أقل من اثني عشرة ساعة على خطاب الملك محمد السادس والذي أعلن فيه عن اتخاذ خطوة غير مسبوقة في تاريخ الدولة المغربية الحديث، لإدخال تعديلات جوهرية على الدستور الحالي للمملكة كأساس لبناء صرح دولة ديمقراطية حقيقية وحديثة تضمن لكل مواطنيها العيش الكريم في ظل عدالة ومساواة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، جاء رد جماعة العدل والإحسان رافضا لهذه الإصلاحات جملة وتفصيلا ومطالبا بإحداث "هيئة تأسيسية شعبية". في رأينا المتواضع، موقف جماعة الشيخ عبد السلام ياسين والشروط التي وضعها والتي تحاكي في جوهرها ومقاصدها مرتكزات خارطة الطريق التي وضعها العاهل المغربي في خطابه ليوم أمس الأربعاء جاء جد متسرع ويحمل في طياته "نبرة إقصائية" تلغي الإرادة الشعبية وآراء باقي مكونات الشعب المغربي، بمن فيهم أعضاء العدل والإحسان والمتعاطفين معهم وتضرب عرض الحائط سنة التدرج الإلهية. أول من تقصي الجماعة بهذا الموقف المتسرع هو نفسها حيث أنها تتموقع خارج منظومة "الهيئات الحزبية والنقابية، والمنظمات الشبابية، والفاعلين الجمعويين، والفعاليات الثقافية والفكرية والعلمية" التي من المنتظر أن تنخرط في هذا المسلسل الذي نتمنى صادقين أن يقطع مع ممارسات العهد السابق ويفضي إلى بناء دولة مدنية حديثة وفضاء ديمقراطي رحب يتسع لكل الإيديولوجيات والمشارب السياسية والثقافية ويضمن للجميع حرية التعبير عن أرائهم ومواقفهم مهما كانت شاذة ولكن في إطار احترام تام لدستور يتفق الجميع على بنوده ومقتضياته. لماذا لا ينزل الشيخ عبد السلام ياسين من برجه العاجي ويتنازل هو أيضا عن شيء من كبريائه ويسقي الشعب من فيض كأس "بركته"، فالكبرياء لله عز وجل جلاله. فلا أظن أن مرشد جماعة العدل والإحسان ولا مجلس إرشاده ولا دائرته السياسة ولا شبيبته ومنظمته النسائية ولا مريدوه داخل الوطن وخارجه يتمنون للمغرب أن يتيه في غياهب الفتنة التي سقطت فيها بعض البلاد العربية، وما ليبيا عنا ببعيدة. فخطاب العاهل المغربي ليوم أمس أكد على "مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها"، من خلال برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية، وحكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب، وتكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، وكذا تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي. لكن الناطق الرسمي باسم جماعة العدل والإحسان، فتح الله أرسلان، رأى أن تعديل الدستور سيكون "بنفس الأسلوب المطابق كليا للدساتير السابقة أي دستور ممنوح بقرار فردي بدءا من تعيين اللجنة وتحديد شروطها ومعاييرها وقيودها ورسم دائرة تحركها وسقفها الزمني والحسم في نتائجها. وبهذا تفتقد إلى أبسط متطلبات الدستور الديمقراطي وهي أن تكون اللجنة شعبية المنشأ، وحرة في التحرك والاجتهاد من غير خطوط ولا قيود، ومستقلة في القرار، ثم الرجوع إلى الشعب للحسم بعدما يكون المجال مفتوحا لكل المكونات والآراء لتتحدث إليه بحرية". لا أحد يمنع جماعة الشيخ ياسين من تقديم اقتراحاتها وتصوراتها لتعديل الدستور وأن تطرح كل المسائل التي تراها أساسية وضرورية من أجل بناء الدولة المدنية الحديثة التي يتوق لها كل أبناء الشعب المغربي. بإمكانها أن تطرح حتى "مسألة القداسة" التي تعتبرها "مشكلا حقيقيا دينا وقانونا وعقلا" بإمكانها أن تطالب برفض وإلغاء ما أسمته "سيادة عقلية الوصاية على الشعب والاستمرار في سلب إرادته" ولن يضير أحدا أن تعلن أمام الشعب أنها تريد تطرح على طاولة التعديل الدستوري "صلاحيات الملك والتصرفات السياسية والاقتصادية للمؤسسة الملكية ومحيطها" وكذا صلاحيات "المخزن الاقتصادي ونهب الثروة الوطنية". بعد تقديم اقتراحاتها وتصوراتها، على الجماعة أن تعي أن التعديلات الدستورية والدستور الشعبي والديمقراطي الذي تطالب به الجماعة سينبثق عن توافق كل مكونات المجتمع السياسي والمدني والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والثقافيين، ثم يطرح لاستفتاء شعبي ليبث فيه 35 مليون مغربي وليس جماعة أو حزب أو جهة واحدة. ربما كان البعض سيطالب القصر باتخاذ خطوات وإجراءات لبناء الثقة مع جماعة العدل والإحسان لو أن هذه الأخيرة أبدت شيئا من المرونة ولا نقول التخلي عن مطالبها التي ندرجها في إطار حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير عن الرأي الذي تكفله كل الدساتير الديمقراطية ولكن يبدو أن الجماعة مصممة على تفويت الفرصة على نفسها للإسهام في وضع حد لحالة الاحتقان السياسي الذي يعيشه المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر على تقوقع الجماعة وبقاءها خارج منظومة التغيير السلمي.