المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد التزم بقضايا عصره الكبرى، كقضايا حقوق الإنسان والنضال ضد كل أشكال القهر والتخلف ونافح من أجل الديمقراطية والعدالة. شهدت قاعة المحاضرات الكبرى بجامعة الجزائر 2 هذا الأسبوع ولمدة يومين ندوة وطنية مخصصة حصريا لتكريم المفكر والناقد والسياسي الفلسطيني العربي إدوارد سعيد، وقد شارك فيها أكثر من ثلاثين باحثا وأستاذا جامعيا جاؤوا جميعا من مختلف محافظات القطر الجزائري. لقد نظمت هذه الندوة الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية التي يرأسها الدكتور عمر بوساحة بدعم ومساهمة من رئاسة جامعة الجزائر في شخص رئيسها الدكتور صالح خنور، وعميد كلية العلوم الإنسانية الدكتور عبد المجيد دهوم فضلا عن مخابر البحث الجامعية وهي مخبر إشكالية البحث العلمي، ومخبر جماليات الفنون ومخبر الدراسات الفلسفية والأكسيولوجية. لقد حضر هذه الندوة جمهور الطلبة والكتاب والأساتذة والإعلاميين والمهتمين بنضال وبفكر إدوارد سعيد وتطوراته وتأثيره في صياغة الرأي العام العربي والعالمي. عن الأسباب التي دفعت الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية لعقد هذه الندوة قال لي رئيسها الدكتور عمر بوساحة أن إدوارد سعيد الذي يعد من المفكرين والنقاد العالميين الجديرين بالتكريم وذلك لأنه "التزم بقضايا عصره الكبرى: كقضايا حقوق الإنسان والنضال ضد كل أشكال القهر والاستعمار والتخلف وأنه نافح من أجل الديمقراطية والعدالة في كل مكان، الأمر الذي جعل منه مثالا للنضال من أجل الإنسانية جمعاء إلى جانب ذلك فقد وظف سعيد حياته كلها وكذلك فكره من أجل مكافحة الاستعمار بكل أشكاله بما في ذلك الاستعمار الثقافي. وبذلك انضمّ إلى فرانس فانون وآخرين للدعوة إلى تحويل الوعي الوطني الذي ساد مرحلة الاستعمار إلى وعي اجتماعي في مرحلة الاستقلال أي لانتقال من مرحلة التحرر الوطني من المستعمر إلى مرحلة التحرر الاجتماعي الداخلي وذلك من أجل بناء مجتمع الحرية والديمقراطية وبناء ثقافة جديدة على أنقاض ثقافة المستعمر وثقافة المجتمع التقليدي". ثقافة إنسانية وفي هذا الصدد يعتبر رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية الدكتور عمر بوساحة فكر إدوارد سعيد تجربة متميزة في الارتحال بين الثقافات والإقامة بينها كما وصف هو نفسه باستمرار، منبها إلى ما يمكن أن تحققه الهجنة الثقافية التي كان يدعو إليها من تشكيل لثقافة إنسانية كونية"، وفضلا عن ذلك فإن تراث إدوارد سعيد يمثل منهلا للمثقفين عندنا وفي العالم ولا غرو في ذلك لأنه قد دعا هؤلاء المثقفين إلى تمثل تجربة الأنبياء في مواجهة السلطات المستبدة القمعية بسلطة الحق". في هذه الندوة التكريمية ناقش الأساتذة والباحثون عدة محاور أساسية في فكر إدوارد سعيد منها قضايا المثقف الوطني والمثقف الكوني، ودنيوية النص، والجدل بين الأدب والفلسفة في التجربة النقدية عند سعيد، ودوره في تأسيس الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، والنشاط السياسي النقدي عنده وغيرها من القضايا. من الملاحظ أن الباحثين والدارسين المشاركين في هذه الندوة قد أجمعوا على أن "شخصية سعيد ذات أبعاد عدة منها: الأكاديمي والناقد والموسيقي والسياسي والإنسان من دون أن يضيّق أي بعد منها على الآخر. ويمثل هذا التعدد والشمول والعمق الإنساني الكبير ظاهرة متميزة وهي التي جعلت من شخصه ومنجزه العلمي الشخصية المناسبة في الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة الذي نظمته الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية". هذا وأكد الدكتور بوساحة أن "الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية ستواصل الاحتفاء بفكر سعيد ونشره بين صفوف أجيال الطلبة نظرا لأهمية هذا الفكر في الراهن العربي والعالمي"، ثم أضاف قائلا بأن هذه الجمعية "قد برمجت ندوة ستعقد في الأيام القريبة القادمة تتناول بالتحليل والنقاش نظرية ما بعد الاستعمار الذي كان إدوارد سعيد من مؤسسيها فضلا عن ندوات أخرى كثيرة تمّت برمجتها بالتعاون مع الإذاعة الوطنية الجزائرية حيث أن مسعانا هذا هو أن نعرف الجمهور الجزائري بقيمة هذا الرجل وبعمق فكره وجرأته في التصدي لأعقد إشكالات حضارة العصر وبنضاله الدؤوب من أجل بناء إنسانية جديدة ينتفي فيها الظلم والقهر والتسلط، ومن أجل عالم إنساني متسامح مؤسس على انفتاح الثقافات على بعضها وخال من الهيمنة والتسلط والاحتقار". المثقف والرسالة إن الجدير بالذكر هو أن محور علاقة المثقف بالسلطة في كتابات إدوارد سعيد وكذلك في سلوكه النضالي قد كان طاغيا على أشغال الندوة، وهذا ما أكده الدكتور الأزهر الريحاني. أما الدكتور رضا الشريف فقد عالج العلاقة الجدلية بين المثقف والسلطة في حين كرس الدكتور إبراهيم سعدي مداخلته لصورة المثقف في كتابات وسلوك إدوارد سعيد. يرى الدكتور إبراهيم سعدي أن المثقف عند إدوارد سعيد هو "صاحب رسالة، صوت من لا صوت لهم، شخص يتميز أيضا عن غيره من البشر في بعض الصفات مثل التجرد، والدفاع عن القيم الإنسانية"، بمعنى أن المثقف هو "صاحب دور نقدي بالأساس، ومن الواضح أنه لا يمكن أداء هذا الدور دون توفر شرط الاستقلالية". ويلاحظ في مداخلته أيضا وجود تقارب بين مفهوم المثقف عند إدوارد سعيد وعند محمد أركون وذلك في اتفاقهما بأن دور المثقف العلماني هو تمثيل الحقيقة وإن كانا يختلفان في كون الحقيقة والنضال من أجلها، فعند أركون أمور ذات طابع ابستمولوجي ومعرفي في حين أن الحقيقة عند إدوارد سعيد ذات أساس أخلاقي. أما مداخلة الدكتور إسماعيل مهنانة فقد عالجت مفهوم وصورة المثقف الإنساني عند إدوارد سعيد بغض النظر عن موقعه الطبقي وهويته السياسية والثقافية وحتى العرقية حيث أن إدوارد سعيد في رأيه ينتصر للبعد الإنساني في كتاباته وموقفه. من الملاحظ أن الباحث رضا شريف في مداخلته التي تحمل عنوان "جدلية المثقف والسلطة عند إدوارد سعيد" يواصل نفس المسار وأوضح أن سعيد يرى هذه الجدلية ذات طابع نقدي ولا يمكن للمثقف إلا أن يقول الحقيقة أمام السلطة مهما كان الثمن. تلك هي بعض الملامح العامة للندوة ومضامينها الأساسية علما أن ثمة مداخلات أخرى قد تعرضت بالتحليل للمنهج النقدي عند إدوارد سعيد، ولكتاباته السياسية المكرسة للقضية الفلسطينية، ولعلاقة سعيد السجالية بفلسفة كل من ميشال فوكو وجاك دريدا بشكل خاص فضلا عن الموقع الريادي لدوره هو في توفير نظرية نقد الخطاب الكولونيالي كعنصر مهم في عملية تأسيس الدراسات الكولونيالية كشعبة أكاديمية وكتقليد نقدي متميز له خصائصه في مجال العلوم الإنسانية. الدراسات الكولونيالية يمكن لي أن أسجل هنا بعض الملاحظات منها أن هذه الندوة لم تتساءل عن الغياب النسبي لقضية أساسية في نشاط سعيد الفكري وهي عدم اشتغاله على تحليل ونقد الفكر العربي قديمه وحديثه في إطار منهجي شامل. كما أن الندوة لم تخصص مداخلات تدرس الكيفية التي بموجبها نتمكن من "ترحيل" الأسس الفكرية والجهاز النظري والمواقف المبدئية التي استعارها إدوارد سعيد من النظرية النقدية والفلسفية الغربية ووظفها باقتدار في كتاباته وكانت له سندا في سلوكه ومواقفه أو تلك المفاهيم والعناصر النظرية التي ابتكرها بنفسه إلى فضاء دراسة واقعنا الوطني والإقليمي المعاصر بكل أبنيته الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية. وأكثر من ذلك فإن هذه الندوة كانت في حاجة إلى محور يدرس مشكلة أساسية في الدراسات ما بعد الكولونيالية وتتمثل في نقطتين: الأولى في غياب هذه الدراسات كشعبة أكاديمية مرسمة لها إطاراتها الكُفْأَة في التعليم العالي بمعاهدنا وجامعاتنا من المحيط إلى الخليج، وتتمثل النقطة الثانية في تضييق حدودها وجمودها بداخل سياج الأدب نظريا وإبداعيا والثقافة بمعزل عن أساسها التعليمي التربوي، وتكويناتها في النسيج العفوي الشعبي الخرافي والشعوذي والأصولي الديني الرجعي وغيرها من التكوينات والترسبات اللاواعية المتخلفة والمفاهيم المغلقة مثل مفهوم الهوية القبلية والطائفية والأيديولوجية والعشائرية وغيرها في غالب الأحيان، كما أن هذه الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية لم تعد تعالج وتحلل على أيدي دارسينا ونقادنا وعلى ضوء المناهج المتطورة أثار الكولونيالية الباقية في البنيات التنظيمية، والعائلية، والسياسية، والاقتصادية والنفسية في مجتمعاتنا. وفضلا عن ذلك فإن النقاش الذي دار حول المثقف الكوني المجرد من انتمائه التاريخي، والروحي، والوطني، والطبقي، يمثل نوعا من التنظير الطوباوي وهو موضوع خلاف ولذلك فهو يحتاج إلى نقاش موسع وإلى تدقيق وربما إلى سجال مفتوح ودائم. لا شك أن مبادرة الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية وسهرها على انعقاد هذه الندوة حول نموذج المثقف الكبير والعالمي إدوارد سعيد في الجزائر خطوة مهمة وإيجابية ينبغي أن تتواصل وأن تتعمق.