في إطار الأيام الدراسية التي نظمها المشروع الأكاديمي "العدالة بين الثقافات" الأسبوع الفارط في العاصمة الإسبانية مدريد، تم التطرق إلى موضوع عودة الدين إلى المجال العام في أوروبا وهو موضوع حظي باهتمام كبير من طرف الباحثين الذين شاركوا في هذا الملقى على خلفية العودة القوية للدين في الحراك السياسي الذي تشهده أوروبا في السنوات الأخيرة. و من بين أبرز المحاضرات المبرمجة، تلك التي ألقاها الأستاذ أنخل رفيرو رودريغث أستاذ علم السياسة والفلسفة السياسية بالجامعة المستقلة بمدريد ورئيس شعبتها السابق للعلوم السياسية، تحت بعنوان "عودة الدين إلى المجال العام في أوروبا"، والتي تناول فيها الأسباب العميقة للقلق الأوروبي بصدد حضور الهجرة المسلمة وقدم في نهايتها مايراه حلا للنزاع. وقد شرع المحاضرتدخله بتناول الحيرة الغربية إزاء عودة الديني، وأكد بأن هذا القلق يرجع إلى إدراك التاريخ بشكل أحادي الإتجاه ينطلق من مجتمعات تقليدية ويسير نحو مجتمعات حداثية يتراجع فيها دور الدين المرتبط في هذا الوعي بالمعرفة المغلوطة، بالدكتاتورية السياسية وبالسيطرة الإجتماعية الممارسة عبر التلقين الديني، وأيضا وهو الأهم مرتبط بالصراعات والنزاعات الاجتماعية والدينية. وبالتالي فإن الحداثة ستدفع بالدين إلى الاندثار ليحل محله العلم والعقل والحضارة. الحيرة والقلق الحالي للأوروبيين يعود إلى أنهم كانوا يعتبرون تراجع الدين أمرا حتميا فإذا هم يفاجؤون بعودته. ولتبرير زيف الوعي السابق فعادة ما يلجأ إلى تزييف آخر وهو الدفع بالمسؤولية إلى خارج الحدود الأوروبية والغربية، فعودة النزاع الديني وحدها مسؤولة عنه التطلعات الإسلامية والأنشطة الإرهابية المرتبطة بالإسلام وتهديدات الأنظمة التيوقراطية كإيران، وإخيرا حضور الهجرة المسلمة في أوروبا بشكل مهدد. قبل أن ينتقل الأستاذ أنخل إلى صلب طرحه، أشار إلى أن هذا الإلقاء الخارجي للمسؤولية من قبل صانعي الفكر الأوروبي ليس صحيحا، فهذه المظاهر الثلاث للتهديد الإسلامي ليست إلا انعكاسا لفشل مشروع التصدير الحضاري-الحداثي-العلماني الذي حاوله الغرب لقرون في عالم الإسلام، ومحاولة الإختراق الفاشلة هذه هي التي أدت إلى عودة الدين بالشكل الذي هو عليه الآن. لكن الأساسي في طرح أنخل رفيرو رودريغث هو أن خطاب الغرب نفسه حول الحضارة و الحداثة والتقدم هو بكل بساطة وجه معلمن للتطلعات "المسيحانية" التبشيرية للدين المسيحي. وهنا يستشهد بهاري غراي الذي يؤكد أن "السياسة الحديثة [في الغرب] ليست إلا فصلا جديد في تاريخ الدين، والثورات في القرنين الأخيرين ليست إلا حلقات في تاريخ الإيمان، و لحظات لتحلل الدين المسيحي وولادة دين الحداثة السياسية، يحمل هوالآخر رسالة خلاص". لكن الخلاص هنا هو خلاص أرضي يبشر بالجنة في الحياة الدنيا. والدين الحضاري و الحداثي في حمله لرسالته "المسيحانية" لا يقل دموية عن الدين المسيحي في تاريخه، وآخر الغزوات الصليبية لدين الحداثة هي التي شنها بوش على العراق. فالأمريكان هم حاملو الرسالة النبوية للمسيحية المعلمنة، يرفعون شعار تحرير الإنسانية الذي هو قدر الولاياتالمتحدة كشعب مختار. وهكذا فالسوق والحرية ينبغي أن تفرض على الآخرين بالحديد والنار، دونما اعتبار لأرواح الأبرياء أو للمعانات الإنسانية. وغرض أنخل من هذا العرض لأفكار غراي هو التأكيد على أن القلق الغربي الحالي من الحضور الإسلامي يجد جذوره في العمق الديني المسيحي للمجتمعات الغربية. فالأمر يتعلق بقلق دين إزاء دين آخر ورغبة دين مهيمن في تهميش حضور دين آخر. وهنا يستحضر الأستاذ أنخل أفكار فلاسفة السياسة من مثل كنور كرويز أوبريان الذي يرى أن الدولة القومية الحديثة هي نوع من الطوائف المسيحية غلفت أصولها الدينية، وعموما فالدول القومية الغربية تتماهي مع ثلاث نماذج دينية محددة: - نموذج "شعب الله المختار" كما في بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية. - نموذج "تقديس الدولة الأمة" كما في الجمهورية الفرنسية. – نموذج "تأليه الأمة" كما في ألمانيا النازية. وحسب أنطوني ماركس فإن "الأمم المدنية الأوروبية تحمل وراءها تاريخا كبيرا للإبادة والتصفية العرقية وعدم التسامح الديني أي هي طوائف مسيحية غلفت مسحتها الدينية". فحسب هؤلاء المفكرين فإن الدول الغربية تشكلت وفق قوالب دينية إقصائية لا تزال فاعلة تحت قشرة الهوية القومية. وحسب أنخل ما فعله حضور الإسلام في الدول الغربية هو أنه فضح العمق الديني ألإقصائي ليس للمجتمعات الأوروبية فحسب وإنما أيضا لخطابها الكوني حول الحداثة و العلمانية. وأظهر زيف الفصل بين الدين والدولة، وهو الفصل الذي لم يكن كاملا أبدا كما يظهر حضور الرموز الدينية في المجال السياسي وفي المجال العام في أغلب الدول الأوروبية، فعلى سبيل المثال كثير من الرايات رقمت عليها الصلبان، وملكة بريطانيا هي رأس الكنيسة الأنجليكانية، وحتى في فرنسا تحتفظ قوات البحرية برموز دينية، وليس بعيدا، فقد أعلنت حكومة كطالونيا رنين الأجراس بالكنائس تراثا وطنيا لكطلونيا، وهو ما يظهر حسب أنخل أن الفصل الكامل للسياسي عن الديني أمر يستحيل عمليا. واعتبر المحاضر أن الغريب ليس هو مناداة مجموعات إثنية ودينية بالتصرف بشكل تلقائي و عادي في إطار هويتها الخاصة، كما يريد المسلمون، بل الغريب هو الحيرة والعداوة غير المبررة التي يعكسها الأوروبيون اتجاه هذا المطلب الطبيعي. ويؤكد أنخل أن الحل لا يكمن في فكرة التسامح، التي ولدت في إطار مشاريع تسعى إلى السيطرة، والتي تؤكد هيمنة طرف قوي متسامح مع طرف مهمش متسامح معه في انتظار أن يحصل التغلب للدين الحضاري المتفوق على الاتجاهات اللاعقلانية. بل الحل يكمن في الاعتراف بالآخر وفسح مجال للأديان في الحياة العامة ومحاولة إيجاد حلول تكييفية عقلانية عند تناقض المبادئ، وهذا غير ممكن إلا إذا تحولت السياسة إلى أداة لتدبير المشاكل وليس أداة في خدمة دين خاص.