بالأمس القريب كانت خطب الجمعة لا تسجل بالكاميرا إلا في حضرة صاحب الفخامة، لكن صديقنا النهاري بقدرة قادر كانت تسجل خطب الجمعة التي يلقيها وكانت توزع في ربوع المحمية، وكان يصول ويجول ويحشر نفسه في مواضيع بعيدة بعد السماء والأرض عن خطبة الجمعة ولا يستوعبها أغلب المصلين، ورغم ذلك كان من الناس المأذون لهم الخوض في براثن السياسة النتنة والتكلم في "الأعداء" ونعتهم بأقبح النعوت ومنها اكتسب صديقنا خفيف الظل شعبية وأصبح معروفا بفضل صولاته فوق المنبر وبضربات عكازه الهستيرية الغير المفهومة وتمثيلية سقوط ساعة يده من على المنبر، وبعدما انتهى من السيناريو الذي أعد له رمي من قاموس سيده وأصبح غير مرغوب فيه وأصبحت علامة المنع فأل يطارد الفقيه/الشيخ أينما حل وارتحل سواء دعته جمعية قريبة من الإخوان لايت أو من إطار نقابي يسيطر عليه فصيل لطالما نعت بأقبح النعوت والأوصاف ومنبر المسجد وآلة التصوير شاهدة عن الواقعة. لكن ما لم يستصغه كل ذو عقل لبيب، هو كيف لي خطيب جمعة أن يسجل خطبه ويتم توزيعها في أرجاء البلاد في الوقت الذي كان المخزن يحكم وثاقه على الحقل الديني ولا يترك المجال لمزاحمة أي أحد لقطع الطريق عن الإسلاميين الذين يشكلون خطر عليه. فكيف إذن سمح للنهاري إذاك اعتلاء المنبر والتسجيل والتوزيع لفكره وأرائه وغزواته فوق المنبر إلى جميع المدن رغم أن وجدة بعيدة كثيرة من المناطق التي تصل إليها أشرطته، ولماذا لم يتدخل المخزن أنداك ويمنعه من إلقاء الخطبة كما فعل مع عشرات الأئمة ومنهم من دنس رجال القوات المساعدة حرمات المساجد وأنزلوهم من المنبر أثناء إلقاء الخطبة،فما الفرق إذن بين الاثنين؟. فان تكون مأذون لك في الخوض في جلد خصوم المخزن والتكلم في خطب الجمعة والمواعظ المسجدية عن أمور تعتبر ذات شأن سياسي وتناقش أطروحات أطياف سياسية معارضة وتبخس من شأنها، وتسجيل خطب الجمعة بعد أحداث 16 ماي 'الإرهابية' واستغلال منبر المسجد في مسائل سياسية هذا ما لا يقبله المخزن إلا إن كان له مصلحة وكان سيناريو الخطبة معد مسبقا من طرفه أو بإذن من جنبه المحترم، فهذا شأن أصبح من المسلمات في مغربنا العزيز ،وأصبح رجال المقدم والشيخ ترصد كل صغيرة وكبيرة في المسجد بل وأصبح حتى القيمين على شؤون بعض المساجد يعينهم شيخ المنطقة لكي يكونوا عينه التي تراقب كل مايجري في المسجد، فكيف إذن في ظل الإحكام الكبير والخانق على الحقل الديني من طرف المخزن والتحكم في أدق تفاصيله ،بل حتى السهر على متابعة الأسابيع التي تنظم من طرف بعض الأضرحة والزوايا والتي تصل إلى الدرجة التمويل من أعلى السلطات في البلاد، إلا برهان على أن أفضل طريقة لاحتواء الحقل الديني هو السيطرة على كل المتدخلين فيه وقطع الطريق على كل من يريد التكلم باسم الدين او مشابه ذلك . أن يوجد في ظل هذا الإحكام الكبير على الحقل الديني عبد الله النهاري حر طليق فوق المنبر ويتكلم في السياسة ويناقش أطروحات حركات معارضة ويتكلم عن صحافيين ويكفر بعضهم، دليل قاطع عن أن السيد كان يتوفر على الضوء الأخضر يخول له الخوض في مثل هذه المواضيع، لأنه يخدم مصلحة المخزن ويشوش على المعارضين ويحرض الرأي العام عليهم، وفور انتهاء خدمته ها نحن نلاحظ اللعنة التي أصبحت تركض وراؤه أينما حل وارتحل وأخرها ما وقع في جامعة القاضي عياض بمراكش، هذا أنموذج شخص سبق خيره إلى المخزن قبل شره. أما أنموذجنا الثاني فشره نحو المخزن سبق خيره، نتحدث هنا عن محمد الفيزازي الذي يعتبر من شيوخ السلفية والذي اعتقل وحكم بثلاثين سنة، والتي قضى منها تسع سنين وخرج بعدها بعفو ملكي غير واضح المعالم، بدأت تتجلى أهدافه شيئا فشيئا مع مرور الوقت ، فمن شيخ كفر وأخرج من الملة المجتمع والأحزاب والدولة ومؤسساتها وقال في السياسة ما لم يقله مالك في الخمر ، إلى شيخ معتدل أصبح يعبر بين الفينة والأخرى عن مراجعات عديدة تتعلق بنبذ العنف وتصحيح مفهوم الجهاد بالإضافة إلى الموقف من النظام الملكي ومن إمارة المؤمنين ومن الانتخابات والعمل السياسي في إطار الديمقراطية الحديثة.. ويتخلى عن جبر ضرره مما فعله فيه جلادوه خلال التسع سينين التي قضاها في السجن، دليل واضح عن هدف منحه العفو دون غيره وحضوته بإلقاء خطبة الجمعة أمام الملك، علامات واضحة تظهر تحكم المخزن في المشهد الديني وإحكام وثاقه من جميع الجهات وتغيير الوجوه بين الفينة والأخرى لإعطاء دينامية ورونق للمشهد. رغم ما يبرز في ظاهر المسألة، أن الدولة تريد إدماج المتراجعين عن الأفكار المتشددة من التيار السلفي وجعلهم قدوة للآخرين سواء الذين مازالوا قابعين في السجون أو الموجودين خارج أسوار السجن،إلى أن جوهر العملية المخزنية تعمل على تبخيس شأن هؤلاء الشيوخ وإفقاد الشعب الثقة فيهم، لطمر أي زعامات يمكن أن تشكل خطر في المستقبل والاحتفاظ بالدور الريادي في الحقل الديني إلى المخزن ومؤسساته وأشخاصه.