أراد العاهل المغربي الملك محمد السادس أن يكون احتفاله بالذكرى ال 15 لإعتلائه العرش استثنائيًا، فكان له ذلك. فإلى جانب استعماله ضمير المتكلم في مخاطبته للمغاربة، ما أسال الكثير من المداد، قذف، خلال خطاب بالمناسبة، وجهه أمس الأربعاء، ب "كرة الثروة" للنقاش بدل تركها ملتهبة، ليتفجر نقاش حارق اختلفت الإجابات بشأنه. النموذج التنموي تساءل الملك محمد السادس، في خطابه، الأربعاء، عن مدى استفادة جميع المغاربة من ثروة المغرب التي تحددها الدراسات الدولية، مشيرًا إلى أن الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين. وفتح هذا التساؤل شهية المغاربة للنقاش لعل ذلك يسهم في تخفيف ذلك "الصداع" المستمر الذي لازمهم لعقود دون أن تنفع أي مسكنات في ذهابه بلا رجعة. وبما أن التشخيص السليم يبقى السبيل الأمثل لإيجاد العلاج المناسب، فإن الخبير الاقتصادي والقيادي في الحزب الاشتراكي الموحد (المعارضة)، نجيب أقصبي، ذهب مباشرة لوضع يده على "منشأ الألم"، وهو النموذج التنموي. فأستاذ الاقتصاد قال في تصريح ل "إيلاف"، إن "اعتراف رئيس الدولة اليوم، ونحن في سنة 2014، بأن الثروة في المغرب غير موزعة بصفة عادلة، هذا من باب تحصيل الحاصل لأنه منذ عقود يظهر الواقع اليومي بأن المشكل في النموذج التنموي". وأضاف القيادي السياسي: "النموذج التنموي الذي اتجه له المغرب منذ الستينات، هو نموذج يولد الفوارق، وهذا من طبيعته، ليس فقط فوارق اجتماعية، بل حتى فوارق مجالية، ونوعية، إذ أنه نموذج يعتمد على رهان القطاع الخاص، الذي هو ممول من القطاع العام، أي من ضرائب المواطنين عبر الامتيازات الضريبية والدعم والتأطير". حكاية الكعك الرهان على الخارج له أيضًا يد في الوضعية الحالية. إذ أن الاعتماد على الخارج عبر إدماج الاقتصاد المغربي في الاقتصاد الدولي، والاعتقاد بأن هذا الاندماج هو الذي سيقدم عجلة النمو بغض النظر على الفوارق الاجتماعية، كان وهمًا، حسب أقصبي. وأضاف: "الفكرة السائدة هي (حكاية الكعك) الذي يجب أن ينمى ويوسع، قبل أن نفكر، في المرحلة الثانية، في توزيعه. والمشكل أننا بقينا دائمًا في المرحلة الأولى دون المرور إلى المرحلة الثانية. الكعك يتوسع، نسبيًا، لكن من يحتكره هي دائمًا أقلية مرتبطة بالنظام السياسي. هذا هو المشكل في العمق، إنه النموذج التنموي الذي يجب أن نعرف أنه لم يأتِ من السماء، بل هو وليد نظام سياسي". ومضى شارحاً "إذا أردنا التحضير للمستقبل، كما قيل، يجب أن نجري تشخيصاً واقعياً وعميقًا للنموذج وللمسؤوليات. في العمق، المشكل هو النموذج التنموي الذي هو نتيجة نظام سياسي لا يتصرف حتى في الاختيارات الاقتصادية بصفة ديمقراطية، وبطبيعته غير عادل". مصدر القرارات خلال استعادته لشريط تاريخ المغرب، وقف نجيب أقصبي على الفاعلين الأساسيين الذين كانوا مصدر القرار، أي الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية. وكشف الخبير الاقتصادي أن هناك فاعلين، الأول داخلي وآخر خارجي. الفاعل الداخلي، هو الملكية، أما الفاعل الخارجي هو المؤسسة الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، مشيرًا إلى أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حلا، للمرة الاولى، بالمغرب، في سنة 1964، ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لا توجد هناك استراتيجية أو تخطيط أو قرار إلا ويكونان وراءه، سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة". المغرب غني... لكن "المغرب غني ولكن المغاربة فقراء"، هذا كان رد عمر الكتاني، أستاذ للتعليم العالي في الاقتصاد وباحث في الاقتصاد الإسلامي، على سؤال: "أين الثروة؟". وأكد ل "إيلاف"، أن "الثروة موجودة لكن مركزة ولا يستفيد منها الكثير من الفئات الاجتماعية"، وواصل حديثه بالإجابة على سؤال وطرح آخر يرتبط بالمستقبل: "من استفاد من الثروة في المغرب؟ نحن نعرف أين هي الثروة الآن، ولكن هل هذا الوضع المتعلق بوجود الثروة في أيدي معينة سيستمر؟". وأضاف: "نحن نعيش الوجهين. جزء من الثروة هو مبني على مجهود حقيقي سواء للفئات المقاولة أو الدولة التي أسست لشركات كبرى، بينما اغتنت فئة أخرى، في المرحلة الثانية، عن طريق الامتيازات التي منحت لها أو عن طريق تحريف المال العام وتحويله إلى مصلحتها. الدولة أغنت فئة من المجتمع عن طريق التوزيع غير العادل للأراضي الحضرية. فجزء من الثروة في المغرب بني بطريق ريعي وليس بطريق إنتاجي". الثروة في الإنسان أكد عمر الكتاني أن "الثروة الآن توجد في المستقبل"، مشيراً إلى أنها "توجد في نظام التعليم وفي نظام بناء الإنسان". وأضاف: "نظام التعليم، منذ الاستقلال إلى الآن، يعاني من سوء التسيير والتخطيط. كما أن فيه إهدارًا كبيرًا من الثروة البشرية بدليل أن نتائج البكالوريا (الثانوية العامة) لا تتجاوز 30 أو 40 في المائة من الناجحين، وهذا لا يعقل. فأي نظام لا يحقق 60 في المائة من الدخل فهو فاشل. ونظام التعليم في المغرب لا يحقق تلك النسبة على الأقل. وتكلفة هذا الفشل كبيرة على المجتمع وعلى الدولة. إذن الثروة في الإنسان والخبرة والبحث العلمي". امتيازات ضخمة بما أن الثروة مبعثرة في الإنسان، فهي مبعثرة في التخطيط وتوجيه الاقتصاد، وفي ترشيد استعمال المال العام، على حد تعبير الباحث الاقتصادي، مشيرًا إلى أنه "إذا لم تكمن هناك ثروة بشرية لا يمكن أن تكون هناك ثروة إنتاجية حقيقية". وقال الكتاني "المغرب حباه الله بظروف طبيعية ووضع جيواستراتيجي مهم، وباستقرار سياسي، ولكن مع الأسف المغاربة ليسوا أهلاً للمغرب، خاصة الذين تولوا المسؤولية في تسيير الاقتصاد وتسيير القطاع العام بشكل كامل"، مبرزاً أن "ثروة المغرب أيضًا في تخليق السياسة الاقتصادية". وأضاف "من جملة إهدار الثروة، الامتيازات التي يحظى بها الموظفون السامون في المغرب. فالبنك الدولي أنجز تقريرًا في حياة الملك الراحل الحسن الثاني وكشف فيه أن الموظفين السامين ينالون أكثر من 100 امتياز، بالإضافة إلى أجورهم. فأين نحن من سياسة التقشف؟". وختم بالتأكيد على أن "جزء من الثروة المغربية يوجد في البنوك السويسرية ويذهب في شراء الأملاك في إسبانيا، وجزء من المال العام في شقق بالشانزليزيه لأصحاب النفوذ في المغرب". يشار إلى أن الملك محمد السادس استقبل كلاً من نزار بركة رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وعبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب، وكلفهما بإعداد دراسة حول تطور القيمة الإجمالية للمغرب خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.