الاختلاف سنة من سنن الله تعالى التي قامت عليها السماوات والأرضين، وصُبغت بها المخلوقات، وتأسست عليها الحضارات والأمم، وتنوعت بها الثقافات، وتزينت بها الحياة ؛ فاستأنس بها الإنسان، واطمأنت نفسه لأجلها إلى المعيش، فكدح من أجل ذلك كدحا ... والاختلاف في رؤية الوقائع، والحكم عليها، وفي التدبير والاجتهاد فيه؛ سنة جارية في دنيا الجماعات البشرية. إذ بدون هذا التعدد "التَّنَوُّعي" سيفقد الإنسان الرغبة في الحياة، لأن "التَّوَحُّدَ" مرض يشعر صاحبه بأن الحياة بدون معنى، وأن بقاءه فيها روتين دونه الخبل والجنون .. والجماعة أو المجموعة البشرية التي تلتقي على معنى أو تصور أو برنامج، وتحصر نفسها فيه، وترفض سائر المعاني والاجتهادات والرؤى لأنها– بكل بساطة- ليست من بنات أفكارها بل من رؤية غيرها؛ مجموعة أنانية لا شرعية واقعية لها، ولا مشروعية لها في الاقتراح والتدبير والشراكة. وليس قصد هذا الكلام وفَصُّهُ وغاية مرماه ولوج ٌفي فك مفهوم الاختلاف، ولا رغبةٌ في استعراض ما قيل فيه وحوله مما أطنب أهل "صنعة الرأي" في تدبيجه، وإنما غاية أملاها علي ما أشاهده وأراه، وما أسمعه وأقرأه، مما صار فيه الناس من حقد، وضغينة، وحسد، وحب للانتقام، من خصوم متوهَّمين "يخلقونهم " ليعتلوا بهم منصات البطولة، ويحققوا بهم أمجادا من تبن، طلاؤها قِشٌّ يذهب عند أول ريح عاصفة !! إن تدبير الاختلاف فنٌّ لا يتقنه إلا الحاذقون ممن صفت دواخلهم، وخلصت نواياهم، وكان قصدهم الإصلاح ولا شيء غير الإصلاح. أما الذين يتوسلون بقدرتهم على تدبير الاختلاف للتمويه على خصومهم أو مخالفيهم بأنهم قمينٌ أن يُعتدَّ باقتراحاتهم، ويُستمع لهم، ثم يخرقون بنود هذا "الميثاق" بسلوكهم الأناني، ورغبتهم في الانفراد بالرأي، والاستحواذ عليه؛ فهؤلاء ليسوا أهل الاختلاف ولا الحوار، ولا يمكن أن يكونوا شركاء يعتد بهم، ويؤمَن جانبهم. والجلوس إليهم مضيعة للوقت، وإهدارٌ للجهد. إنما الحوار ينجح مع من يُقدِّر " الخصم" ويحترمه ، ويرجو لو أخطأ هو وأصاب "غريمه"، ويأتي إلى طاولة الحوار وقد أعدَّ نفسه أن يتقبل "الهزيمة" بروح من يبغي المصلحة العامة، ولا شيء سواها، ولا يهمه إن كان في السَّاقة أو في المقدمة، مادامت غاية النضال؛ نصرة المظلوم ، واسترداد الحقوق، ودفع المظالم. فمتى جمعتنا طاولة الإنصاف، واحتوتنا رغبة انتزاع الحقوق، ودفع الحيف والمظالم؛ فثمة مذهبنا. ولا يهم بعد ذلك أزيد صاحبها أم عمرو.. !! إن عيبنا الكبير أننا نختلف لنختلف، ولا نختلف لنتفق . فالاختلاف سنة جارية في مجاري العادات، وعوائد الناس، كما هي جارية في الفهوم والأفكار والآراء سواء. وإنما وجد الاختلاف لتقوى العزائم، وتندفع الإرادات للبناء والتشييد والتنافس في فعل الخير. ولكن متى استحال هذا الاختلاف "موضة" بين الجماعات والأحزاب والنقابات، وصار التباهي بالتفرد والتعصب للرأي ديْدَنَ القوى والتيارات، وانقلب المجتمع إلى فسيفساء من "كنتونات" تتجاذب بينها مساحة الوطن لتقتسمه بين رافض وحليف، وبين مناضل وعميل؛ آنئذ سيصبح الاختلاف خلافا، والحوار "دعوىً " لتزيين الواجهات المهترئة للهيئات والتنظيمات المتصارعة على "خدمة"(بالمفهوم الدارج للكلمة) المواطن المقهور لزيادة رصيدها لديه، وكسب مودته وتأييده، والحقيقة أنها إنما "تناضل" لخدمة مصالحها، وتقوية وضعها الاعتباري في عيون هذا المقهور كما في عيون من يناصبها العداء؛ سواء بسواء !!