فارس منابر وجدة هكذا يلقبه محبوه، واسمه عبد الله نهاري، وصفته الداعية المبعد عن المنابر، إنه رمز الدعاة في الكتب الروحانية المنتسبة للجهة الشرقية منذ أن طرد من منابر مساجد وجدة...فهل يمكن للمبعد عن ممارسة الخطابة بمسجد الكوثر بحي كولوش، أن يطمئن إلى الطريقة التي يدبر بها الشأن الديني بالمغرب مند أن أخرجوه من جنته الدعوية، بعد ما قضى بها حوالي ثلاثين سنة؟ كيف يستريح الخطيب المطرود بورقة حمراء في فضاء غير الفضاء الذي ألفه؟ هل تعوض براءته مما نسب إليه في محاكمته الأخيرة، غرابة حياته التي بدأت في ركن قاس من جهات المغرب الأقصى، لتجعل طريقته في الدعوة وجرأة ملامسة مواضيعها ظاهرة فريدة؟ هي ذي الغرابة المفارقة فعلا. هذا الرجل الذي ذاع صيته في كل أركان المغرب كيف يكون بلا منبر في بلدته يشفي من فوقه لوعة ما أسماه " حق العلماء في تغيير المنكر". الصبر على الابتلاء ديدن الصادقين من الدعاة، وأكثرهم ابتلاء أكثرهم جرأة وقدرة على الجهر بالحق، والداعية عبد الله نهاري على هذا الدرب سار أو هكذا يبدو على الأقل، ومراحل محاكمته فيما بات يعرف بقضية رئيس تحرير الأحداث المغربية، تكبر هذا المنحى في حياته الدعوية. في إحدى محاضراته التي تناقلت مقطعا منها العديد من المواقع صدع بما صدع به نبي الله يوسف :" السجن أحب إلي مما يدعونني إليه". وهي إشارة دالة على أن قناعة الداعية لا تتغير بمحاكمة ولا غيرها، وهي راسخة يزيدها صفاء المنبع رسوخا وشموخا. فحينما كان الداعية عبد الله نهاري بعد الانتهاء من آخر جلسات هذه المحاكمة التي ربما ستدخل التاريخ من حيث ظرفيتها وغرابة تحريكها، بساحة المحكمة الابتدائية بوجدة، وقد رافقه العديد من الأتباع والمحبين بدا أمام وسائل الإعلام المكتوبة والالكترونية واثقا من عدالة فصيته لأنه اعتقد بصحة متساوية رياضية لا ينكرها إلا علماني:" الدين = الاستقرار" لذلك قالها صراحة: " مازلت على الدرب لنصرة الدين" . وما أن نطقت المحكمة ببراءة الأستاذ عبد الله نهاري، حتى استنتج منها ما استنتج، واستخلص العبر والعظات التي سيستنير بها في حياته الدعوية، فأولى الاستنتاجات يمكن وصفها بالانطباعات الطيبة حول القضاء فقد وصفه بقوله:" القضاء كان على درجة عالية من المسؤولية... وهذا الحكم هو لبنة من لبنات إصلاح القضاء... الذي يعتبر إصلاحه ورشا كبيرا" فطوال فترة المحاكمة، كان الأستاذ عبد الله نهاري يختبر حقيقة القضاء المغربي، وكنه استقلالية جهاز كثر حول إصلاحه العديد من النظريات والرؤى. وحملت معها أكثر من انتقاد، بالنسبة للنهاري كان ينتظر قول المحكمة في قضيته ليخلص إلى ما خلص إليه من تطمينات، لأنه كان يعتقد أن منطوقه الذي يحاكم من أجله لا يندرج ضمن رأيه الشخصي إنما هو قول الشرع، وقول الشرع أسمى من أن تلاحقه المتابعات القضائية، لذلك فهو بريء من التهم المنسوبة إليه. عبد العزيز افتاتي النائب البرلمان عن حزب العدالة والتنمية الذي كان حاضرا خلال هذه الجلسة اعتبر محاكمة الداعية عبد الله نهاري في هذه القضية ضربا من ضروب التيه عن الفضاءات التي ينبغي احتضان هذا السجال، فهو يخال الموضوع الذي جر داعية وجدة إلى المحاكم هو وجه من وجوه الصراع الثقافي بين مكونين للمجتمع، وبالتالي فمكان احتضان ذلك هو الفضاءات التي تتبنى النقاش ومقارعة الحجة بالحجة عوض المحاكم والمتابعات . ما أسميناه بالانطباعات الطيبة حول القضاء ضمن استنتاجات الشيخ نهاري من تبرئته.يجره إلى مزيد من الاستقراء لصالح أطروحته التي ينبني عليها مساره الدعوي، فقد أشر الحكم من خلال تصورات الشيخ وقراءته، على إسلامية المغرب، وأكد على حق العلماء في تغيير المنكر باللسان لأن ذلك يندرج ضمن وظيفة العلماء في دولة إسلامية وشعبها مسلم. ونعتقد بغير قليل من الجزم أن بذرة الاسم الدعوي للسيد عبد الله نهاري، تعود إلى تلك الدروس الوعظية بمسجد بحي أنهكته عوامل الفقر والتهميش والإحباط واليأس كما قد تعود إلى أجواء الانتماء إلى ثقافة إسلامية قد أشبعتها تربية الوالد ونصائحه، فيمكن أن نتصور ذلك الشيخ الحامل لكتاب الله، ورئيس جماعة أغبال والد عبد الله بهاري كما أكدها للجريدة ذات يوم المرحوم محمد نهاري أخو السيد عبد الله، يستيقظ ذات صباح وهو يرى صغاره قد اشتد عودهم فيجمعهم على مأذبة النصيحة: " من أهم نصائحه لي ولأخوتي والتي أنصح بها من خلال هذا المنبر كافة الإخوة والأصدقاء والمواطنين: عليكم بثلاث، الحياة على الإسلام فلا تحيدوا عنه قد أنملة، وعليكم بحسن الخلق مع الناس، وعليكم بطلب العلم أينما كنتم.." ويبقى المؤكد من التخمين أن أبناء الشيخ قد وعوا جيدا نصيحة أبيهم ، فكانت ربما سر هذا التألق فوق المنابر. قدر السي عبد الله أن يولد لصيغة أخرى، فكان عليه أن يتابع دراسته بالمدرسة النظامية ويحصل على الإجازة في الاقتصاد. ويجد له وظيفة بغرفة الصناعة التقليدية، بعيدا عن كل تكوين ففهي وشرعي، ولن تتفتح شهيته للعلوم الدينية إلا بعد دخول مجال الوعظ وربما الانخراط بحركة التوحيد والإصلاح. ومن قدر المرحلة أن لا شيء كان يدوم، وأن كل اللحظات هي منعطفات للقاءات وأقدار أخرى، وهذا حال يسري على حياته العملية، فبعد حصوله على الإجازة اضطر للعمل في مجال التعليم خصوصا بعد وفاة الوالد، ثلاث سنوات من الاشتغال بمهنة الأنبياء بإقليم الحسيمة، كانت كافية ليتعلم منها كثيرا من قواعد التواصل والإلقاء، ومقومات الشرح وصفات الأستاذية، وخلال سنة 1991 سيجتاز مباراة للاشتغال بغرفة الصناعة التقليدية برتبة متصرف وهي المباراة التي ستفتح له أبواب العودة إلى مدينة وجدة بشكل دائم، ليجد طريقه إلى مسجد الكوثر بحي كلوش من الجهة الشمالية للمدينة . كانت بداية الاشتغال بالخطابة والوعظ سنة 1987 لكن البداية القوية كانت بعدت تداول خطبه على الشبكة العنكبوتية، وأصبحت خطبه المنتقدة للسياسات الرسمية تتداول على صعيد واسع وتلقى المزيد من الشعبية لملامستها القضايا التي يعاني منها الشعب المغربي، وتشذ أذهان المتتبعين إلى الداعية الإسلامي الكبير عبد الحميد كشك للتشابه الكبير في الأداء والإلقاء حتى أطلق على النهاري كشك المغرب. وجاء شهر أبريل 2011 وهي الفترة التي سيتم توقيف عبد الله نهاري من الخطابة بمراسلة من مندوبية الأوقاف والشؤون الإسلامية أختلف في تأويل أسبابها، لكنه وقياسا على ما قاله سارتر “أن يكون المرء ميتا معناه أن يكون فريسة للأحياء" فيمكن للسي نهاري أن يومن بقولة مصاغة على ذات المنوال:" أن يكون المرء داعية معناه أن يكون فريسة للعلمانيين". هكذا فهم النهاري قضية توقيفه وهكذا فهمها معه محبوه، وقد أسال قرار توقيف عبد الله نهاري من الخطابة وإبعاده عن المنبر الكثير من المداد وتناسلت معه التحليلات والتفسيرات، لكن أكثرها تداولا وقتها أن قرار منع الشيخ النهاري يترجم تخوف السلطات المغربية من بروز قيادة دينية مستقلة يمكنها أن تصبح رمزا للحركات الاحتجاجية التي كان يشهدها الشارع المغربي وقتئذ، للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية والقضاء على الفساد في البلاد، وربما كانت النقطة التي أفاضت كأس غضب وزارة الأوقاف من شعبية النهاري، هو إحدى خطبه التي لامست شروط الإصلاح السياسي في المغرب، والتي هاجم فيها ما أسماه بؤر الفساد التي تسعى جاهدة إلى إبقاء الأوضاع في المغرب على ما هي عليه، لأنها المستفيد الأكبر من انعدام ديمقراطية حقيقية في البلاد ومن وجود سلط مستقلة يمكنها محاسبة المفسدين، في هذه الخطبة انتقد أيضا وزيرة التنمية الاجتماعية آنذاك نزهة الصقلي عن بعض مواقفها وتصريحاتها . توقف عبد الله نهاري عن الخطابة بكل الذي شاع عن هذا الإبعاد، ولم تكد تمر سنة على هذا التوقيف من مسجد الكوثر حتى وجد نفسه خلال أبريل 2012 موقوفا من جديد عن دروس الوعظ التي كان يلقيها بمسجد القدس والتوابين، والتوقف هذه المرة يأتي عن طريق وزارة الداخلية بعد استدعاء والي الهومام للنهاري إلى مقر الولاية الجهة الشرقية، ليخبره أن وزارة الداخلية قررت توقيفه نهائيا من دروس الوعظ والإرشاد، ومن المنبر ومنعه من مغادرة التراب الوطني لأسباب أمنية ودولية. وبهذا القرار تكون الجهة التي كانت ترغب في توقيف عبد الله نهاري قد عرت عن وجهها بعد ما لم تفلح في توهيم المتتبعين أن قرار توقيف النهاري ثانية كان بمبادرة من رآسة المجلس العلمي المحلي باعتبارها الجهة الموكول لها تنظيم الحقل الدعوي محليا، أو هكذا أراد المندوب الجهوي لوزارة الأوقاف أن يقنع محبي الداعية لإثارة الفتنة بين محبي عبد الله نهاري والعلامة مصطفى بنحمزة . ولعل تسارع الأحداث في هذه القضية وتوتر العلاقات بين محبي الداعيتين، تشي أن الخطة التي كانت تحبك من جهات ما قد وصلت إلى جزء من مبتغاها، وقد أثار الأستاذ الشركي في إحدى مقالاته التي قارب من خلالها خطر الأضواء الإعلامية على الداعية النهاري، إلى ضرورة التنبيه لكيد المغرضين الذين يريدون الاصطياد في المياه الراكدة . هذه بعض المحطات من حياة عبد الله نهاري التي بصمت حياته الدعوية بكثير من الإعجاب وبكثير من الانتقاد، وليس في هذا التأثيث الدعوي لرجل خرج من جماعة أغبال مع أسرته إلى مدينة وجدة منحى يروم الطقوسية أو أية صوفية ثورية، تجعل الخطيب مهديا منتظرا، بل إننا ندعي بما يشبه الجزم أن حلم الكثير من المغاربة بمقاربة مواضيع آنية وذات صلة بالواقع المعيش من على المنابر، يكشف بالفعل عن وجود مقبرة داخلية تسكنها الأفكار والأعطاب معا، كما تسكنها الرغبات المكبوتة والأحلام الضائعة، وهل يمكن لشعب يحمل مقابر في دواخله أن يعيش عيشة هنيئة؟.