انبعث من مطعم بجوار الميناء، يلوك لماظة طعام. أشعثَ أغبرَ من وعثاء السفر وتَلاحُقِه. كان يدْلِك كفيه كمن سيظفر بشيء. الانطلاق. سيستقل الباخرة عما قليل، سيعبر المضيق. سيطير دون تحليق على مَدارِج الطريق السيار صباح مساء. ستطوى له الطريق طيا. هَمُّ الوصول إلى برلين رفيقه الوحيد وقد أعد عدة ذلك. شحنة من شتى أنواع إكسير القوة إلى جواره، سيارة رباعية الدفع من أفره ما يكون، محرك جبار وعجلات نحيفة شرسة لا تنال منها المسامير كأنها من جلد دراويش الهندوس.. جال ببصره يمينا وشمالا. نظر في اتجاه سيارته ثم التفت عنها يطرد انطباعا أو يبحث عن شيء ما. عاد ونظر إليها. جحظ وشَحُبت شفتاه وتجمدت اللماظة في فمه. آه.. الرجل ذو البَزَّة الزرقاء. ظنه متسولا حين ألقى له بضع كلمات عند مدخل المطعم. حرك له رأسَه ورسمَ ابتسامةَ مجاملة مهذبة فارغة. ظنه انصرف وانتهى الأمر.. خر مغشيا عليه يحشرج ويغرغر كالمحتضر. هب إليه الحاضرون هناك. لعلها نوبة صرع أو ضغط دموي.. اللماظة قد يَشْرِقُ بها، قد تقتله. حَوَّلَه أحد الحاضرين على جنبه وضرب على قفاه محاولا طردها بما تيسر من حيلة. عبثا. صار كِلسًا. آخَرُ بحث في جيوبه عن هوية أو هاتف أو بيانات معارفه. الرجل سائح ألماني. نادوا فورا على الإسعاف. من حسن طالعه أنه سائح يُهْرَعُ إليه.. أفاق دون إفاقةٍ تُعتبر. كان حوله في غرفة المصحة أطباء وأعضاء من القنصلية الألمانية. يجب ان ينقل فورا إلى برلين حيث عائلته تنتظره على صفيح القلق والحيرة. زاد من قلقهم أنه خارج "الشِين-غِن". ثم فجيعة شوماخير لم تسكن بعد، رغم أنه ليس رياضيا ولا نجما شهيرا من نجوم السينما. السينما لم تكن يوما أولوية ألمانية. البناء أولا. الرجل ذو شأن آخر..لا يقل أهمية.. لن تطمئن عائلته حتى يوافيها هناك ويخضع لجميع الخبرات. حالته هستيرية مُعَقدة. ينطق ليلا بكلام غريب. يجب أن يعود الآن. هذيان الألماني عورةٌ في غير بلده وبين غير ذويه. قد يكون هذيانه تفكيرا فلسفيا بصوت عالٍ أو حكمةً، تلاميذهُ فقط أحق بتدوينها وروايتها. أما سيارته فلها مِيرْسْكْ الجبارة. شحنا في البحر واليابسة رأسا إلى برلين. ثم إلى فريبور-أون-بريسغو حيث مسقط رأس آبائه وعمه الشامخ.. **** في مصحة هادئة في بريسغو حطت به الرحالُ منذ أسبوع. الغرفة تطل على حديقة هادئة وغدير ذي بجعات أنيقة وخضرةٍ على مد البصر. النافذة فيها من الطول والعرض ما يجلب أشعة الشمس من كل زاوية ويُدخلها على المريض لتبتهج النفس وينفسح الصدر. الصمت لا تطربه إلا عصافير جرمانية من سلالة موزارت. انفتح باب الغرفة. لطيفا رشيقا كنقرِ زر "الدخول" على لوحة حاسوب. انطبق من تلقاء نفسه فور دخول شخص بلباس رمادي فاتح يوحي بالهدوء والعافية. ابتسم للسائح العائد من سفر ومن غيبوبة، الجالسِ يرْقبُ بَالِيهْ البَجَعَات. - سيد هايدغر أبليت بلاء حسنا..أنت قديس صمت الطبيب قليلا واستأنف: - هل تسمح بجولة بعضَ الوقت في الحديقة.. نعم؟ كأنما استُجيب لهايدغر الحفيد (أو ابن العم أو ابن الأخ من يدري..) كان في حاجة إلى رفقة وقليل من مشي وقتئذ. المشي الطويل شعبة من الحكمة. يفتح شهية البوح والتفلسف. كدأب حدائق أكاديموس، من حيث أتى المشاؤون يسيحون. نحن كذلك نسيح في الأرض. نعود بثمن الطوب والإسمنت... ارتدى هايدغر الحفيد صدرية صوفية مفتوحة وخرج مرافقا شخصا لا تبدو عليه سيماء طبيب. طمأنة. انبعثا من باب خلفي للمصحة. عند موقف السيارات رأى رباعيةَ دَفعٍ فارهةً مركونةً هناك. تأملها في صمت ثم أشاح عنها ببصره. لم يشأ أن يتقدم إليها. انتابَ الطبيبَ شيء من شك. ترى عرفها؟ ربما..وربما غض عنها الطرف كحبيبة طال بينهما الفراق والصمتُ المروي والمكتوب فاستتب الحياء لِحد الجفاء.. - ما كان علي أن أعشق الوحل كما عشقته وتعلقتُ به.. الوحل وحل تحت أي سماء.. هل كان يقصد الطين، الطين؟ هل وقع له فتح في "أرض الألف قديس وقديس" كما عنون كتابَه؟ الطبيب التزم الصمت. لم يعلق. لم يسارع لتحليل أو تفسير او حتى استدراج لمزيد كلام. فليدَعْه. أول الكلام كلمات ثم ينهمر حتى النضوب. كل شيء ينضب. حزنا أو فرحا. التقرير يقول أن ما آلم هايدغر الحفيد هو بتر وقع فجأة لفرحة عارمة، فلبثت معلقةً في سماء نفسه كسحاب توقف عن سحبه الريح. لا هو أمطر ولا اندثر. غيث كاذب.. لكنه يجب أن يعترف. الاعتراف سيد الأدلة. - كنت قد أنهيت بحثا عن المغرب وتاريخه المقدس، وأثر ذلك في ثقافته ومزاجه ثم وضعته في الدرج للاختمار وقررت أن أسافر هناك كي أعود إليه منه.. هل أذهب وحيدا؟ قررت في آخر لحظة أن أنضوي في سباق الرمال. سأختبر قوة "روسينانت"... صمت. انفتحت كوَّةٌ في ذاكرته. التفت إلى السيارة المركونة في الموقف وقال: - كأنها هي.. لم يشأ الطبيب ان يؤكد له أنها هي، هي، كيلا يؤخر تفقأ الدُّمَّل النفسي فتتأجل نقاهة المستشرق الكبير.."روسينانت" كانت مركونة هناك بأمر من الطبيب إذن، يقينا أنها مفتاح.. قصد السيارة ببطء فتبعه الطبيب دون أن يُشعِرَه بأن تغيرا ما قد وقع في الوجهة. - كنت سعيدا جدا.. كان السباق حمَّاما شرقيا من ناس من جميع الآفاق على طول الرحلة.. الأجمل من ذلك أنني اكتشفت شيئا لم أكن لأكتشفه لولا السفر.. اكتشفت أنني رسام مع وقف التنفيذ.. كان السفر جسرا بين النية الفنية واقتراف اللوحة.. - اقتراف؟ - نعم "اقتراف بطريق الإهمال" كما يقول الجنائيون.. تبسم الطبيب قلقا. ترى تتوضح الأمور أم تغمُض أكثر؟ - السيارة.. صارت بطول التنقل ليل نهار كذاك المَلَك السماوي الذي تحكي رواية الخلق الشرقية أنه عند خلق آدم كان قد أمره الخالق أن يجمع مقادير الطين من جميع بقاع الأرض كي تُمزج ويُصنع منها الانسان.. في البدء كان الانسان كونيا ثم انشطر أليس كذلك؟ لكنه كان في الوقت ذاته نِسَبا من طين.. تمعن الطبيب في كلامه ولم يجبه. مثله لا ينتظر موافقة أو تزكية ولا تضيره المخالفة. لكن الطبيب مهني، يريد بالأساس السر الإكلينيكي. يريد جذور الحالة. من يدري قد تكون فتحَه الطبي، قد يسميها "أعراض هايدغر" أو "هايدغر" هكذا، كما يقال "ألزهايمر" أو "باركينسون" نسبة لأول من شُخِّصَت له.. الطبيب له طموح وأهداف رغم عنايته الفائقة. لكن الستار ما زال مسدولا .. - "العجلات كانت آلة خزف، تعجن العناصر في غضب دائري محموم.. الماء والطين يتطاير بفعل الهواء/الريح في زواج مع السرعة ويصنعون الأخاديد والتجاعيد الفنية في كل زاوية من السيارة، وعلى سطحها تحط شاشة من رذاذ طيني كثوب موصلي.. ثم نار الشمس تطهو الكل وتدمجه وتنحته.. وكلما تطاول السفر كان مزيد من الجغرافيا يلتصق بأجنحة السيارة.. كانت كفنان عبقري مخبول.. " أشار إلى السيارة وكان يقترب منها شيئا فشيئا. ثم صرخ: - هذه ليست "روسينانت".. هذه فان-جوخ.. كانت تستحق أن تعرض في أعرق الصالونات لما يبست واندمجت وتركت لي فقط قوسا من زجاج أمامي وقوسا من الخلفي يكفيني كي أرى الطريق.. كنت مستعجلا أن أعود..ومهموما بالطقس على طول الطريق.. وإذا ما اضطرني التعب للمبيت كنت أبحث لها عن مبيت قبل مبيتي وأضع عليها غطاء غير نفوذ .. لم أكن أريد أن أقترف أخطاء فان-جوخ..كان يُرِي أعماله قبل تمامها فتجر عليه السخرية والتوبيخ أحيانا..تعرف بول غوغان طبعا؟ - طبعا. اجاب الطبيب ولم يضف كلمة. كان قد وصلا السيارة. طافا بسوادها اللامع. إنها لا تعني شيئا كبيرا الآن. عادت لآليتها السابقة. طفق يمسح جناحها لولا أن صدته حرارة صفيحها المفرطة صدًّا كأنما أغضبه. الطبيب صامت يدعو كي يستأنف المريض كلامَه. - بول غوغان هذا صرخ يوما في وجه فان-جوخ صديقه: "إنك ترسم لوحاتك على عجل... بسرعة جنونية!!" - عجيب.. ملاحظة ثاقبة.. - تدري ما قال له فان-جوخ؟ - أسمع منك.. - قال له "بل أنت.. أنت تنظر إلى لوحاتي على عجل.." ضرب هايدغر بظاهر يده المنجمعة على صفيح السيارة. التفت إلى الطبيب ثم قال غاضبا: - ذاك الرجل ذو البزة الزرقاء، بل ذو اللحية الزرقاء.. ظنني فهمته في باب المطعم.. ظنني أذنت له حين ابتسمت وحركت رأسي.. أتى ببرميل ماء كبير كفيل بغسل فيل... تعجبت كيف نقله إلى هناك بسرعة... وما كان منه إلا أن غسل لوحتي على عجل.. الطبيب باسما: - لكل رسام غوغان يترصده.. ابتسم هايدغر الحفيد ابتسامة متعبة ذابت فيها غضبته المؤجلة اليائسة. لكن الطبيب لم يتمالك نفسَه فانفجر ضاحكا، فأعداه بضحكته وعلت قهقهتهما في الباحة. ابتعدا عن السيارة، تِجاه الغدير حيث البجعات لم تبرح مكانها من زمن بعيد. مِن قبل سفره ومِن بعده. كانت شديدة بياض الريش، ولا يرى عليها أثر السفر ولا وعثاؤه ولا كآبة المنظر. ساد صمتٌ لبرهة نطق إثره هايدغر الحفيد: - قبل انصرافك دكتور ذكرني أن أعطيك مكتوبا ترسله عبر فاكس إلى القنصلية في طنجة.. إن أمكن؟ - على الرحب والسعة! *** بجوار الميناء، في موقف السيارات المقابل لنفس المطعم وقف دبلوماسي ألماني قرب حارس السيارات ذي البزة الزرقاء. كان يتحدث إليه كمن يقرأ في كتاب عربي فصيح. كان قد اتاه نيابة عن سائح مر من هناك منذ أسابيع. ناوله ورقة من فئة خمسة أو عشرة أورو. كانت أتعابَ غسل سيارة ومكافأة على رغبة في صنع مفاجأة لشخص لا يعرفه... دون استئذان!