يبدو أن فضيحة التجسس الأميركي، باتت تؤرق صناع القرار في البيت الأبيض، بعد أن أصبحت الشغل الشاغل لوسائل الإعلام العالمية، وذلك منذ أن بدأ "إدوارد سنودن"، العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأميركي، بتسريب المعلومات عن برنامج التجسس الأميركي، الذي ظهر أنه من الضخامة، بحيث طال مئات ملايين الأشخاص في مختلف أنحاء العالم، من بينهم أميركيون. وشمل البرنامج رؤوساء وقادة دول أوروبية وغير أوروبية، فضلا عن عشرات السفارات والبعثات الدبلوماسية، من خلال زرع أجهزة تنصت في الأجهزة الإلكترونية في السفارات وسواها، والتنصت على الهواتف النقالة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تستخدم من طرف الأفراد، والتجسس على مستخدمي محركي البحث "غوغل" و"ياهو"، وغير ذلك كثير. صدمة أخلاقية وشكلت فضيحة التجسس الأميركي صدمة سياسية وأخلاقية داخل المجتمعات الغربية، وأثارت تساؤلات عديدة، ومازالت ارتداداتها وإرهاصاتها، التي ضربت إمبراطورية الاستخبارات الأميركية، تتفاعل هذه الأيام في العديد من دول العالم، وخاصة في كل من فرنساوألمانيا، حليفتي الولاياتالمتحدة الأميركية. ولم تتوقف عند تقديم بعض منظمات المجتمع المدني، ومواطنين في بلدان أوروبية عديدة، دعاوى قضائية ضد وكالة الأمن القومي الأميركية، تطالب فيها بوقف استخدامها للبيانات، التي حصلت عليها بطريقة غير قانونية، بواسطة تجسسها على المكالمات الهاتفية في بلدانها، بل امتدت إلى إلغاء رئيسة البرازيل "ديلما روسيف" زيارة كانت مقررة لها إلى الولاياتالمتحدة الأميركية.وسيطرت القضية على أعمال قمة الاتحاد الأوروبي، التي انعقدت في بروكسل في نهاية الشهر العاشر المنصرم، حيث طرحت كل من فرنساوألمانيا مبادرة مشتركة، دعمتها الدول الأوروبية، تهدف إلى وضع قواعد مشتركة مع الولاياتالمتحدة الأميركية، وتتضمن اتفاقا بعدم التجسس عليهم، فيما سعت كل من ألمانياوالبرازيل إلى بلورة اقتراح، قدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بغية إقراره، تطالبان فيه بضرورة منع وإنهاء عمليات التجسس على الدول والمواطنين، الذين يستخدمون الاتصالات الإلكترونية. ويعتبر التجسس أحد أهم الركائز السياسية الهامة والمثيرة للجدل، بالنسبة لساسة الولاياتالمتحدة الأميركية، واستخدمته جميع الإدارات الأميركية، التي تعاقبت على البيت الأبيض، سواء جمهورية كانت أم ديمقراطية، حيث اعتمدته جميعها بوصفه سلاحا ضد الخصوم السياسيين والأعداء والأصدقاء، وعمدت إليه حتى فيما يتعلق بالشؤون الداخلية، وفي مجال التنافس بين الطبقة السياسية. وقد كانت فضيحة "ووترغيت"، أكبر فضيحة تجسس سياسية في تاريخ أميركا، ونشأت على خلفية لجوء الرئيس الأميركي"نيكسون" إلى التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس له في مبنى ووتر غيت، خلال خوضه معركة التجديد الرئاسي في انتخابات 1972. وفجّرت أزمة سياسية هائلة، نتجت عنها فضيحة، أطاحت بالرئيس نيكسون في أغسطس/آب من العام 1974، وجرت محاكمته بسببها. ودار جدل واسع حول دور أجهزة التجسس في الدولة، ونوعية الرقابة المفروضة عليها، ومدى خضوعها للضوابط، من جهة كونها ليست متروكة، تفعل ما تريد، لأنها تهدد التقاليد الديمقراطية التي تخضع كل المؤسسات للرقابة، حيث رأى المدافعون عن المؤسسات أنها ضرورية لحماية أمن الدولة والتصدي للأعداء والمنظمات والأجهزة المعادية. وخلال الحرب الباردة، وُجهت كافة أجهزة التجسس نحو الاتحاد السوفييتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية التي انهارت، واهتم عالم الجاسوسية بأخبار هذا المعسكر، وبأعداد الغواصات التي يملكها، والصواريخ والطائرات، والقواعد المنتشرة في دول صديقة له. ثم تحول التجسس، خلال تلك الحقبة إلى لعبة أمم مارسها الجميع، حيث كان معظم الأشخاص، الذين يعملون داخل السفارات بصفة دبلوماسية، يرتبطون بشكل سري بأجهزة الأمن. وكان من شروط اللعبة، الاحتفاظ بالمعلومات داخل الملفات والتقارير فقط، والمحافظة على السرية، بحيث لا تصل محتويات هذا الرصد التجسسي إلى الصحف أو الرأي العام. أما في عالم ما بعد الحرب الباردة فقد انهارت السرية، وراحت أجهزة التجسس الأميركية تختبر قدرتها على التغلغل واختراق شبكات، وتجميع معلومات عبر أدوات تكنولوجية حديثة تملكها وحدها. التجسس الجديد كشفت تسريبات المستشار السابق، "سنودن"، نشاطا تجسسيا، يتعدى ما يسمى المصلحة الوطنية إلى شيء آخر غير محدد، ليس هدفه الوحيد سلامة الدولة وأمن المواطنين، الأمر الذي أثار جدلا جديدا حول ماهية الدافع وراء التجسس الأميركي، ولماذا طال الدول الحليفة والصديقة أيضا؟ قد يكون مفهوما أن تتجسس الاستخبارات الأميركية على البلدان التي تصنفها داعمة للإرهاب، وعلى الدولة المعادية لها، أو تلك الدول التي تضعها في خانة الخصوم. كان هذا التفهم واردا تماما إبان فترة الحرب الباردة، حيث كان التجسس لعبة المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، لكن أن تتجسس وكالة الأمن القومي الأميركي على الدول الحليفة والصديقة، بل وتتجسس على ملايين المواطنين العاديين، فذلك أمر غير مفهوم، إلا في سياق معين غير مسبوق، لا يقبل التبرير ولا يحتمل التفهم، ولن يمحي تبعاته اعتذار الرئيس الأميركي باراك أوباما. وتزداد التساؤلات حول دوافع الولاياتالمتحدة قوة، لأن برنامج التجسس الأميركي لم يكن مخفيا عن الرئيس الأميركي باراك أوباما، ولم يمرر من وراء ظهره. وجاء في وقت كثر الحديث عن مزايا هذا الرئيس، وتفضيله لغة الدبلوماسية والحوار على لغة العنف والحرب، وفي مرحلة تشهد فيها العلاقات الأميركية الأوروبية، خاصة الألمانية والفرنسية، درجة عالية من التناغم والتطابق في ما يتعلق بمختلف القضايا العالمية. وأمام ضخامة الفضيحة، لم يجد مدير الاستخبارات القومية الأميركية "جيمس كلابر"، سوى القول بأن التجسس على قيادات وزعماء الدول الحلفاء والدول الأجنبية أمر منتشر، وممارس في عالم الاستخبارات في كل مكان، وأن الحلفاء أيضا يتجسسون على القادة والمسؤولين والمؤسسات الأميركية. بينما دافع رئيس وكالة الأمن القومي الأمريكي "كيث ألكسندرة" عن وكالته، التي رأى أنها تتصرف وفق المعايير القانونية، وأنها تعمل على حماية الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفائها من الأخطار الخارجية. ولعل العديد من المسؤولين الأمريكيين، وخاصة في أجهزة الاستخبارات، من يحاول تبرير التجسس الأمريكي بهاجس الخوف من الإرهاب، ويدخله في سياق "مكافحة الإرهاب" أو "الحرب العالمية ضد الإرهاب"، التي اجترحها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، على خلفية هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011، وبالتالي، فإن برنامج التجسس الأميركي يستند إلى القاعدة الشائعة، التي تقول بأن "الغاية تبرر الوسيلة". وهي قاعدة معروفة بأخلاقيتها وذرائعيتها. غير أن هذا التبرير "شبه الرسمي" للتجسس الأميركي مردود عليه، كونه لا يمكن أن يستخدم ذريعة للتجسس على خصوصيات أكثر من مائة وخمسة وعشرين مليون إنسان في العالم، خلال شهر واحد فقط. ولا يسوّغ -مثلا- ما أوردته صحيفة "بيلد آم سونتاغ" الأسبوعية الألمانية، من أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، كان على علم بمراقبة وكالة الأمن القومي الأمريكية لهاتف المستشارة الألمانية، "أنجيلا ميركل"، منذ ثلاث سنوات، وأنه هو بنفسه من وافق على عملية المراقبة. الدوافع والحيثيات وإن كان ثمة من دافع وراء التجسس الأميركي، فإنه لا يخرج عن نزعة الهيمنة الأميركية، إذ لا يمكن التسليم بأن الولاياتالمتحدة انقلبت، هكذا على حين غرّة، إلى بلد يعيش في عالم محفوف بالمخاطر الاستثنائية بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، حتى يتطلب تبرير برنامج التجسس الأميركي وضع صيغ تصريف جديدة، تعمل على تفكيك القانون الدولي وتبرر استباحة حرمة المؤسسات الدولية وانتهاك حرية الناس، بما يمنح البيت الأبيض سلطة الاستخفاف بحكم القانون في مختلف أرجاء العالم. لذلك ليس غلوا اعتبار أحداث 11سبتمبر/أيلول تكريسا نهائيا لمسار بارز، ساد منذ نهاية الحرب الباردة، أي المسار المكرّس للهيمنة الأميركية والسلوك الانفرادي، الذي كان بحاجة إلى خطر خارجي يوفر لهما الغطاء الإستراتيجي والفاعلية الهجومية. وقد استخدمت الإدارة الأميركية الهزّة النفسية الكبيرة التي خلفها حدث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011 بين صفوف الأميركيين، كي تبرر أجندتها، وتبرر نهجها في السيطرة والغطرسة، واعتمادها تكثيف التدخل في مختلف بقاع العالم. وفي نطاق ذلك دخل برنامج التجسس، الذي وضعته وكالة الأمن القومي الأميركي، وراحت تنتهك فيه الحريات والحرمات والقوانين الدولية لعشرات ملايين البشر، وتراقب مكالماتهم الهاتفية، وتخترق برودهم الالكترونية، وتتنصت على محادثاتهم عبر "سكايب" و"فايبر" و"وتس آب"، وتسخر أقمارا اصطناعية لرصد تحركات البشر وأماكن عيشهم وسكناهم. وتشكل فضيحة التجسس الأميركي مناسبة لإعادة التفكير في سلوك الولاياتالمتحدة الأميركية، وحدود هيمنتها، ودور أجهزة استخباراتها في العالم، ومعرفة الهدف من اعتمادها نهجا عاما لدولة عظمى، تتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتنتهكهما على الدوام خارج حدودها، وداخل حدودها أحيانا، خاصة وأنها باتت قضية ذات أبعاد متعددة، وتشكل خطرا على السيادة الوطنية لدول العالم الأخرى، وعلى الحريات الشخصية لملايين الناس في مختلف بقاع عالم اليوم. والمؤسف أنه من غير المرجح أن تؤثر قضية التجسس الأميركي سلبا وبشكل كبير في العلاقات الأميركية الأوروبية، بالرغم من ظهور بعض الأصوات التي طالبت بتأجيل التفاوض حول إنشاء منطقة حرة بين أوروبا والولاياتالمتحدة، وبالرغم أيضا من قرار الاتحاد الأوروبي وقف العمل بتبادل المعلومات عن المنظمات الإرهابية مع الولاياتالمتحدة، لأن ذلك لا يتعدى الموقف المحتشم، بوصفه مجرد إجراء مؤقت، يعبّر عن حالة الغضب الذي اجتاحت أوروبا بعد انكشاف الفضيحة. وبالمقابل، ليس واردا أن تتراجع الولاياتالمتحدة عن أعمالها الاستخباراتية، طالما أنها تملك التكنولوجيا الأكثر تطورا، وتملك القوة العسكرية الأكثر فتكا، والاقتصاد الأقوى في العالم، والمرجح أن كل ما صدر -ويصدر- عن أوروبا ليس سوى محاولة لحفظ ماء وجه قادتها أمام شعوبهم