يستعد المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي خلال الأيام القادمة لتقديم تقريره الاستراتيجي الذي سيحدد الخيارات السياسية الكبرى لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي لعشرات السنوات القادمة بناء على مضمون لقاءاته التشاورية الجهوية وجلسات ومداولات أعضائه، وتدخل السياسة اللغوية التي ستحدد من خلالها وظائف اللغات والثقافات ومكانتها في مسارات التدريس والمنهاج التربوي، ضمن أهم الآراء والقرارات التي ستميز هذا التقرير، مما سيوضح بجلاء تصوره لوضعية الأمازيغية ووظائفها التعليمية والمؤسساتية في المستقبل. واستحضارا لخطورة أي رأي أو قرار مؤسساتي لا يستحضر حجم وقيمة كل النقاشات العلمية والسياسية والحقوقية التي طبعت الحراك الأمازيغي وحضوره الكبير في النقاش العمومي خلال السنوات الأخيرة والتي أوضحت بما فيه الكفاية مشروعية هذا الملف وحساسيته ومركزيته في أي قرار يهم السياسات العمومية في المغرب، بل وتحذيرا من أي استخفاف أو مناورة تروم العودة بالنقاش إلى الوراء بدل استحضار تعاقدات وتحولات السياق الراهن وانتظارات الفاعلين والمناضلين الأمازيغ والديموقراطيين، نورد التحليل والتوضيحات الآتية: في البداية لا بد من التأكيد على أن موضوع وملف إدماج الأمازيغية في منظومة التربية والتكوين يحظى بالتوافق والأهمية الكبرى من لدن جل الفاعلين والمناضلين والمناضلات في الحركة الأمازيغية، ومن منظور ديموقراطي فعلي، حيث يعتبر المدخل الأساس والمحك الرئيس لإنصاف الأمازيغية وتمكينها من اضطلاعها بأدوارها ووظائفها المؤسساتية والعمومية، بل ولتغيير البرديكم المهيمن الذي كانت ضحيته على المستوى الثقافي والاجتماعي والإيديولوجي. واستحضارا للأهمية السياسية والمجتمعية التي تؤطر الموضوع، ولمختلف أشكال الإخفاق التدبيري والمقاومة الإيديولوجية والثقافية التي عرفها مسار الإدماج على امتداد حوالي اثني عشر سنة الماضية، فإنه لا يمكن اتخاذ أي قرار استراتيجي يهم وضعية ومكانة الأمازيغية في السياسات العمومية ومنظومة التربية والتكوين بشكل خاص، دون تقويم مشروع وتجربة إدماجها في منظومة التربية والتكوين والإعلام والفضاء الثقافي، ودون تشخيص وتحديد الإختلالات والعوائق السياسية والإدارية والتربوية السابقة، وتحميل المسؤوليات، لأن اتخاذ قرار سياسي من هذا الحجم من دون استحضار الاعتبارات المذكورة سيمثل خطأ استراتيجيا، ومسوغا لتبرير الإخفاقات السابقة بل واللاحقة أيضا. يرى البعض أن حوالي 12 سنة التي مرت على بداية مشروع إدماج الأمازيغية في المدرسة الابتدائية بالمغرب، وما يتخبط فيه من نتائج جد متدنية ومن لا مبالاة على مستوى التدبير السياسي والإداري والبيداغوجي، هي فترة قصيرة ومشروع من هذا الحجم يتطلب أكثر من هذه العشرية المهدورة. في حين من الواضح أن هذه السنوات العديدة ليست فترة قصيرة ولو ارتبطت بالمرحلة التأسيسية، وكان بالإمكان أن تكون مرحلة تأسيسية فعلية لو توفرت الإرادة والشروط السياسية والقانونية والكفاءة التدبيرية. فيكفي استحضار كون مشروع تعريب التعليم في المغرب مثلا، تم في عشر سنوات إثر القرار الشهير لوزير التعليم عز الدين العراقي سنة 1984، حيث تم تنفيذ مشروع التعريب بإمكانات مادية وبشرية عادية لكن بقرار سياسي وإداري حازم، حيث تم توظيف الموارد البشرية المتوفرة التي تلقت فترات تكوين قصيرة، وباعتماد كراسات ومعاجم معهد التعريب الذي كان يديره الأخضر غزال، وهي كراسات بسيطة ومليئة بالأخطاء ومطبوعة طباعة جد عادية حتى لا نقول رديئة، وبتأليف كتب المواد العلمية كالرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء بشكل سريع لكن كان كافيا لتحقيق الغاية. والواقع أنه بعد 10 سنوات، أي في حدود سنة 1993 تم تحقيق التعريب الكامل لجميع المواد العلمية والفنية والفلسفة بمختلف أسلاك التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي! إذا توقفنا بالتحليل عند مشروع إدماج الأمازيغية في التعليم الذي بدأ مند 12 سنة يتضح جليا أنه كان مند البداية مشروعا للنوايا الحسنة، قام على اتفاقية تعاون وشراكة، ليس إلا، والمعهد الملكي للثقافة الامازيغية ووزارة التربية الوطنية لم يعملا مند الانطلاق على التأسيس القانوني والتشريعي لهذا الإدماج. فاتفاقيات الشراكة غير ملزمة بشكل قانوني، والمذكرات المنبثقة عنها ليست لها قوة القانون ولا تصدر بالجريدة الرسمية. ومن الواضح أنه لا يمكن تغيير منهاج دراسي أو تعديله عبر أدبيات تربوية كمذكرة note de service أو منشور وزاري circulaire - بالنسبة للأمازيغية المذكرات 82، 90، 108، 130، 131، 132- والتي تعتبر من أحسن المذكرات التي أصدرتها وزارة التربية الوطنية في المغرب على الإطلاق باستحضار جانبها الشكلي وصياغاتها اللغوية ووضوحها التنظيمي، لكنها بقيت دون أثر كبير ولم تنفذ ولم تحقق النتائج المتوخاة . فعندما يتعلق الأمر بإدماج لغة وثقافة جديدة ومقصية، وما يتطلبه ذلك من تمتيعها بكافة الأهلية والمكانة التربوية والإمكانات المادية والتنظيمية والبشرية، فمن قصر النظر أن يعتقد في إمكانية تغيير أو تعديل الخيار الهوياتي والإيديولوجي والنظام التربوي للدولة وسياستها اللغوية والثقافية عبر اتفاقية إطار للشراكة والتعاون بين وزير وعميد مؤسسة عمومية، وبالأحرى عبر مذكرات غير خاضعة لمرجعية قانونية وتشريعية في مستوى الإجراء والتدبير المعني بالتغيير. والسؤال الذي يطرحه هذا الوضع والتدبير الملتبس هو: بما أن الأمر يتعلق بمهام مؤسسة استشارية، فلماذا لم يؤطر الإدماج بمرسوم حكومي أو وزاري، يصدر يالجريدة الرسمية ويلزم الوزارة والأكاديميات بالتنفيذ؟ لقد عودنا السيد أحمد بوكوس عميد ليركام على ترديد إحصاءات يعرف الجميع بمن فيهم من زودوه بها أنها مغلوطة، ولم يمتلك على مدى مسار التراجعات والتخبط الإداري والتدبيري الجرأة الكافية لتسمية الأشياء بمسمياتها وتحميل المسؤولية وتحملها بقدر ما يفضل لغة الخشب، وهو ما لبث يذكر في أحسن تصريحاته أن تدريس الأمازيغية بالمؤسسات التعليمية صادفته عدة إكراهات وصعوبات ذات خصوصية تقنية . من الواضح أن هذه العوائق التي يعتبرها عميد المعهد إكراهات تقنية، مثل بطء سيرورة تعميم تدريس اللغة الأمازيغية، ونقص الموارد البشرية المؤهلة، وغياب التكوين المستمر لأطر التدريس وضعف التتبع والتقويم وضعف تطبيق المذكرات التنظيمية، هي ليست صعوبات وإكراهات تقنية، بل عوائق سياسية وإدارية وتدبيرية حالت دون تحقيق تقدم فعلي في مشروع الإدماج وتحقيق الأهداف المنتظرة. وهذا يتطلب تحديد الإشكال وتحميل المسؤوليات. على مستوى الإعداد اللساني وتنميط ومعيرة اللغة الأمازيغية، فقد قام الباحثون اللسانيون بمجهود علمي كبير يوفر المراجع والمعاجم والأسناد الضرورية لاعتماد الأمازيغية لغة تعليم وتعلم وأدب وثقافة عالمة. كما تمكن باحث يعمل في الظل، وفي إطار عمل تعاقدي مع المعهد، من التأهيل والتهيئة التيبوغرافية لحروف تفيناغ وأنماط الكتابة بها، مما سيساهم في تقليص كل التأخر التاريخي الذي حصل على هذا المستوى ويمكن تفيناغ، إحدى أعرق الكتابات التاريخية بحوض البحر الأبيض المتوسط، من أداء وظيفتها الكتابية والكليغرافية والتيبوغرافية في مستوى حروف وكتابات اللغات الأخرى التي كانت وراء تأهيلها وتطويرها مؤسسات ومجامع كبرى مدعومة بالبترودولار وإمكانات الدول الكبرى. على مستوى الإنتاج البيداغوجي، فتأليف الكتب المدرسية الخاصة بالأمازيغية، ورغم كل الهفوات والأخطاء المرتكبة والتي ترتبط في غالبيتها بالعمل العلمي والتدبيري الداخلي لمؤسسة ليركام، يعكس مجهودا بحثيا وعملا بيداغوجيا هاما لتدريس لغة فتية على مستوى إعدادها وتنميطها ومعيرتها، وثقافة تحتاج إلى العصرنة والإطار البيداغوجي والديداكتيكي المناسب لتعليمها والتربية عليها. لكن الكتاب المدرسي ليس كتابا بالمعنى التقليدي، أي منشور مقروء يحمل مضامين ومعرفة معينة، بل الكتاب المدرسي كائن تربوي لا معنى له في ذاته، معناه ووظيفته وقيمته وأثره يستمده من خلال المنهاج الدراسي الذي يؤطره والحياة المدرسية التي يسبح فيها. فلا معنى لكتاب مدرسي لم ينفذ داخل الفصول الدراسية ولم يصل إلى أذهان وتمثلات وثقافة ووجدان المتعلمين. اشتغلت لعدة سنوات أستاذا مكونا في مصوغات اللغة الأمازيغية وديداكتيكها بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، وساهمت في بداية التأسيس لإدماج اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية ومراكز التكوين، وعاينت بداياتها داخل الفصول الدراسية وكيف أقدم وتحمس الطلبة والتلاميذ المغاربة الأمازيغوفونيين والداريجفونيين على تعلمها وتدريسها. كما أحسست باطمئنان تربوي عندما وجدت في بداية السنة الدراسية الحالية كتب الأمازيغية ضمن الكتب المستعملة المعروضة للبيع بسوق الباطوار وتيكوين بأكادير، لأن كتاب مدرسي مستعمل يعني بشكل عام أنه قرئ ووظف في التعليم والحياة المدرسية، ودرس ولو بدرجة محدودة. كما أعرف أن المغاربة يحبون الأمازيغية ويستطيعون تعلمها وتدريسها بل والإنتاج بها بسهولة، رغم محاولات بعض الساسة والكتائب والجماعات المؤدلجة والموالية لفرق وجهات مكشوفة، التي تقاوم بكل الوسائل ضد عودة هذا الحب والقدرة على المصالحة مع الذات، لأن مصالحها وولاؤها وهيمنتها تتحقق في الوضع القائم وفي استمرار استلاب المواطنين وإبعادهم جهلا أو تخويفا من لغتهم وثقافتهم أي من ذواتهم وأنفسهم! فقد عان مشروع الإدماج التربوي للأمازيغية في المدرسة المغربية كما تعاني الأمازيغية عامة في فضاء المجتمع من صراع إيديولوجي موازي يقوده مناوئو مشروع إنصاف الأمازيغية واستعادتها لدورها الحضاري في مغرب المستقبل. وجزء من الرأي العام، للأسف يستمد انطباعاته وفهمه وردوده من الأخبار والآراء المضادة، ويتأثر بأساليب المحاصرة والمغالطات التي يروج لها في المجتمع، خاصة من طرف من يجوبون فضاء المؤسسات والأسواق والمساجد والأزقة في المدن والدواوير وفي السر والعلن، من طلوع الفجر إلى طلوع الفجر، في حملة تشهير مستمرة لتتفيه الأمازيغية والتخويف منها وصهينتها والتشكيك في أهداف إدماجها وفي أصالة حرفها وكتبها وجدوى تدريسها! المؤكد أن اتخاذ أي قرار سياسي واستراتيجي يهم موضوعا بالغ الحساسية والأهمية على المستوى السياسي والديمقراطي والثقافي، ويندرج ضمن المداخل الكبرى لمغرب جديد، ينبغي أن يستحضر كل المعطيات المحيطة بالملف، ويتحلى بالرزانة وبعد النظر والتجرد اللازم. ولعل أولى النتائج التي يفضي إليها أي وعي وتبصر من هذا المستوى هو في اعتماد منهاج دراسي للغة الأمازيغية معمم لجميع المغاربة على امتداد الأسلاك التعليمية، وتدريسها بحرف كتابتها التاريخي تيفيناغ الذي جرى تطويره وتأهيله التيبوغرافي والتقني، وحقق به تراكم مهم خلال السنوات الأخيرة، وبغلاف زمني أسبوعي يساوي على الأقل حصة اللغة العربية، ويخضع لنظام التقويم التكويني والمرحلي والإشهادي. وكذا تعميم الدراسات الأمازيغية في نظام المسالك الجامعية بكل كليات الأدب والعلوم الإنسانية، وإدماجها في الإطار المرجعي لمواصفات الولوج والتخرج من عدة تخصصات بمعاهد ومراكز ومدارس التعليم العالي والمهني والتقني. دون ذلك، لن يعني شيئا بالنسبة لمستقبل اللغة والثقافة الأمازيغية، وسيكون مجرد بداية دوامة جديدة من عمليات الفر والكر السياسي والإيديولوجي والتدبيري، والهدر الوطني، في مسار المصالحة والإنصاف والتمكين المأمول، مما سيفتح الباب على مصراعيه لكل التطورات وللمجهول، وهذا ما لا نتمناه.