الإقلاع من نيويورك إلى جنيف الرجاء الإبقاء على الأحزمة مربوطة بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 2218 خلال الأسبوع الأخير من الشهر المنصرم، نكاد أن نجزم بأن قضيتنا الوطنية أخذت تتحسس طريقها بكل تؤدة في الاتجاه الصحيح. والظاهر أن القوى الفاعلة في المجتمع الدولي بدأت تكبر فيها القناعة بالطرح المغربي ومدى جديته ومصداقيته و واقعيته، لكن لا ينبغي أن نعلن منذ الان أننا حققنا الانتصار المطلوب . فنحن كسبنا معركة ولكن السبل شائكة لكي نجمل الحصيلة في نهاية الحرب التي ما زالت طويلة ومفتوحة على عدة واجهات. والأشياء تقاس بخواتمها لا ببشائرها. هذه إذن هي الحالة الراهنة التي ينبغي أن تبقى عالقة في الذهن ولا ينبغي للحظة انتشاء أن تجعلنا في غفلة من أمرنا. 1 في مضمون القرار الأممي: بداية، ليس الغرض من ذلك أن نخوض في الجزئيات والتفاصيل، إنما قراءتنا لهذا القرار ستقتصر على المحاور المستجدة والإشارات القوية التي من شأنها أن تعزز الطرح المغربي وتضع طرح النظام الجزائري ومرتزقته أمام امتحان عسير واختبار للنوايا، ولا نريد أن نتسرع من الآن في الحكم على أن نواياهم باتت مكشوفة، لا لشيء آخر سوى لكي نحافظ لأنفسنا على قوة الدفع لمزيد من الاحتواء. أ نقطة الارتكاز في هذا القرار الأممي هي عودة مجلس الأمن إلى التأكيد من جديد على ضرورة الاهتداء إلى حل سياسي متفاوض عليه بين الأطراف. وهو القرار الذي جدد دعوته للأطراف إلى التحلى بالواقعية وبفكر منفتح ومتشبع بروح التوافق من أجل التقدم في المفاوضات. وفي ذلك إشارة قوية إلى أن مبادرة الحكم الذاتي تبقى الأساس للتفاوض على بلورة حل سياسي، وهي المبادرة التي نوه من خلالها القرار بالجهود الجادة ووصفها بالمصداقية في حين مر مرور الكرام على مقترح البوليساريو . الأمر ذاته أكد عليه المندوب الدائم لفرنسا في كلمته أمام مجلس الأمن بعد أن شدد على مدى جدية ومصداقية المبادرة المغربية للحكم الذاتي. ب تناول القرار الأممي مسألة حقوق الإنسان في الأقاليم الصحراوية ونوه بالإجراءات والمبادرات التي اتخذها المغرب في هذا المجال وذلك من خلال الترخيص والسماح لجمعيات حقوقية تابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان في الداخلة ولعيون بإطلاق العنان في مزاولة أنشطتها. كما أشاد القرار بمقاربة الحوار التي ينهجها المغرب مع مختلف الفاعلين في هذا الحقل في إطار المساطر الخاصة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ويعد هذا الموقف الأممي في غاية الأهمية لأنه يعترف بمدى التزام واحترام المغرب لحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت يفوت على خصومنا فرصة ما كانوا يخططون له من انتزاع هذا الملف الحقوقي من المغرب وتكليف "المينورسو" به. وبذلك تكون خرافة توسيع صلاحيات "المينورسو" قد سقطت ليسقط معها القناع الجزائري. ج انبرى مجلس الأمن هذه المرة بموقف حازم وصارم حينما دعا إلى ضرورة إحصاء وتسجيل ساكنة مخيمات تيندوف والحث على بذل الجهود في هذا الاتجاه من أجل تسهيل مهمة المفوضية العليا للاجئين والمتمثلة أساسا في الوقوف على الحاجيات الإنسانية الواقعية والعملية للمحتجزين في هذه المخيمات، وبالتالي تحديد الحجم الملائم والحقيقي لما ينبغي رصده من دعم حتى تكون جميع الدول المساهمة على بينة من تلك الحاجيات ومدى مساهمتها في تلبيتها. والدعوة هنا موجهة بالأساس إلى الجزائر باعتبارها البلد الذي يحجز هذه الساكنة فوق أراضيه. وياتي هذا الموقف الأممي على خلفية الفضائح التي كانت وما زالت تشوب عملية تأمين المساعدات الإنسانية من قبيل تغيير مسارها إلى وجهة المتاجرة فيها من قبل عناصر الجيش الجزائري وقيادة البوليساريو . كما أن الجزائر كانت دائما تحول دون إجراء عملية الإحصاء لهذه الساكنة لاعتبارات نفعية كالنفخ في الأرقام العددية للساكنة حتى يكون هناك فائض في حجم المساعدات و يتاجر فيه العسكر الجزائري، وكذلك لاعتبارات سياسية تربطها القيادة الجزائرية بحلمها في الاستفتاء. د المسكوت عنه في القرار الأممي كانت له دلالة سياسية أكثر من المقتضيات التي أتى على ذكرها، ويتعلق الأمر بقطع الطريق عن الاتحاد الإفريقي الذي عمل جاهدا لكي يكون له موطئ قدم في كل صغيرة وكبيرة تخص قضية الصحراء . وقد عملت الجزائر عن طريق حلفائها في مجلس الأمن أي مع نيجيريا وفنزويلا وأنغولا لكي يعرض مبعوث الاتحاد الإفريقي الرئيس الموزمبيقي السابق "خواكيم تشيصانو" تقريره أمام مجلس الأمن، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل. كما سبق لهذا المبعوث أن وجه مذكرة باسم الاتحاد الإفريقي إلى الأمين العام "بان كي مون" أوصت بوضع آليات لمراقبة وضعية حقوق الإنسان في الصحراء، غير أن الرد الأممي جاء معززا للطرح المغربي بإبقاء هذا الملف حصريا في يد الأممالمتحدة ولن يسمح لأية منظمة أخرى العبث فيه، سيما وأن الاتحاد المذكور لا يمكن له أن يكون حكما وخصما بعد أن قبل بعضوية كيان وهمي في خرق سافر للبند الرابع من ميثاقه الذي ينص "إن كل دولة إفريقية مستقلة ولها سيادة كاملة تستطيع أن تصبح عضوا بالمنظمة". ولعل في هذا التطور إخفاق كبير للدبلوماسية الجزائرية، وصفعة لرئيسها رمطان لعمامرة الذي أوكلت إليه في الأصل هذه الحقيبة على خلفية رئاسته لإحدى اللجان المهمة في هذا الاتحاد وهي اللجنة الأمنية والتي مكنته من إقامة شبكة واسعة من العلاقات على المستوى الإفريقي أرادت الجزائر توظيفها ضد المغرب من خلال محاولاتها اليائسة لإعادة ملف الصحراء إلى المنتظم الإفريقي بعد أن تعذر على النظام الجزائري إحداث اختراق نوعي في مسار القضية على مستوى الأممالمتحدة. 2 تحديات المرحلة القادمة: صحيح أن ما تحقق بموجب هذا القرار يعتبر إنجازا مهما قد خالف التوقعات وبدد تلك التخوفات. صحيح أيضا أن ذلك القرار جاء معاكسا لما كانت تراهن عليه الجزائر من جعل سنة 2015 سنة الحسم في هذه القضية ، وأن الدبلوماسية المغربية ستمنى بفشل ذريع ومخز. وتوعدت الجزائر أيما توعد في هذه السنة التي باركتها الدبلوماسية الجزائرية واستبشرت بقطوفها وكرومها الدانية. وكم راهنت الجزائر أيضا على الجفاء الذي خيم على الأجواء الفرنسية المغربية، معلقة أحلامها على أن تنعكس تلك القطيعة على الموقف الفرنسي من قضيتنا الوطنية، بيد أن هذا الموقف جاء أقوى مما كان عليه. وبالرغم من كل ذلك، لا ينبغي أن نستكين أو أن نوقف عقارب الساعة على سنة 2015 بعد أن مرت علينا بخير وسلام. فالحيطة والحذر واليقظة سمات ينبغي أن تظل ملازمة للدبلوماسية المغربية. فالنظام الجزائري لن يتوقف وهو مصمم على معاداة المغرب. وعلينا أن نأخذ حذرنا من الجريح حتى ولو كان ينزف. ولذلك، فإن المرحلة القادمة لن تخلو من تحديات ومكائد ينبغي الاحتراز منها والاستعداد لها. وسنحاول في هذه الورقة الإسهام بما قد يتيسر لنا من فهم وتوجس لما قد يحدث في قادم الأيام والأشهر. أ في موضوع إحصاء وتسجيل ساكنة مخيمات تيندوف، يبدو أن الكرة سوف تنتقل من ملعب نيويورك حيث مقر مجلس الأمن إلى ملعب جنيف حيث مقر المفوضية العليا للاجئين. فإذا كان السفير المندوب الدائم السيد عمر هلال بنيويورك، الدبلوماسي المحنك الجريء، سهر على إعداد عجينة احتوت على جميع المقادير اللازمة كي تختمر في ظروف جيدة، فإن السفير المندوب الدائم السيد محمد أوجار بجنيف، وبما له من حمولة حقوقية محترمة، عليه من جهته أن ينتبه كي لا تحترق في فرن المفوضية العليا للاجئين. فالجزائر لها أذنابها داخل هذه المفوضية وسوف تتلكأ لتفريغ القرار الأممي من محتواه كي يظل حبرا على ورق، كما فعلت وستعيد الكرة ثانيا وثالثا. وما ينبغي التركيز عليه في هذا الصدد، أولا التحرك في اتجاه حمل المنظمات المتخصصة على تنفيذ القرارات الأممية وخاصة التقيد بما يصدر عن مجلس الأمن، فهي منظمات تعد أذرعا للمنظمة الأم وهي الأممالمتحدة. ثانيا، التنزيل للقرار رقم 2218 يجب أن يكون تنزيلا شاملا بمعنى أن الأمر يفترض فيه ألا يقتصر على الأرقام وكأننا أمام عملية إحصاء لقطيع . فالصحراوي بما له من أنفة وشهامة لا ينبغي النظر إليه كرقم وإنما كإنسان له كرامته وكبرياؤه ، وينبغي أن يتم التعامل معه على هذا الأساس. هذه الكرامة لا تستقيم إلا بمراعاة بعض الحقائق والمبادئ، منها: أولا، التأكد من هويته الصحراوية حتى لا يندس في صفوفه جنس آخر يسخر فيه الصحراوي الشهم لحسابات سياسوية تستفيد منها جهات أخرى، ولا يرضى عنها الإنسان الصحراوي، ثانيا، عملية الإحصاء لا يمكن أن تنحصر فقط في بعدها الإنساني من قبيل المساعدات على الرغم من أهميتها، بل يجب أن تفضي هذه العملية إلى ما هو أسمى أي إلى تمتيع ساكنة المخيمات من الصحراويين بحقوقهم المدنية والسياسية في التنقل بدون أية قيود والسماح لهم بمغادرة "الغيتوهات" إلى الوجهة التي يرغبون فيها سواء بالبقاء في الأراضي الجزائرية أو العودة إلى الأراضي المغربية أو إلى أي وجهة اخرى في العالم، ثالثا ، التعبير عن إرادتهم من دون أي خوف في نطاق حرية الرأي والتفكير بدلا من الدوس على كرامتهم من طرف عناصر الجيش الجزائري وشن حملات ضدهم بالقمع والاعتقال، رابعا، يجب أن يفضي الإحصاء إلى إقامة مؤسسات قارة داخل المخيمات تكون تابعة للمفوضية العليا للاجئين لمراقبة مآل المساعدات الإنسانية ورصد الخروقات التي يمكن أن تطال الحقوق الأساسية للساكنة، وذلك عملا بالسياسة المعتمدة من قبل المفوضية في جميع أنحاء العالم. فلماذا تريد الجزائر أن تستثني نفسها من هذه القاعدة. ب التحدي الثاني المطروح أمام المغرب في المرحلة القادمة ويتمثل في ما تخطط إليه الجزائر من نقل المعركة من داخل المخيمات في الأراضي الجزائرية إلى الأقاليم الصحراوية في التراب المغربي، وذلك من خلال ترحيل جماعي لعناصر مدسوسة ومشكوك في انتمائها للصحراء. وهذا المخطط يستدعي من المغرب التزام أقصى ما يمكن من الحيطة والحذر بالعمل على إحباط هذا المخطط على أكثر من مستوى: المستوى الأول، التدقيق في أصول العائدين والفرز بينهم وبين المندسين المستوى الثاني ، وفي إطار عملية الاندماج، ينبغي مواصلة العمل على فتح المجال أكثر أمام العائدين للإنخراط في مختلف أوجه الحياة العامة بما يعيد لهم الاعتبار والحفاظ على كرامة الإنسان الصحراوي، وكذلك القطع مع الممارسات المشينة والمستفزة القائمة على المحسوبية واقتصاد الريع والتي أحيانا ما تخلف نوعا من الاستياء والاحباط لدى بعض وجهاء الصحراء الذين يرون في أنفسهم أنهم أحق من بعض "الانتهازيين" المدعومين من طرف السلطة المركزية، المستوى الثالث، تكريس ثقافة حقوق الإنسان والقبول بمبدإ الخلاف بما قد يترتب عن ذلك من إنشاء لهيئات ومؤسسات محلية من جذور صحراوية للدلالة عن الاهتمام بخصوصية الساكنة والرفع من شأنها لقطع الطريق عن الدعاية الجزائرية باتهام المغرب بالاستيلاب الثقافي للشخصية الصحراوية. المستوى الرابع، العناية بالمرأة الصحراوية التي هي حجر الزاوية في المجتمع الحساني كمربية أجيال، وكفاعلة جمعوية، وكمؤثرة في القبيلة وفي الحياة العامة من خلال تأثيرها على الأبناء وعلى الأزواج والذين يسمعون الصوت النسوي والمعتد به لدى الشيوخ والقبائل، المستوى الخامس، وجوب قيام الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني بدورها الأصلي في تأطير الناس عوض الخوض في معارك جانبية على السلطة والمقعد. هذا الدور مهم في مجال التعبئة لإسماع الصوت الوحدوي الغالب المغيب في مواجهة الصوت الانفصالي وردعه، وذلك لرفع العبئ عن الدولة وبالتالي إحباط مخطط خصومنا الذين يجترون سنويا نفس الموقف الداعي لحركة تمردية مفتعلة ولوصلات دعائية وإشهارية تزامنا كل مرة مع انعقاد مجلس الأمن حتى يوهموا العالم أن المغرب بلد لقمع الحريات ووكر لانتهاك حقوق الإنسان، المستوى السادس، ضرورة فتح قنوات غير رسمية مع هيئات المجتمع المدني في العالم الغربي لمحاصرة وتطويق التحركات والأنشطة التي يقوم بها المرتزقة بتدبير وتمويل من المخابرات الجزائرية . والواقع أن هناك فراغا على هذا المستوى ينبغي ملؤه بالتصدي لتلك الدعاية المغرضة لخصومنا التي تضرب على الوتر الحساس والمثير لهيئات هذا المجتمع من قبيل الترويج للمآسي الانسانية المزعومة في مخيمات تيندوف من خلال تنظيم تظاهرات وندوات على مستوى الجامعات الأوروبية والعديد من المجالس المحلية. وكان من نتيجة ذلك الشروع في تنظيم قوافل للمساعدات الإنسانية من بعض الجمعيات الأوروبية في اتجاه الجزائر يقف من ورائها مستشارون أعضاء في مجالس محلية من أصول جزائرية، كما هو الحال في فرنسا على سبيل المثال. والحملة المعادية للمغرب لا تتوقف عند هذا الحد، بل أصبحت تستهدف مصالح بلادنا في مجال التبادل التجاري مع أوروبا بتغليط الرأي العام الأوروبي ودعوته إلى مقاطعة البضائع المغربية بدعوى أن مصدرها من "إقليم الصحراء المحتلة" حسب زعم المناوئين. ولذلك بات من الضروري إحداث تواصل في هذا النطاق حتى لا نتأخر وتتحول هيئات المجتمع المدني إلى أدوات للضغط على حكوماتها لتغيير موقفها من قضيتنا الوطنية. وأخيرا، فيما أعتقد أن هذه الحقائق والمعطيات، بل وهناك غيرها، يجب أن تظل حاضرة وماثلة لدى صناع القرار والفاعلين في الحقل الدبلوماسي المغربي. ومثلما سبقت الإشارة إليه فإن معاركنا الدبلوماسية مفتوحة على عدة واجهات، لكن الاستمرار في تحقيق الإنجازات وتيسير مهمة القوى العظمى في تأييدها للطرح المغربي وضمان استمراريته مرهون بالأساس في تقوية الجبهة الداخلية بترسيخ مبادئ وقواعد الديمقراطية من خلال توسيع المجال للحرية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان في شمال وجنوب وشرق وغرب المملكة، وكذلك من خلال التعجيل بتنزيل الجهوية الموسعة. هذا هو سلاحنا الذي نحصن به أنفسنا ونعزز به مكاسبنا ونهزم به خصومنا ولو في عقر دارهم. فمعركتنا الحاسمة تكمن في التركيز على كيفية تعميق وترسيخ مبادئ الحوار وتحسين قنوات التواصل مع الساكنة والانخراط الأمثل لأبنائها في تدبير الشأن العام المحلي لكسب الرهان وتقويته في أقاليمنا الصحراوية لأن من شأن ذلك أن يشكل رافعة لدبلوماسيتنا والدفاع عن قضيتنا في المحافل الدولية بكل ثقة وإباء وشموخ.