أسباب اجتماعية وظروف إنتاج أولية تساهم ،إذن،بشكل أو بآخر في إنتاج وإعادة إنتاج، بل وانتشار جغرافية الظاهرة كما لو أن عاملات الجنس هن ضحايا مشروع اجتماعي أساسه الإقصاء والهشاشة والتردي وسوء التأطير السوسيو اقتصادي، إذ الفطرة الإنسانية أو الذوق السليم ينأى بنفسه أن يقدم المرء لحمه "كالقديم المملح على حبل غسيل لمن يدفع أحسن"، أو على طبق من ذهب لأي كان خارج الضوابط الشرعية في مؤسسة الزواج، مما يدل أن عاملات أو ممتهنات الجنس أغلبهن قادمات من بيئآت معاقة اجتماعيا وقلما تجد عاملة جنس تنتمي إلى قشدة المجتمع وهذا ما يسمى بالشرط الاجتماعي المسوغ للظاهرة .أما الشرط النفسي ،فمرتبط باكرا هات التكيف مع الذات أو ما يسمى سيكولوجيا ب"مرحلة البحث عن الذات" من خلال صعوبة تدبير ممتهنة الجنس علاقاتها بالواقع الخارجي بكل ضغوطاته وتحدياته ومآزقه.أما الشرط الثقافي،فيتأسس على ثقافة المرور أو البحث السريع إذ لكل واحد منا رغبة مشروعة وحلم يراوده بضرورة التوفر على مستلزمات الحياة من سكن وسيارة ولباس وظروف العيش الكريم ،علما أن الخريطة الاجتماعية أو التوزيع السوسيولوجي للدعارة لا يقتصر على الأميات فحسب ،بل قد نجد "متزوجات" ومثقفات وجامعيات يمتهن الجنس خاصة بعد مرحلة الحصول على الإجازة ومرحلة البحث عن الشغل في ظل مجتمع استغلالي براغماتي ووصولي ، ولو أن المجتمع يحمل مسؤولية امتهان الجنس للمرأة دون الرجل ،والحال أن هذا الأمر يكرس نظرة دونية ونوعا من التمييز والحكم المسبق المتوارث تاريخيا في التراث الشفهي والذاكرة الشعبية من خلال تقديم النساء فقط للمحاكمات والمتابعات الأمنية والملاحقات القضائية(رفض تأنيث الموضوع)،مما يجعلنا نتساءل:هل المجتمعات الذكورية مؤهلة للحكم وللفصل في مدى "طهرانية" أو "دنس"المرأة المومس؟(باعتبارها مصطلحات أخلاقية قيمية تحتاج إلى مراجعة جذرية مادام الحكم عن الشيء فرع عن تصوره)،ألا تعني الجنابة أن مقترف العمل الجنسي يعيش على هوامش أو أحواز أو جوانب المجتمع ،مما يقتضي التحلل من الدنس والجنابة للقدرة على الانخراط مجددا في السياق المجتمعي رغم تساكن وتعايش المجتمع مع جغرافية الجنس-ولو أنه يرفضه-لأنه يندرج في إطار لوبيات وجماعات ضغط وشبكات جنس منظمة تنتعش في سياق الاقتصاد غير المهيكل المعفي من الضرائب(ما يسمى ب "سبيرة" أو "سبيرات" بصيغة الجمع")؟ألا تعيش عاملات الجنس على حافة الضياع لأن مدة صلاحيتهن في هذا العالم محدودة في مجتمع يرفض قانونه هذا النشاط ويقره واقعه؟أي مستقبل لعاملات الجنس؟ألا يشبه مستقبلهن بمستقبل مجموعة من اللصات اللواتي لا مستقبل لهن مادمن كالسيجارة التي تشتعل وسرعان ما تحترق بسبب لذة جنسية عابرة؟ألا يمكن أن يكون التغرير أو التضليل عاملا مساهما في تفريخ الظاهرة وانتشارها في الساحة الجنسية من طرف عاملات الجنس المتوجهات إلى بلدان الخليج أوالى الضيعات الفلاحية أو الفندقية في بعض الدول الأوربية؟ تعدد أسباب إنتاج الظاهرة وتفاقمها يجرنا للحديث عن وجود عدة أشكال من العمل الجنسي، إذ يمكن الحديث في هذا السياق عن كائنات الليل العاري اللائي يمارسن الدعارة في فضاءات محددة من قبيل العلب الليلية، ومرتادات قارعة الطرق المداومات،وناشطات الموقف الظرفيات اللواتي يجدن أنفسهن خلف الأبواب المقفلة بإحكام بعد إيهامهن بالعمل الشريف،وعاملات المعامل الناشطات في العمل الجنسي الموسمي من خلال تغيير القبعة أو المظلة من عاملة في معمل إلى عاملة جنس بعد تسريحهن أو انتهاء مدة العقدة، رغم اختلاف "سومة الكراء والإعارة" التي قد تصل أحيانا إلى أدنى مستوياتها المادية، والى أرذل وأحط ظروف ممارستها مع تباين وسائل تحققها بين الهواتف النقالة والعوالم الافتراضية(التي فتحت الباب على مصراعيه مما يدفعنا للحديث عن جنس افتراضي غير مباشر)، والنقل السري ،والعصابات والشبكات العاملة في المجال الجنسي من ممارسة القوادة أو الوساطة، مرورا بتهييئ وفتح دور الدعارة ،وصولا إلى النصب والاحتيال عبر إيهام الزبناء وما يستتبع ذلك أحيانا من عنف لفظي ومادي ورمزي. بعد هذا السرد الكرونولوجي وتتبع ورصد أبرز أسباب إنتاج العمل الجنسي ،واستعراض مواقف وتصورات بعض التوجهات الدينية والفلسفية، نذهب مطمئنين إلى القول إن حل إشكالية أو معضلة العمل الجنسي غير المنظم تقتضي مقاربة تشاركية مندمجة يتدخل فيها مختلف الأطراف والفاعلين السياسيين والاقتصاديين والتربويين والسوسيولوجيين والسيكولوجيين والإعلاميين والدينين والحقوقيين والأمنيين عبر فتح حوار وطني من أجل تكسير هذا الطابو من جهة ،والعمل على تحسيس ممارسي أو مرتادي هذا العمل الدنيء بمخاطره ومضاعفاته الصحية والنفسية . والجدير بالذكر أن التمثلات الجنسية تختلف حسب المجالات الجغرافية والثقافية(ضرورة مراعاة السياقات والخصوصيات المجالية والسوسيولوجية والثقافية) التي تولد منظومة أو بيئة قيمية محددة ،مما يِؤثر على درجة قياس سلم الطابو من منطقة نفوذ إلى منطقة أخرى: ومن ذلك نرصد اختلاف ردود الأفعال المتراكمة والمتلاحقة باستمرار بين "قبلة الناظور"التي اعتبرت في إبانها "زلزالا أخلاقيا" يهدد "الأمن القيمي"لمنطقة مصنفة تاريخيا من بين أكثر المناطق محافظة وذات الغيرة الشديدة على العرض والشرف ،وهذا ما يسوغ حجم التظاهرات وسيل العرائض ومسلسل التحركات والاحتجاجات والتنديدات الوطنية والدولية المواكبة لهذه الحادثة ،فيما سكوب مراكش وأكادير التي يظهر من خلالها بعض الشباب والشابات في أوضاع جنسية ساخنة لم يخلفا أصداء كبيرة ماعدا المواقف المؤيدة والمعارضة وغير المكترثة التي تبادلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي(تفجير بعض الشباب مكبوتاتهم الجنسية عبر المنتديات والعوالم الافتراضية، مع ما يولده ذلك من نظرة دونية للوسط الأسري خصوصا ،والانتماء الوطني عموما ،وتمجيد وتسويق نماذج قيمية غربية باعتباره رد فعل سلبي يعكس شكلا من أشكال التمرد المجتمعي، أو الثقافة المضادة المعبرة عن غياب أو ضعف ثقافة جنسية مؤطرة وممأسسة). وهذه من الإشارات التي ينبغي أن يلتقطها المهتمون بالمجال التربوي والخبراء في ميدان العلاقات بين الجنسين وتحديدا فئة الشباب). وهذا يعني من جملة ما يعني أن طابو الجنس، لدى شريحة الشباب، يشي بنوع من الانتقال القيمي والتحول المجالي والمجتمعي والاعتراف الضمني أحيانا نوالصريح أحيانا أخرى، بالهامش الجنسي ،مما يطرح سؤال التربية والتوعية الجنسية من طرف فاعلين تربويين، وسيكولوجيين، وسوسيولوجيين تصحيحا للمفاهيم وإعادة بناء العلاقات بين الجنسين على أساس المساواة وتكافؤ الفرص ن والاحترام المتبادل نومنهج الإقناع والاقتناع عبر تعميق الحوار البناء والراشد داخل الأسرة والمدرسة والإعلام ومؤسسة المسجد والشارع العام، ترسيخا لمبدأ حسن الإنصات والتفاعل مع الرأي والرأي الآخر، بعيدا عن لغة الصم والبكم والإكراه والإرغام في مجتمع تربت قطاعات عريضة من أفراده على القهر الاجتماعي والحرمان والكبت وإجهاض الأحلام وإقبارها . تلعب المواقع الاجتماعية والعوالم الافتراضية الناجمة عن زخم التحولات الوسائطية وتكنولوجيا المعلومات، إذن،أدوارا خطيرة ومتصاعدة في إدمان الشباب على الأفلام البورنوغرافية، واللقطات الساخنة، والصور ذات الحمولات والإيحاءات الايروسية في إطار ما يصطلح عليه ب"الإدمان الافتراضي" المعبر عن أمراض وعقد نفسية، تقتضي عرض صاحبها لمتابعة ميدانية فورية من طرف أخصائيين نفسين عبر برنامج علاجي صارم ذي لمسات وبصمات ورتوشات فنية معينة ،من أجل تجاوز المريض مرحلة الخطر والسكتة القلبية والجلطة الدماغية وتحرره من وهم أو شبح مخيال افتراضي غير قابل التحقق على أرض الواقع. زد على ذلك ،أن من تداعيات الإدمان على المواقع الإباحية تنامي حساسية وتمثلات و"إيديولوجية" جنسية لدى الشباب من خلالها يتم النظر إلى السياق المجتمعي وتقييم أداءه ، مع ما يستتبع هذه الجنسانية المرضية من مقاطعة وعزوف ممنهج عن الانخراط الواعي والايجابي والمسئول في قضايا المجتمع والتجاوب مع أسئلته، وتحدياته، وإشكالاته لأنه سجين نزعاته المرضية الشبقية التي لا ينفلت منها قيد أنملة . والخطير في الأمر، أن تلازم الشاب هذه الأمراض النفسية عندما ينخرط في مؤسسة الزواج حيث يحاول تصريف "موروثاته السلوكية"الشاذة والغريبة عبر التحرش الجنسي، أو العنف اللفظي المشحون جنسيا ضد الآخر، أو السعي إلى تمييع الفضاء العام عبر علاقات مشبوهة يرفضها المجتمع والوجدان الجماعي، مما يعرض مرتكبها للملاحقة القضائية والمتابعة الأمنية والعقوبة الزجرية والحبسية. أضف إلى ذلك، شعور المدمن بعد الزواج بالتناقض القيمي والانفصام الجنسي خصوصا إذا اقترن (أو اقترنت)بشريك حياة لم تحنكه التجارب والمغامرات الليلية، ولم تروضه المواقع والمنتديات الافتراضية عن طقوس ممارسة الجنس ومراودة الطرف الآخر،مما يخلق صداما بين المرجعيات الثقافية والمجتمعية للطرفين بين مرجعية مرتهنة للموروث الثقافي التقليدي والترسبات العلائقية الكلاسيكية، ومرجعية تروم النمذجة ،والتمرد ،وتكسير الطابوهات والمسكوت عنه، ومحاكاة تجارب مستنبتة في بيئة ثقافية غريبة عن البيئة الأم أو الأصل أو المنشأ (وهذا ما يمكن الاصطلاح عليه بالثقافة بالنظير)،الأمر الذي يطرح سؤال التثقيف الجنسي المتوازن البديل الذي يمكن اعتماده للحد من هذه الهجرة الفردية والجماعية نحو عوالم افتراضية إباحية( التي تخلق صداما قيميا بين قيم الهامش التابع وقيم المركز المتحكم)، يفقد معها الشاب والشابة ،على حد سواء، خارطة الطريق وبوصلة النجاة في بحر متلاطم الأمواج. يمكن تحيين ومواجهة سؤال الجنس عبر بيع الإنسان لجسده من خلال العمل الجنسي المباشر الصريح أو الافتراضي الوهمي، عبر اعتماد مقاربة شمولية تشاركية واستراتيجية مندمجة تتوخى استحضار مختلف الفاعلين والمتدخلين من أطر تربوية ،وطبية ،ونفسية، وسوسيولوجية، وحقوقية ،وأمنية، ودينية، وانثروبولوجية من أجل بناء "بنك معلومات" أو "قاعدة بيانات" تمد الباحث ،في هذا المجال، بذخيرة معرفية ومعطيات رقمية وميدانية تساعده على تشخيص وتحليل واستشراف واقع العمل الجنسي الاحترافي أو الهاوي من خلال نشر ثقافة الوعي الجنسي، لاسيما أن منظمة الصحة العالمية طالما دقت ناقوس الخطر من خلال التحسيس بمخاطر الأمراض المنقولة جنسيا والتي تشكل من بين خمسة أمراض وبائية تهدد الصحة النفسية والإنجابية والبيولوجية لحياة المغاربة،مما يفرض مقاربة الموضوع من زاوية مراعاة الثوابت والمسلمات الدينية شريطة الانفتاح على التحولات القيمية التي يضبطها ويؤطرها إيقاع المرحلة .