بتاريخ إسبانيا في علاقتها بنظامها السياسي يثير انتباهه تردد الشعب الإسباني في الاختيار بين النظامين الجمهوري والملكي، حيث لازال هذا التردد سيد الموقف إلى حدود اليوم. ويرتبط هذا الأمر من جهة بأسباب تاريخية عرفت فيها إسبانيا نظاما جمهوريا أطاح به الدكتاتور فرانكو مما أدخل البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة، كما يرتبط من جهة أخرى بالتطورات التي عرفتها البلاد فيما يتعلق بترتيب العلاقة مع بعض المناطق خاصة منطقتي كاطالونيا والباسك المتطلعتان للاستقلال والرافضتان للخضوع لنظام ملكي. ناهيك عن الفضائح التي ارتبطت بالعائلة المالكة قُبيل تنازل الملك خوان كارلوس عن العرش لولي عهده الأمير فيليبي. وهو التنازل الذي لعب فيه رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق الاشتراكي فيليبي غونزاليس دورا رئيسيا (من بين ثلاث شخصيات إسبانية رفيعة، إضافة لمدير المخابرات ومدير القصر الملكي)، نجح فيه بإقناع خوان كارلوس بالتنازل عن العرش لصالح الأمير فيليبي حفاظا على الملكية التي كانت مهددة بالزوال في أواخر عهد الملك السابق بسبب مغامراته العاطفية وفساد الأقرباء. وهي معطيات تم الكشف عنها نهاية شهر أبريل المنصرم في كتاب "الشوط الأخير" للصحفية "آنا روميرو" الذي نزل إلى المكتبات الإسبانية وباع خلال يومين 15 ألف نسخة. وهو ما بعث الحياة من جديد في نقاش حيوي ما فتئت إسبانيا تعرفه حول شكل النظام وطبيعته، زكاه الصعود الكبير لليسار الجديد ممثلا في حزب بوديموس في الانتخابات البلدية الأخيرة، وهو يضم تيارات لا تخفي نفسها الجمهوري.
الجمهورية الأولى:
عرفت إسبانيا الجمهورية الأولى في تاريخها لكنها لم تعمر طويلا حيث لم تدم أقل من سنة1 بفعل ضغط القوى المحافظة و المرتبطة بالنظام الملكي، هذا النظام لا زال يحتل موقعا مهما في المخيال السياسي و الاجتماعي لشرائح مهمة من الشعب الإسباني الذي لم تستطع لحد الساعة القوى الثورية و الجمهورية إقناعه بعرضها السياسي. فالملكية لا تزال هي القيمة السياسية المثلى القادرة على تجميع شتات الشعب الإسباني المتعدد القوميات و الأعراق، خصوصا و أن قوى اليسار في هذه المرحلة لم تستطع التوافق على مشروع موحد و أجندة سياسية واضحة. نشير إلى أن دستور 1869 في مادته 37 ينص على أن نظام الحكم في الدولة هو الملكية و أن شخص الملك ينبغي تعيينه من طرف البرلمان. و حيث أنه كان كرسي الملك شاغرا، أسند البرلمان الوصاية على العرش إلى الجنرال الشهير "سيرانو" الذي عين بدوره الجنرال "بريم" رئيسا لحكومته و الذي كان من أشد المدافعين عن الملكية لكن في حلة ديموقراطية. في جو سياسي تعالت فيه الأصوات المطالبة بالجمهورية و بالخيار الفيديرالي لحسم مشكلة التعدد الإثني و القومي في إسبانيا.
حالة الاستقطاب هاته و عدم الاستقرار دفعت جزءا عريضا من الجمهوريين إلى التنازل للملكيين لاستقدام ملك سليل عائلة ملكية لسد الفراغ الدستوري حيث كان البلد بدون ملك منذ انطلاق حالة الاستقطاب هاته. وبالفعل دخل الملك الجديد "أماديو سابويا" الإبن الذكر الثاني لفيكتور مانويل الثاني الإيطالي إلى مدريد ليؤدي القسم أمام "بريم" رئيس الحكومة ثم أمام مجلس النواب. كانت فكرة استقدام ملك من إيطاليا، أي ملكا أجنبيا مبررا كافيا لرفضه كملك من طرف رجال الدين و النبلاء و علية القوم من الأرستوقراطيين الأمر الذي عزز النزوع نحو الجمهورية داخل إسبانيا.
الحكومة المستشعرة للخطر الذي يهدد الملك و معه التيار الملكي و المحافظ، أصدرت مرسوما ملكيا في 24 يناير 1874 يفرض الوقار و الولاء للملك من طرف كبار الضباط و رجال الدولة. لكن هذا المرسوم زاد الطين بلة حيث ارتفع منسوب رفض بل ازدراء الملكية. الملك الإيطالي أماديو أدرك صعوبة الموقف رغم دعمه من طرف الحزب الملكي الراديكالي بزعامة بريم و الحزب التقدمي.
وبالضبط في يوم 07 فبراير 1873 تعرض الملك لمحاولة اغتيال دفعته مباشرة لتقديم استقالته. عادت فكرة الجمهورية من جديد لكن هاته المرة مصطدمة بعقبة دستورية، حيث الدستور لا يسمح بإمكانية الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري. فالاقتراح الذي يناقش داخل غرفتي البرلمان يتداول في مسألة غير قانونية و إقرار الجمهورية يؤسس لشيئ ضد الدستور. أعلن "روفيرو" رئيس مجلس النواب وقتها عن تقديم استقالته احتجاجا على هذا الأمر. أعلنت الجمهورية داخل البرلمان بموافقة 258 صوتا ضد 32 صوتا2 في غياب رئيس مجلس النواب و الحكومة المستقيلة التي كانت قد تسلمت سلطاتها من الملك المستقيل "أماديو". بعد ذلك بدأت توجه انتقادات لاذعة إلى الملكية من طرف الطبقة السياسية بما فيها المساندة للنظام الملكي. هذا النظام الذي انحاز للكنيسة و لرجال المال و الأعمال على حساب شرائح واسعة من المجتمع الإسباني، كما عمل على تركيز السلطة السياسية و الإدارية دون أن يأخذ بعين الاعتبار تعدد القوميات في البلد. أعلن رئيس الجمهورية في الجمعية الوطنية عن إرادة الثوار باستمرار العمل بأحكام الدستور ما عدا الشق المتعلق بشكل النظام أي بالملكية في انتظار وضع دستور فيدرالي يناقشه و يصادق عليه البرلمان التأسيسي. لكن القوى المحافظة من الملكيين أقبروا حلم اليسار الإسباني و الذي كان في الحقيقة حلم الشعب الإسباني عبر القيام بانقلاب سنة 03 يناير 1874 من طرف الجنرال "بافيا" و تم حل البرلمان و عادت الأمور بالتالي إلى المربع الأول، حيث "لم تجد الجمهورية الأولى تربة خصبة تزرع فيها قوانينها و مؤسساتها" 3
الجمهورية الثانية:
استأنف الجمهوريون والتقدميون معركتهم ضد النظام الملكي و الملكيين. و يمكن توصيف هاته المرحلة بالموجة الجمهورية الثانية التي انطلقت مع دستور 1931. حيث انصبت جهود الحركة اليسارية على الجبهة القانونية و الفعل التشريعي داخل البرلمان من أجل إحداث قطيعة دستورية مع النظام الدكتاتوري الملكي المتسلط، مستلهمة مبادئها الكبرى من النظام الدستوري الإسباني لسنة 1812. استثمر الثوار وجود الملك بديار المنفى محاولين تغيير شكل الدولة من خلال تحديث البناء المؤسساتي للدولة تنزيلا لقيم و مبادئ الثورة الفرنسية المؤسسة لنظام جمهوري مرتكز على مبدأ السيادة الشعبية، فصل السلطات، علمانية الدولة و إلغاء الامتيازات الاقتصادية و الاجتماعية للكنيسة. مع تبني إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 الذي اعتمدته فرنسا رسميا سنة 1791. وهو الذي ينتصر لحقوق المواطنة، فصل السلطات و سيادة القانون مكرسا مبدأ المساواة بين الجميع.
حقيقة كانت هذه المبادئ المشكلة لجوهر الفلسفة الإنسانية و التنويرية مبادئ جذابة للثوريين و الجمهوريين الإسبان الذين يعتبرون أن معركتهم مع المحافظين لم تنته بعد. لكن أمام تفاقم المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية و عجز الحكومة عن إصلاح الأوضاع، تم الإعلان عن حل البرلمان و الدعوة لانتخابات عامة و سمح لأول مرة لانتخاب المرأة يوم 19 نونبر 1933. شارك الشعب الإسباني بكثافة في هاته الانتخابات معلقا آمالا كبيرة عليها أملا في الخروج من الأزمة المعقدة. لكن هاته الانتخابات عرفت فوز اليمين ب 227 نائبا و 144 نائبا عن حركة الوسط و 101 نائبا عن الاتجاه اليساري. كان اليمين في هاته المرحلة أكثر تنظيما و أكثر قدرة على إقناع الناخبين من اليسار. أصبحت الجمهورية بيد اليمين، الأمر الذي دفع اليسار إلى التفكير في توحيد صفوفه و تجميع جهوده استعدادا للثورة على اليمين المحافظ المدعوم من طرف النبلاء و الأرستوقراطيين و رجال الدين. بعد فوز اليمين دخلت البلاد في دوامة من العنف و العنف المضاد و انتشر السلاح في صفوف النقابات و الأحزاب. احتل الثوار مراكز الحرس الوطني و مقرات الأمن و سقط الجرحى و القتلى بالعشرات و اعتقلت الحكومة اليمينية آلاف الثوار المطالبين بالجمهورية. كما تمت محاصرة المظاهرات المنتشرة في أجزاء كبيرة من التراب الإسباني. و تقدمت الأحداث سنة 1935 وسط مناخ من التوتر و انعدام الثقة بين كل الأطراف، توجت بسقوط الحكومة يوم تاسع دجنبر من نفس السنة. و أعاد رئيس الجمهورية الرئيس المستقيل لإدارة الحكومة مع إصدار قرار بإجراء انتخابات عامة يوم 16 فبراير 1936. فاز اليسار في هذه الانتخابات متوجا مسيرته النضالية من أجل الحرية و العدالة. في هذه الفترة بالضبط حاول فرانكو التسلل في سرية للمغرب خوفا على حياته من اليساريين. لكن حزب الكتائب قام باغتيال أحد أفراد الحرس المدني، الشيء الذي أشعل فتيل الأزمة في ظرف سياسي دقيق. فعمت الفوضى في الشارع الذي لم يكن في حاجة إلى المزيد لإشعال الفتنة نظرا لحساسية الظروف التي يمر بها البلد. و عليه انقسمت البلد إلى اتجاهين؛ اتجاه مناصر للجمهوريين و آخر مناصر للنظام الملكي ذو مصالح طبقية ضيقة. انتصر في النهاية الاتجاه الثاني بزعامة مجلس الدفاع الوطني مؤسسا شرعيته على الانتصار العسكري ضد الحركات الجمهورية و اليسارية. قاد هذا المجلس الجنرال الحديدي الدكتاتور فرانكو، الذي ألغى شرعية الجمهورية بعدما صادق مجلسه على إعلان حالة الطوارئ. وأصدر نفس المجلس مرسوما في 29 شتنبر 1936 عين به فرانكو رئيسا لحكومة الدولة الاسبانية، هذا الأخير أصدر بدوره مجموعة من المراسيم أصبح بفضلها يتمتع بصلاحيات واسعة كما راهن على التحالف مع الملكية من خلال إعلان خوان كارلوس ملكا للبلاد.
يومه الاثنين 02/06/2014، أعلن هذا الأخير تنحيه عن العرش بمحض إرادته بعد أن أطفأ شمعته السادسة و السبعين. نشير إلى أن الملك خوان كارلوس لعب دورا مهما في التحول الديمقراطي في إسبانيا المفضي إلى دستور 1978 مؤسسا بذلك نظام الملكية البرلمانية ضدا على إرادة فرانكو الذي كان يميل إلى تأمين نظام عسكري دكتاتوري بغطاء ملكي. والحق أن جزءا من الطبقة السياسية كان على علم بما أقدم عليه الملك حيث أنه خاض مشاورات و نقاشات عدة قبل ذلك. ويمكن القول أن ما أقدم عليه الملك وضع مؤسسات الدولة في ورطة دستورية حقيقة. حيث أن الفقرة الخامسة من المادة 57 من الدستور الإسباني 4 تقول أن تخلي الملك عن الحكم يجب أن يكون بمقتضى قانون تنظيمي الأمر الذي دفع مجلس الوزراء برئاسة "ماريانو راخوي" إلى الاجتماع يومه 03/06/2014 أي يوما واحد بعد إعلان التنحي و هذا له دلالته القانونية و السياسية. تمت الموافقة على القانون و أرسل على عجل إلى البرلمان بغرفتيه قصد المصادقة عليه حفاظا على السير الطبيعي للمؤسسات في أجل أقصاه 18/06/2014.
وبالفعل تم ذلك و أُعلن ابن الملك فليبي السادس ملكا لإسبانيا يوم 19/06/2014 من بناية القصر الملكي بمدريد أمام الآلاف من الاسبان. إذن مرت عملية نقل المُلك من الأب إلى الابن من حيث الشكل القانوني و الدستوري بشكل سليم. و هذا يرجع بالأساس إلى وجود الحزب الشعبي في الحكومة و حيازته الأغلبية بالبرلمان. فهو حزب يعتبر سليل الفرانكوية و مرتبط عضويا بالملكية. غير أن البعض يطرح السؤال هو ماذا لو وجد اليسار في الحكم بدل الحزب الشعبي في هذا السياق التاريخي الدقيق، حيث بدأ الجو السياسي العام ينفر من الملكية المثقلة لكاهل ميزانية الدولة؟ ما هو موقف الشارع الذي خرج في جزء مهم من تراب إسبانيا مطالبا بالاستفتاء حول المحافظة على النظام الملكي أو السير نحو الجمهورية الثالثة؟ ما هو موقف طلبة الجامعات الذين رفعوا لافتات على جدران الجامعة تطالب بحق الإسبان في تقرير مصير الملكية؟
إنها أسئلة مُزعجة للحزب الشعبي الحاكم لا يستطيع تقديم أجوبة ملموسة لها، سوى المقاربة الدستورية الشكلية؛ حيث بالفعل لا يمكن السير نحو الاستفتاء إلا عبر حل غرفتي البرلمان الاسباني مجلس النواب ومجلس الشيوخ. حيث ينص الفصل 168 من الدستور الإسباني على التالي:
" 1- إذا تم اقتراح المراجعة الشاملة للدستور أو الجزء الذي يتعلق بالباب التمهيدي، أو الفرع الأول للفصل الثاني من الباب الأول، أو الباب الثاني، تتخذ الموافقة على المبدأ بأغلبية ثلثي غرفتي البرلمان و يُحل الكورتيس مباشرة.
2- يجب على الغرفتين المنتخبتين أن تصادق على القرار و تشرع في دراسة نص دستوري جديد الذي يجب أن يوافق عليه بأغلبية ثلثي غرفتي البرلمان.
3- تخضع موافقة الكورتيس العام على التعديل الدستوري للاستفتاء للتصديق عليه."
وبالتالي لا يمكن السير في اتجاه الاستفتاء ما دام الحزب الشعبي متواجدا في الحكومة و يحوز أغلبية المقاعد بالبرلمان. لكن ماذا عن ضغط المعارضة والشارع في آن واحد؟
يمكن القول أن الملكية في إسبانيا فقدت بعض عناصر شرعيتها؛ لقد ساهمت بالفعل في عملية الانتقال الديمقراطي، لكن هل لا يزال هناك مبرر لوجودها بعد أن تم تعزيز حضور قيم الحداثة السياسية في المشهد المؤسساتي الإسباني كما يطرح البعض؟ و هل تنسجم هاته القيم و امتياز النطفة في توريث الحكم و نقله من الأب إلى الإبن؟
عميد الاشتراكيين فليبي غونثاليث في تصريح لجريدة الباييس 5 اليسارية النزوع، أثنى على الملك و قال إن ما قام به خوان كارلوس سيعطي نفسا جديدا للحياة السياسية في إسبانيا، حيث يظهر جيل جديد من السياسيين. مؤكدا أنه كان في مستوى المسؤولية و جعل المؤسسة فوق شخصه. و عن سؤال حول الأسباب التي دفعت الملك للتنحي في هذا الوقت بالذات أجاب فيليبي غونثاليث أن المسألة مرتبطة بذهاب الملك للسياحة في إفريقيا بدولة بوتسوانا في ظرفية اقتصادية صعبة تواجهها إسبانيا، و تورط ابنته كريستينا وزوجها "أوردانجرين" في قضية فساد و تهرب ضريبي و تبييض أموال.
"كايولارا" زعيم حزب اليسار الموحد الذي يضم ضمن صفوفه الشيوعيين الإسبان كان من بين القادة الحزبيين اللذين استقبلهم الملك خوان كارلوس قبل التنحي عن الحكم طالبا رأيهم فيما سيقبل عليه، هل هو في مصلحة الوطن كما يعتقد أم أن مصلحة إسبانيا تقتضي خلاف ذلك. كايولارا بعد أن أثنى على الملك و شكره قال أن ابنه فيليبي السادس ربما يكون رجل المرحلة. لكنه سيعمل كل ما في وسعه لإقناع الشعب الإسباني بتبني أطروحة الاستفتاء لاتخاذ قرار تاريخي بخصوص الاحتفاظ بالملكية أم السير نحو الجمهورية.
الدروس المستفادة عربيا:
من جانب آخر، و بحكم الاهتمام بموضوع الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي الذي يشهد منذ مطلع 2011 موجة انطلاق لحركات اجتماعية مطالبة بالديمقراطية و الكرامة و العدالة الاجتماعية بعد أن عرفت مناطق أخرى في العالم مثل جنوب أوروبا كإسبانيا والبرتغال ثم أمريكا الجنوبية مرورا بأوروبا الشرقية، فإننا نجد أنفسنا كعرب في مواجهة أسئلة أساسية، مع وعينا باختلاف السياقات التاريخية و الحضارية. لكن من المهم، كما يقول الدكتور عزمي بشارة، 6 أن ندرس السياق، لماذا و كيف، في إطار تحليله لظهور المجتمع المدني في أوروبا ومحاولة البحث عن بعض عناصر هذا الظهور في أفق استثمارها في بناء الديمقراطية في الوطن العربي.
هل يمكن أن تتحول الملكيات في عالمنا العربي، وهي بالمناسبة ثمان أنظمة تضم المغرب والأردن وبلدان الخليج، إلى ملكيات دستورية برلمانية حقيقية عنوانها الأبرز الملك يسود ولا يحكم؟
هل تستطيع المعارضة في عالمنا العربي فرض أجندتها أو جزء منها على السلطة فيما يخص شكل النظام السياسي؟ وهل نملك معارضة حقا في عالمنا العربي على شاكلة المعارضة اليسارية و الجمهورية في إسبانيا ؟
وفي حالة رفضها لهذا التحول الذي يخدم مصلحة الملكيات في البقاء ومواكبة العصر، هل يمكن اعتبار طرح اقتراح الجمهورية كبديل للأنظمة الملكية في العالم العربي التي حولت الأوطان إلى إقطاعيات و ملكت الأرض و الإنسان ضدا على قيم المواطنة و المساواة؟
إن حاجتنا أكثر في الوطن العربي لطرح سؤال تغيير أنظمتنا السياسية أو تطويرها من أنظمة متغولة على شعوبها إلى أنظمة ديمقراطية تضع المواطن ضمن أولوياتها، بطريقة لا تجعل شكل النظام السياسي هو المهم؛ ذلك أن الأكثر أهمية هو أن يحقق النظام المعني (ملكيا كان أم جمهوريا) الديمقراطية بقيمها الكونية المتعارف عليها، و تأتي قيمة الحرية على رأس هذه القيم. حينها يصبح شكل النظام السياسي مجرد تفصيل على هامش المتن.
1الدكتور أحمد السوداني" الهوية السياسية للملكية البرلمانية في إسبانيا- الجذور التاريخية والبناء الدستوري". الطبعة الأولى. الرباط.2011 . صفحة 128
2 الدكتور أحمد السوداني" الهوية السياسية للملكية البرلمانية في إسبانيا- الجذور التاريخية والبناء الدستوري". الطبعة الأولى. الرباط.2011 . صفحة 134
3 الدكتور أحمد السوداني. "الهوية السياسية للملكية البرلمانية في إسبانيا". الرباط . الطبعة الأولى. 2011. صفحة 136 .
4 نشير هنا إلى دستور 1978 . دستورالتحول الديمقراطي في إسبانيا.
5 يومية إسبانية مقربة من اليسار الإسباني عدد: 02/06/2014
6 الدكتور عزمي بشارة . المجتمع المدني – دراسة نقدية " مع إشارة للمجتمع المدني العربي " ص 237،238 / مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.