مالت السماعة الصفراء الضخمة شَطْرَ قفَاه فعَدَّلها وتقدَّم. كانت رأسه مجزوزةً تماما كأنه قادم من رحلة عمرة. لكن هيئته كانت تشي أنه قادم من وراء البحار، من نيويورك أو كاليفورنيا.. أو ربما هو فقط من جيران حي العالية الذي يخترقه، حاملا كتيبا في يده، مارا قرب عربات الخضار والفواكه وعربات الخودنجال ذاتِ قباب النحاس.. من ينظر إليه ويتأمل مشيته يرى شخصية في كليب لموسيقى راب أو هاوس. ومن يدري ما كان يطربه حينها ومن يبالي. لولا أنه كان لافتا بقامة فارعة وسواد لامع وصدر مفتول مُحَدَّب تحت صدرية صيفية خفيفة.. سيصل بعد برهة وخطوات.. كما وُصِف له في الدليل دخل المدرسة حيث مقر الورش الدولي للشباب. تقدم في ساحتها الفسيحة. كانت مشيته واثقة، لا ينظر أمامه. كان ملتفتا، تبدو صفحة عنقه براقة في الشمس، ينظر شيئا ما كائنا أو غير كائن.. الالتفات يعطي إحساسا بالتعالي والمفارقة ولو أن الملتفت لا يصل. أو قد يصل بعد عثرات.. أو يصل متأخرا كحاله الآن. لا بأس! بتلقائية قصد إحدى حجرات الدراسة. هناك في ظلها وضع أمتعته على أحد الافرشة المبسوطة على البلاط المفرغ من الطاولات والتلاميذ وصراخ المعلمين. نزع سماعاتِه الصفراءَ الفاقعة، فحقيبةَ الظهر، فالكَابْ فحذاءَه الرياضي البراق من نوع "هِتْش-هايك" أو من يدري. كل أمتعته كانت من آخر صيحات المارْكات الأمريكية تبدو عليها لمسة فِرَق الإن-بي-إي. أحس ببرودة في ظهره وبطنه. إنه مبلل. العرق قد تتبع آثار تماس الحقيبة على جسده. لدى الأحزمة أشرطة بلل، وعلى ظهره فرشة عرق كبيرة. عليه أن يستحم.. انبعث حافي القدمين يبحث عن الحمام في وثوق من يعرف المكان أو من سيعرفه بسرعة ويضبطه.. في الرواق لقي اثنين من مرتادي الورش القادمين متأخرين مثله ربما أو المتغيبين لعذر عن سخرة ذلك اليوم. ألقى التحية على شكل هَايْ، وسأل بلكنة كاليفورنية عن الحمام. تلعثم مخاطَباه خوفا من أن يجيبا بإنجليزية رديئة. كأن عليهما أن يتقنا أي لغة كما يتقنها أهلها. فرنسية أو إنجليزية أو حتى لهجة مصرية. أشار أحدهما له بلغة الصم البكم في نفس اتجاهه ثم عن اليمين. التفت قاصدا نهاية الرواق وقد التقطت أذناه قول أحدهما للثاني: - هاذ ال**** المريكاني عادْ وْصْلْ ***" - شكون قال لك مريكاني؟ - وبَايْنْ من مشيتو وهدرتو.. التقط الكلمات ولم يلتفت. لا تعنيه أو تعنيه. من يدري. مضى في قصده بخطوات واثقة والتفاتة راسخة.. عاد بعد برهة. ربما ليعد عدة استحمامه. ما لبث أن لفته مستطيل الشمس في آخر رواق مقابل عن الشِّمال. خرج منه فإذا هو في ساحة خلفية مبلطة. فتاة لا تبدو عليها سيما العروبة جالسة هناك تقرأ كتابا بالإنجليزية. أمريكية أو بريطانية. كانت نحيفة. الأمريكيات نادرا نحيفات. جلس على مصطبة قرب الباب حافي القدمين. أثار البلل كانت تختفي عن ثوبه وتترك بدلا عنها شكل خريطة. مكث يتلصص عنوان الكتاب. كان من نوع روايات السحر والجثث الحية التي تخرج لدى الغروب؛ عوضت روايات التاريخ والرومانسية. في غمرة تلصصه التقت عيناهما: Hi – Hi - How's life – إلى آخر عبارات الأريحية الأنجلوسكسونية.. ثم: Call me Joyce - Call me Kinte !- Ok kunta …. hahaha !- تبسم لسرعة بديهتها دون فك اللغز. وتبسمت جُويْسْ بسمة فيها نبرة استغراب لاسمه النادر. لكنها عادت واطمأنت للكنته الأفرو-أمريكية الكاملة أوصافُها. إنه مواطنها فلا خوف حتى لو تقمص شخص كونتا كينتي. أو كان ربما من سلالته. من يدري.. من حسنات بطل رواية "جذور" أنَّ ذِكرَه كسر الصمت بينهما فتجاذبا تلابيب الكلام عن الرواية الملحمة. كانت هي قد رأتها سلسلة تلفزية فحسب، أما هو فكان قد قرأها، فسارع في النسج والغزل في تفاصيلها كيلا يتوقف الكلام فتتحرج الفتاة من المكث هناك. كان يسرد تفاصيل الأحداث التي اختزلتها وطوتها طيا ضرورات السيناريو والإخراج وهي تنصت إليه جيدا.. ثم من جذور قفز إلى مالكولم إيكس والكُوكْلوكْس كلان.. والحقوق السياسية والمدنية وماكارثي ونيكسون الكذاب، ثم ريغان الرئيس الممثل ثم كلنتون ومونيكا، فبوش الذي نجح بحكم محكمة ثم باراك أوباما، حين اضطر أن يُذكِّرَ باسم أبيه حُسين حين حذفوه لدى القسم إخلالا بعرف دستوري عتيق.. سهوا متعمدا! في لحظة صار كينتي يتكلم لوحده. جويس ساكتة. الأمريكيون البيض يخشون الحديث في السياسة ربما. ليس التكتم حكرا على الاستبداد الشرقي. حتى في طي الديمقراطيات العريقة يوجد "الحاكم بأمره".. فقط في حالة كمون.. في هيئة أو مؤسسة أو لوبي أو شركة سلاح.. ويستدعي الإذعان والدعة والسكون.. *** بدأت تدب الحركة في مقر الورش الدولي. بدأ أعضاء المرحلة يحضرون تِباعا. خليطا من مغاربة وأجانب. كان يبدو عليهم التعب من نهار قضوه في استصلاح حديقة على أحد ملتقيات الطرق بالمدينة. في الرواق علقوا لائحة لاستعمال الحمامات المعدودة وكل منهم مضى يعد عدة اغتساله. ما من أحد منهم إلا ولفته حضور شخص أسود جالسٍ مع جويس التي تخلفت عنهم بسبب وعكة في الكاحل. ما منهم إلا وتساءل في عفوية وبصوت عال آمنا أن يُفهم عن ذلك "الحر- طاني" الجالس هناك. وصاحبنا "الحُرْ – ثَانِي" لا يلتفت رغم نقر الكلمات لسمعه.. التفت كينتي إلى جويس يستأذنها في جولة في الخارج ريثما تستقر الأمور ويحضر مسئول الورش. وافقت لأنها لم تبرح المقر نهارها ذاك، ولا تأمن الخروج بمفردها ولتتمشى قليلا كذلك. في الطريق تفادى الحديث في السياسة وعاد إلى حديث كونتا كينتي و"التوبوب" اللعين.. اندهشت وكان يتلهف لذلك الاندهاش. هي تندهش فهو موجود: - واو.. كل هاته التفاصيل.. لقد نسيت كل ذلك.. مضى في كلامه: - "التوبوب" كان اللقب الذي أطلقته القبيلة على النخاس اللعين.. كان يأتي من وراء البحار يختطف الذرية السوداء التي ستعمل في حقول القطن الأمريكية مجانا.. على ملأ البطن فقط وتحت السياط.. تعلمين؟ لم تستفهمه. لبثت صامتة كأنها شاردة.. ثم قال: - يبقى أن "التوبوب" على خسته لعب دورا كبيرا في التاريخ الحديث.. لقد جنب أمريكا لزمن طويل شغب نقابات أوروبا وعنت المأجورين وثوراتهم.. لا مأجورين ولا نقابات ولا صراع طبقي ولا كمونة باريس.. عمل مجاني... عبودية..نمو اقتصادي مُطَّرد.. في لفتة ذكية منها بددت وهم شرودها عن حكايته. قالت: - لكنه لم يجنب أمريكا الحرب الأهلية شمال/جنوب...لعنة النخاسة وصلت.. - الغريب هو أن السود كانوا ممنوعين من التجنيد منعا مطلقا.. - كيلا تمنح لهم فرصة قتل البيض..أسيادهم المفترضين.. - أحسن... لأنهم حينها كانوا سيقتلون الشماليين وهؤلاء أتوا يقاتلون من أجل قضيتهم.. معضلة! - أو ربما من أجل بسط نفوذهم وتوسيعه.. أو من أجل الرغبة في البطولة الأمريكية.. من يدري.. هل قرأت "وسام الشجاعة الأزرق"؟ سترى البطولة الأمريكية.. ليس عبثا أن غنت تينا تورنر "لا نريد مزيد أبطال".. عادا أدراجهما. كان على قسمات جويس الآن تعبير امرأة تنبهت إلى أنها رفقة غريب. لا يمكن أن تعرف شخصا، فقط يغيب يقينك أنك تجهله. لقد جمعتهما دقائق فقط فوثقت فيه بأريحية. استبعدت أي إمكانية اعتداء بفعل سحر انتمائها لدركي العالم. لكن دركي العالم غير موجود في كل زقاق من أزقة إمبراطوريته.. مرا قرب كوكبة جالسة على عتبة بيت. نطق أحد البطالين الحائطيين:" شوف *** ****" وتوالت العبارات والكلمات التي لا تخلو من عنصرية ومن إعجاب بهيئة الأسود الأمريكي في ذات الوقت. الكلمات من جَرسها بادية القذع، لكن كينتي لم يبالها بالةً. يعرف هذا النوع من الناس. لا يحسن إلا النباح والنابح كثيرا ما يكون خصما ضعيفا.. ثم إنه لا يفهم ما يقال. ربما. ومن يجرؤ أن يعتدي على أمريكي.. **** سجى ليل الصيف الجميل في مقر الورش. تناولوا وجبة العشاء جميعا، ثم تحلقوا لتقويم سخرة ذلك اليوم. افتتح مدير الورش بكلمة قدم فيها مُنضما جديدا إلى المرحلة. عمر الكنتاوي، طالب وباحث في الأدب الأمريكي. والتفت المسؤول إلى الوافد الأسمر مبتسما في نبرة ألفة: - مرحبا بسي عمر.. من جديد.. - بارك الله فيك.. التفت الجمع للأسمر الجالس بينهم. كان يرد السلام والكلام ويجيب عن الأسئلة بعربية بينة وهو قد أوهمهم بلكنته وهيئته ومشيته والتفاتته الهوليوودية أنه من هناك. ما منهم إلا من تذكر ما تلفظ في حقه من أوصاف أو كتمه. لكن المفاجأة كانَ لجُويْس منها نصيبُ الأسد. كيف وقد انطلت عليها المزحة بالكامل.. جذور.. وكونا كنتي العبد المسروق من أدغال أفريقيا... فور انفضاض جلسة التقويم انسحب الكل إلى مستقره تفاديا لملاقاة عين الوافد الجديد. مسافة ليلة قد تبدد الخجل المستتب والإحراج. الكلٌّ كان يتمنى أن لا يكون قد سمعه والكل كان يدور في ذهنه تساؤل واحد ووحيد: لماذا لم يرد عن نفسه سيل اللمز والغمز؟ نرجسية؟ اندماج في الدور؟ التفتت إليه جويس مستغربة: - قلت لي اسمك كينتي؟ - نعم كينتي أو الكنتاوي.. نفس المعنى - كيف؟ ظننتك فعلا أمريكي.. أفرو-أمريكي.. أجابها ضاحكا: - لو أن التوبوب كان قد أمسك جدي الأعلى لكنت هناك فعلا.. لكنه أخطأ وأمسك عمي الأعلى..هههههه - كيف؟ - آيت كينتي اسم قبيلتي وهي قبيلة كبيرة يمتد تجوالها من جنوب المغرب إلى نهر السينغال إلى نهر غامبيا.. ومنها "جذور" بطل ألكس هالي ومنها جذوره هو كذلك.. كما ترين لم أكذب عليك.. صمتت جويس هنيهة ثم عقبت ساخرة: - "يُو نْووْ وَّاتْ".. أرى أنك لم تفلت من "التوبوب".. المسالة مسألة توقيت فقط.. لقد أمسك بك بعد قرون.. أنت في حجره بمحض إرادتك..