سبق أن مررنا في مقالات سابقة مر كرام على موضوع التواصل في خضم الثورات المستعر أوارها في أغلب الدول العربية، إلى أن أحد المعضلات الكبرى التي أبانت الثورات أنها أحد مقاتل هذه الأنظمة تتمثل في التخلف الشديد في سياستها الإعلامية وطرق مخاطبتها للجماهير. ثورة علم التواصل لا يخفى على أحد، خصوصا في العصر الحالي، أن الإنسان كائن اجتماعي"، وهذا يستلزم كونه بالضرورة كائنا تواصليا. وبالتالي، كان من الطبيعي أن تجد علوم الاتصال أو التواصل امتدادا طبيعيا للعلوم الاجتماعية والنفسية وتبتعد عن النزعة الرياضية أو التجريبية التي طغت عليها منذ نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور ما سمي باللسانيات الحديثة. وهذه العلوم التي تدرس كيفية ومنهجية تبليغ رسالة معينة عن طريق مجموعة من الرموز الدالة، لغوية أو غير لغوية، وكذا دراسة مختلف النماذج الذهنية لتلقي هذه الرسائل والسياق الذي تتم فيه. ومع تشعب واتساع طرق الاتصال وظهور وسائط جديدة، تطورت الدراسات في اتجاه التخصص لتظهر علوم مستقلة لدراسة التواصل المرئي أو المكتوب أو عبر الشبكات الإلكترونية، إلخ. ودون التشعب أكثر في علوم الاتصال، فبيت القصيد عندنا هو علم الاتصال المطبق على السياسة، ويمكن القول أن السياسة أصبحت اليوم أكثر من أي وقت مضى، مع الثورة التي تشهدها تكنولوجيا الاتصال في السنوات الأخيرة مسألة تواصلية، وأصبحت وسائل الإعلام تلعب دورا حاسما في تصريف الخطاب السياسي، وغدت صورة السياسي في وسائل الإعلام، وبالأخص في الدول الديمقراطية التي تحسب حسابا للرأي العام، تهمه ربما أكثر من مسائل إدارة البلاد البحتة. سقوط "جدار برلين" الإعلامي وبالتركيز على العالم العربي، فقد أثبتت الثورات بما لا يدع مجالا للشك أن الأنظمة العربية تشكو تخلفا سياسيا بالمقارنة مع زيادة وعي المجتمعات، خصوصا الفئات الشابة وعدم قبولها قواعد اللعبة المفروضة من قبل هذه الأنظمة، من استبداد للفرد والأسرة الحاكمة، وتحالف البزنس مع الأمن، على حد تعبير عبد الحليم قنديل. لكنها أثبتت أيضا أن النظام السياسي ليس فقط من يعيش تخلفا وترهلا في هياكله وأساليبه، بل أيضا في طرق التواصل التي يعتمدها. وعليه، فبعد سقوط جدار برلين "السياسي"، حُرمت هذه الأنظمة من هامش المناورة الواسع الذي كانت تمنحه الولاءات لأحد العملاقين من تغطية وكبح لأي إجراءات دولية باسم الوضع الإنساني أو السياسي الإقليمي أو غيرها. إلا أن سقوط الجدار "الإعلامي" تم ببطء أكبر، وتمثل في انتشار وسائل الاتصال الحديثة الذي حرمها من "الامتياز" الذي كانت تحظى به في عزل المناطق والإغلاق التام لمصادر الخبر، عدا وسائل الإعلام الرسمية بطبيعة الحال. إن هذه الوسائل، بمضامين جديدة تتعدى القطرية وتسهم في إحداث شعور بانتماءات أوسع مجالا ساهمت بشكل حاسم في خلق وعي جديد واكب تغيرات اجتماعية واقتصادية جذرية في المجتمعات العربية. وفي هذا السياق، يجدر أن نذكر حالة قناة الجزيرة، التي جاوزت النصف الأول من العقد الثاني وماتزال ظاهرة إعلامية بكل المقاييس، وهزت الكثير من المسلمات السياسية والإعلامية في الشرق كما في الغرب، وما اعتراف هيلاري كلينتون نفسها بتفوق الجزيرة في مواكبة الثورات العربية إلا دليل على مدى تفردها، على الرغم من بعض الهنات والانتقادات التي توجه إليها والتي ندخل جلها في باب الحق الذي يراد به باطل. غير أن المحصلة هي أن هذه القناة تمسك بزمام المبادرة وتسير قريبا من نبض الشارع العربي. لقد قلبت هذه القناة وباقي وسائل الاتصال مثل الإنترنت والهواتف المحمولة الطاولة على الخطاب الإعلامي الأمني، هذا الإعلام الأحادي الاتجاه، الوردي النظرة إلى الحراك الاجتماعي، الاحتفالي بحركات وسكنات السلطة ورموزها، المبرر والمزور والصامت على كل ما لا يخدم رؤيته. وأبلغ دليل على ذلك التلفزيون المصري الذي أصر طيلة أيام على إدارة ظهره للمظاهرات التي كانت تصرخ على بعد أمتار في ميدان التحرير، ونرى العجب يوميا في التلفزيون الليبي من سحرة ومفتيات ورجال مسلحين على الهواء مباشرة.... وهذا ما يفسر إلى حد كبير الهجوم المتصاعد ضد القناة كلما زادت "الحرارة" كما كان يحلو لإدريس البصري أن يسميها، بمختلف أنواع التضييق والتجريح، وهو دليل واضح على فشل الإعلام "الرسمي" المسير مباشرة من قبل الأجهزة الأمنية وعجزها الفاضح عن الإقناع. وتذكرني هذه الحالة بزميل عزيز كان يقول دوما أن اللاعبين في كرة القدم لما يهرمون ويدب العجز في أوصالهم، تجدهم أكثر الناس في "الكعيان" كما نسميه بالدارجة، وفي الاحتجاج على الحكم والشكوى من أرضية الملعب والجمهور والحذاء الرياضي.... إن عجز هذه الأجهزة الإعلامية-الأمنية يمثل أحد نقاط ضعفها الأساسية، وربما تكون هذه الأجهزة، وليس المنابر، والنظرة الأمنية الاستغبائية التي تسندها من أول ضحايا الثورات المستعرة في العالم العربي. إن المطلوب الآن هو الاتجاه صوب إعلام عمومي، يكون المعبر عن الهموم والتطلعات والإنجازات للمجتمع بمختلف مكوناته ومشاربه، بدل الإعلام الرسمي والحزبي والنقابي، التي تعد من مخلفات الأنظمة الشمولية التي لا تعمل إلا بموجب القانون الفرعوني "لا أريكم إلا ما أرى".