بساحة الصفارين بقلب المدينة العتيقة بفاس جلس مولاي الطاهر القرفصاء وهو يحاول فك ألغاز إحدى شبكات الكلمات المتقاطعة بينما يتجاذب عبد الرحمن وأحمد الحديث حول كرة القدم وفوز ميسي بالكرة الذهبية. إنهم بعض الصناع التقليديين الذين يحاولون " قتل الوقت " في هذه الساحة التي كانت محلاتها التجارية وورشاتها المتخصصة في صناعة المشغولات النحاسية فيما مضى تعج بالزبائن والسياح والتي أضحت اليوم شبه فارغة. فقطاع الصناعة التقليدية الذي قاوم الأزمة لمدة طويلة استسلم للواقع حيث تهاوي الطلب الداخلي على منتوجاته بينما قل عدد السياح الذين كانوا يقتنون تذكارات ومشغولات تقليدية يحملونها معهم إلى بلدانهم لتذكرهم بأنهم حطوا الرحال في وقت ما بالعاصمة العلمية للمملكة. وفي الوقت الذي لا تزال فيه المشاريع والأوراش التي أعطيت انطلاقتها منذ سنوات للنهوض بقطاع الصناعة التقليدية وبعث الحركية في أوصاله لم تحقق أهدافها لا يتوانى أهل الحرفة على المطالبة بضرورة الالتفات إلى القطاع ومساعدة الصناع التقليديين على تجاوز هذه الأزمة. ويبلغ عدد المشتغلين بقطاع الصناعة التقليدية بمدينة فاس التي تعد حاضنة الصناعة التقليدية بالمغرب 53 ألف صانع تقليدي أي ما يمثل نسبة 17 في المائة من السكان النشطين موزعين على أزيد من 200 حرفة و 12 ألف و 691 وحدة متخصصة في الصناعة التقليدية. كما أن القطاع يشكل مصدرا مهما للدخل لحوالي 33 في المائة من ساكنة المدينة ولأكثر من 70 في المائة من السكان المستقرين داخل أسوار المدينة القديمة لوحدها. وقد حقق قطاع الصناعة التقليدية ما مجموعه 28 مليون درهم من قيمة الصادرات أي ما يمثل 47 في المائة من قيمة الصادرات الوطنية من منتوجات الصناعة التقليدية. لكن وبالرغم من الوضعية المتقدمة التي يحتلها القطاع سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي فإنه يعاني من عدة اختلالات وإكراهات تسببت في اندثار مجموعة من الحرف ودفعت بالعاملين فيه إلى حياة الهشاشة والفقر والعوز. ويقول أحمد كشمار عضو تعاونية الدباغة ( واد الزحون ) بفاس إن الأوضاع لم تعد كما كانت في الماضي لأن قطاع الصناعة التقليدية " تم التخلي عنه وترك ليواجه مصيره المجهول". وبرأيه فإن قطاع الصناعة التقليدية بفاس يعاني من أزمة حادة جراء "ارتفاع أسعار المواد الأولية وانعدام فضاءات لتسويق المنتوج فضلا عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية". كما أن السيد أحمد كشمار الذي يتحدث بحنين كبير عن الأيام الزاهية لقطاع الدباغة وهي الحرفة التي مارسها لثلاثة عقود بعد أن ورثها عن والده لا يتحمس كثيرا لمشروع ترحيل بعض أنشطة الصناعة التقليدية الملوثة بالمدينة العتيقة إلى خارج الأسوار ونقلها إلى منطقة (عين النقبي) رغم أن هذا المشروع يشكل أحد مكونات مخطط تنمية القطاع الذي يمول من طرف برنامج حساب تحدي الألفية. ويؤكد جازما أن ترحيل أنشطة الصناعة التقليدية من مكان إلى آخر " لن يغير من واقع الأمر شيئا بالنظر إلى الوضعية المزرية للحرفيين الذين ينتظرون مد يد العون لهم لتمكينهم من البقاء ودعم المهن التي يزاولونها ولمساعدتهم على مواجهة ارتفاع أسعار المواد الأولية التي يكتوون بنارها في صمت". وإلى جانب كل هذا يبدي الصناع التقليديون تذمرا كبيرا من المنتوجات الصينية الرخيصة التي غزت الأسواق واكتسحت كل المحلات التجارية التي تؤثث أزقة ودروب المدينة القديمة. وحسب عبد الحليم الفيزازي عضو غرفة الصناعة التقليدية بجهة فاس بولمان فإن المغاربة " أضحوا مفتونين بالسلع الصينية الرخيصة عكس أسلافهم الذين كانوا يقدرون المنتوج المحلي ويفضلونه عن باقي السلع الأجنبية". وبخصوص ترحيل بعض الصناعات التقليدية الملوثة إلى منطقة عين النقبي يقول الفيزازي إنه مع هذا الترحيل " شريطة أن يتم بتنسيق مع الحرفيين أنفسهم " مشيرا إلى أننا كمهنيين " نؤكد خلال كل اللقاءات والاجتماعات التي نعقدها مع المسؤولين حول هذا الموضوع على عنصرين أساسيين يتمثلان في توفير وسائل النقل وتوفير الأمن بمنطقة الترحيل وهو ما لم يتحقق لحد الآن " . ولا يزال مشروع ترحيل بعض الأنشطة الملوثة في قطاع الصناعة التقليدية من داخل المدينة العتيقة إلى خارج الأسوار باتجاه منطقة ( عين النقبي ) خاصة ورشات صناعة النحاس المتواجدة بساحة ( للا يدونة ) يراوح مكانه بسبب مقاومة وتعنت الحرفيين رغم أنه يعد أحد أهم المشاريع التي تروم هيكلة قطاع الصناعة التقليدية بفاس. فهذا المشروع الذي يندرج في إطار برنامج ( الصناعة التقليدية والمدينة العتيقة بفاس ) الذي يتم تمويله بواسطة برنامج حساب تحدي الألفية بمبلغ مالي يقدر ب 8 ر 57 مليون دولار يهدف بالأساس إلى تنمية وتطوير قطاعات السياحة والصناعة التقليدية من خلال تثمين الموروث التاريخي والثقافي والمعماري الذي تزخر به العاصمة العلمية للمملكة. وتحتل قطاعات الدباغة والفخار والزليج مكانة مهمة ضمن هذا المخطط من خلال مشاريع موجهة للحرفيين تستهدف تمكينهم من فضاءات عصرية ملائمة للاشتغال والإبداع تساهم من جهة في الرفع من مداخيل المهنيين وتحسين جودة المنتوج ومن جهة ثانية في حماية البيئة وإحداث فرص جديدة للاستثمار والتشغيل. ومن شأن هذه المشاريع أن تساهم في إحداث حوالي 5000 منصب شغل جديد في أفق السنة الجارية ( 2013 ) في قطاع الصناعة التقليدية الفنية ذات الحمولة الثقافية. لكن بعض الصناع التقليديين بالمنطقة لا يبدون تفاؤلهم اتجاه هذه الأرقام كمحمد الوزاني الذي عاش طوال عمره بالمدينة القديمة حيث كان يمتهن في البداية صناعة ( البلغة ) قبل أن يتحول إلى حرفة الدباغة والذي يقول " إنه خبر جيدا دواليب القطاع ويعرف خباياه". فالوزاني كحرفي غير مقتنع تماما بأهمية هذه المشاريع وانعكاساتها الإيجابية على حياة الحرفيين لأنها برأيه " مجرد وعود ونوايا حسنة لن تغير من واقع القطاع " ويؤكد " إن أي مشروع لا يهتم بالحياة اليومية للصانع التقليدي مآله الفشل". لقد ظل قطاع الصناعة التقليدية على مر العصور أحد المكونات الأساسية التي طبعت تاريخ مدينة فاس حيث ساهمت الحرف التقليدية بحمولاتها التاريخية والثقافية في تكريس الإشعاع الحضاري لهذه المدينة التي تم تصنيفها من طرف منظمة (اليونسكو) ضمن التراث العالمي الإنساني كاعتراف من المنتظم الدولي بثراء وغنى وقيمة صناعتها التقليدية التي تنعكس بوضوح في مساجدها ومآذنها ودورها القديمة ومعمار مآثرها وفنادقها ومدارسها التاريخية . وللمحافظة على كل هذا الموروث الحضاري والثقافي الذي يشكل مكونا أساسيا ضمن هوية مدينة فاس أعدت السلطات بتعاون وتنسيق مع المهنيين مخططا للتنمية الجهوية يتضمن إنجاز 37 مشروعا تستهدف دعم منتوج الصناعة التقليدية وتطوير أساليب تسويقه مع دعم وتأهيل المقاولات الصغرى والمتوسطة وكذا مختلف الأنشطة المرتبطة بالتكوين. وفي انتظار تحقيق هذه المشاريع على أرض الواقع يظل لسان حال الحرفيين يردد بدون كلل طلباتهم الموجهة للسلطات من أجل دعم القطاع ومساعدتهم على تسويق منتوجهم ومواجهة الارتفاع الذي تعرفه أسعار المواد الأولية.