«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُم عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ» [سورة المائدة 54] بين أَخْطَر، وأَعْظَم ما سَعَى إليه المُتَأَسْلِمُون، بِكُلّ أطيافِهِمُ، هو إقامَة الحَدّ على مَنْ اعْتَبَرُوهُم «مارِقِين» و خارجِين على الدِّين، أو يَقْدَحُون في رُموز الدِّين، دون مُراعاةٍ لقدسيتِها، وتَعاليها، أو لِما تَمَيَّزَتْ به من انْفِصالٍ عن الَشَر. هذا ما كانتِ الكنيسَة، في القرون الوسطى تفْعَلُه، وحوَّلتِ الدٍّين، بموجَب هذا الأمر، إلى حانُوتٍ كبير للبيع والشِّراء، وتَمَّ، بالتَّالِي، تحويل الدِّين، نفسِه، إلى ذَرِيعَة للمُتاجَرَة، والتَّلاعُب بِذِمَم النَّاس، ما سَهَّل تحويل الدِّين إلى سَيْفٍ، أو إلى مِقْصلَة لِجَزِّ الرُّؤوس وقَطْعِها. ولعلَّ أخطَر ما يمكن أنْ تَتَِّهمَ به إنساناً ما، خصُوصاً في مُجْتمعاتٍ يَسْتَشْرِي فيها الدِّين بهذه الصُّورَة، هو «الكُفْر» و «زعزعة عقيدة مؤمن» و «الإساءة إلى [الرسول] أو إلى الله» أو تَرْكِ عقيدة، مُقَابِلَ غيرها من العقائد. وخطُورَة هذا الأمْر، تأتِي من كََوْن الدِّين هو الحَلَقَة التي تَتَّسِمُ فيها النُّصُوص والأفعالُ بنوع من المُرُونَة، أو «الفَجاجَة» التي يَصْعُبُ معها القَطْع، أو الحَسْم النِّهائِيّ في نازِلَةٍ من النَّوازِل. التاريخ يكشف هذا، وأعني، تحديداً، تاريخ قراءة النُّصوص ونفسيرها، أو ما يجري عليها من تأْوِيلاتٍ، في الإسلام، كما في غيره من الدِّياناتِ. ف «الإساءة إلى اللَّه»، كما يبدو، مثلاً، في النِّقاش الدَّائِر حول مقترح القانون الجِنائِيّ الذي تقدَّم به وزير العدل، وهو أحد قياديِّي حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، وهي صيغة من بين غيرها من الصِّيَغ التي تَمَسّ الدِّين، أو لها علاقة بالدِّين، هي من الصِّيَغ التي تَتَّسِم بهذه الفَجاجَة في التفسير والتأويل، أو ما يمكن أن أعْتَبِرَهُ شَططاً في قراءة النصوص، أو تَحْرِيفِها، وتأويلِها بالأحرى. فالقَصْد إلى تَجْرِيم الإنسان بالدِّين، أو استعمال الدِّين لِإدَانَة الإنسان، بما في ذلك ذات اللَّه التي هي ذاتٌ لها علاقة بالأديانِ السماوية كُلِّها، وليستْ ذاتاً تَخُصُّ المُسْلِمِين دون غيرهم، هي نَوْعٌ من التَّرْهِيب بالدِّين، والقَفْز على حقيقة علاقة الإنسان بالدِّين أو بالإيمان، أو بما ينبغي أن تقومَ عليه طبيعة علاقة الإنسان بالمُعْتَقدات، وباختياراته، التي، غالباً، ما يَحْكُمُها الوعي، والاقْتِناع، والمعرفة بما تقوم عليه هذه العقيدة أو تلك من أُسُسٍ، وما تدعو إليه من مباديء، والمعرفة بأصُول هذه المعتقدات، وما جاء فيها من نصوص، لا ما يَحْجُب هذه الأصول، ويُخْفِيها، أو يجعل الفروع أُصولاً، أو هي النصّ الأصْل الذي لا أصْلَ يَسْبِقُه، أو يَلِيه. في الإسلام، الله «قادِرٌ»، و«يعلَم ما في الصُّدُور»، و لا أحدَ يَمْكُر عليه، لأنَّه هو «خَيْرُ الماكِرِينَ». فهو خالِق البَشَر، وهو رَبُّهُم الذي لا إلَهَ إلاَّ هُو، فكيف يمكن أن ننظر إلى الإنسان باعتباره مُسِيئاً إلى الله، وما الدَّلِيل الذي نُقِيمُه عليه، لِنَتَوَلَّى، نحن البشر، مُعاقَبَة الإنسان، لأنَّه، هكذا، «أساء إلى الله»؟ أَلَيْسَ هذا نَفْيٌ لِسُلطَة الله على عِبادِه، ولِوَعيدِه الذي أثْبَتَه النَّصّ، وأكَّدَ عليه، واعْتَبَر اللَّه، أيضاً «غفور رحيم»؟ ثم، ما الدَّاعي لتحويل الله، إلى عاجِزٍ عن «الانتقام»، وفق ما يؤَكِّدُه النَّصّ، ليتحوَّل، من اقْتَرَحُوا هذه الصيغة، وغيرها، إلى ناطقين باسم الله، وأوْصِياء، ليس على الدِّين، وحْدَه، بل على مَصْدَر الدِّين نفسِه، أي على الله؟ حين نُحَوِّل الإيمانَ إلى إكْراهٍ، أو إلى دِينٍ بالقُوَّةِ وبالعِقابِ، مُقابِلَ التَّواب، فهذا تعبير عن ابْتِزازٍ واضِح، وهو شَكْلٌ، أو دَرَجَةٌ من درجَاتِ التَّطَرُّف والإرْهابِ، وخُروجٌ واضح عن جَوْهَر الدِّين نفسِه، الذي لم يكُن، في أيّ وقتٍ من الأوقاتِ، ديناً بالإكراه، ولا دِيناً، دون غيره، وأعْنِي الإسلامَ الذي يعْتَقِدُ المُتَأَسْلِمُون أنَّه هو الدِّين وَحْدَه، ولا دِينَ قبْلَه أو بَعْدَه. فما جاء في مشروع القانون الجنائي، في ما يتعلَّق بالجنايات العقائدية، أو ما يمَسّ منه الدِّين، هو إساءَةٌ إلى الله، ومَسُّ بتَعالِيه، وبما يتميَّزُ به من قُدْرَةٍ على العِقاب والتَّوابِ، ومن عِلْمٍ بالغَيْب. فاللَّه نفسُه أقَرَّ بالاختلافِ، وخَيَّر إبليسَ الذي كان مُشْرِفاً على خزائن الجنَّةِ، بين أن يَسْجُدَ لآدم، وبين أنْ يخرج عن طاعَةِ الله. فهو لم يَسْجُنْه، ولم يَقْتُلْه، بدعوى عصيانِ أمر رَبِّهِ، بل تركَ له حُرِّيَة القرار والاختيار. ألَسْنا، بهذا الذي يعمل وزير العدل، ومن مَعَه ممن يُصادِرون على حقّ الناس في الاختيار، نخرج عن طاعة الله، وعن سياق النَّصّ الذي اعْتَبَر الدِّينَ اختياراً، وإيماناً بالاقتناع، لا بالقُوَّة وبالاندفاع، «لكُم دِينُكُم ولِيَ دِينٌ»؟ إذا كان التَّطرُّف الدِّيني الذي يُدِينُه الدِّينُ نفسُه، يَدْفَعُ «المؤمنين» إلى اعتبار قَتْل المسلمين، وغيره المسلمين، وإحْراقِهِم، أو جَزِّ رؤُوسهم بالسَّكاكِين، في اتِّجاه القيام بهذه الجرائم باعتباره إيماناً، ودفاعاً عن الدِّين، بهذا النَّوْع من العُنْف والقَهْر والتَّرْهِيبِ، فما الذِّي يَعْنِيه انْدِفاعُ هؤلاء القَتَلَة إلى مثل هذه الأفعال الشَّنِيعَة، سوى أنَّ إيمانَهُم، لم يكُن إيماناً بالمعرفة، وبالاقتناع، وبالفَهْم، وبالوَعْيِ، بقدر ما كانَ نوعاً من التَّوْقِيع على بَياضٍ، وهذا، في ذاته، إيمانٌ بالاندفاع، أو بالعاطفة، لا إيماناً بالفكر والعَقل، ما يجعل منه إيمانًا هَشّاً، يقبل مثل هذه الأشكال من التَّطَرُّف، وتحويل الدِّين إلى جريمةٍ. ثم، أليس المُؤْمِنُ القَوِيّ، خير من المؤمِن الضعيف، الذي هو مثل رِيشَةٍ تَحْمِلُها الرِّيح حَيْثُما تشاء؟ لنعمل على تنظيم المجتمع، وحمايتِه من الجريمَةِ، بتَمْتِين الأُسْرَةِ، واسْتِعادة المدرسة لدورها في التربية والتَّعليم، وربط صِلاتِ التَّواصُل بين الأُسْرَة والمدرسة، من خلال قَنواتٍ، يكون فيها للآباء دور في القَرار، وفي وضْع البرامج والمناهِج، وفي المجالس التَّربوية والتعليمية، وفي مداولات الأقسام، وغيرها، مما له صِلَة بتنظيم المدرسة، وبإدارتها، مما يجعل الأُسْرةَ والمدرسةَ يَداً واحِدَةً، وجِسْماً واحِداً، وما يجعل الأبناء شُركاء في هذه المسؤولية، بما يمكن أن يكون لهم من تمثيلية، وشَراكَة في بعض هذه المجالس. فالتنظيم المَدَنِي للدولة، والتأسيس لِقِيَم لمواطنة من خلال المسؤولية المدنية، أو المجتمع المدني، هو الكَفِيل، بإخراجنا من كل الانْحرافات التي اسْتَشْرَت في المجتمع، والتي لا علاقةَ لها، لا بالإساءة إلى اللَّه، ولا بالإفطار العَلَنِي، ولا بِتَرْك الصَّلاة، أو بغيرها من الأمور التي كان المغرب في مَنْأًى عنها، لأنَّ علاقات النَّاس، في مثل هذا الشأن، كانت، دائماً، مبنيةً على الاحترام، وما كان يَحْدُث من خروج عن هذه القاعدة، كان فردياً، ومعزولاً، ولم يكن تعبيراً عن رغبةً واسعةٍ في إلْغاءِ الدِّين، أو التَّجَرُّؤ على بعض مظاهره، التي جاء هذا المشروع لترسيخ العِقابِ بشأنها. ليس هُناك من يُسِيء إلى الله، سوى مَنْ يعتبر نفسَه شريكاً له في العقاب والانتقام، وَمَنْ يعتبر نفسَه ناطِقاً باسم اللَّه، أو وَصِياً عليه، وليس من ننظر إليهم كمُسِيئينَ إلى الله، دون أنْ يكون معنى، وصيغة الإساءة واضِحَيْن، وهذا لعمري، هو الاستهتار بالدِّين، والتَّطرُّف في فَرْضِه بالقوُّة، لا بالإرادة والإيمان الاقتناع.