نعيش، فعلا، وضعية بالغة الدقة ومحفوفة بالمخاطر، تفرض علينا التسلح بالوضوح والتواضع. فبقدر ما كان الحجر الصحي، رغم تكلفته العالية بكل تأكيد، سَهْلَ التطبيق، بقدر ما يطرح الخروج منه في المرحلة الحالية، مع الإبقاء على حالة الطوارئ الصحية، إشكاليات معقدة، بل ومتناقضة، إذ يتعلق الأمر بالعودة إلى الحياة الطبيعية،لكن مع التحكم في انتشار الفيروس المُميت. نعم، كل البلدان تعيش نفس هذه المفارقة، حيث خيارُ العودة إلى فرض الحجر الصحي الشامل، كما عشناه لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، غير وارد. وليس هناك بلد واحد، على حد علمنا، يفكر عمليا في هذا الاتجاه، خصوصا بعدما تمكنا من معرفةٍ جيدة بقنوات وطرائق انتقال هذا الفيروس، وبالوسائل والقواعد الكفيلة بالحد من انتشاره. ولهذا السبب أصبح دور كل واحد منا في مقاومة هذه الجائحةدورا أساسيا، وذلك في انتظار تطوير اللقاح الذي يمكن أن يظهر خلال سنة 2021. في هذا السياق، بالضبط، يأتي الدخول المدرسي الذي لن يكون، بكل تأكيد، مهمة بسيطة، إذ حتى في الفترات العادية، يشكل هذا الدخول هاجسا كبيرا، سواء بالنسبة للأسر أو بالنسبة للإدارة، حيث يتطلب كثيرا من التنظيم والإمكانيات والمثابرة. أما ونحن في هذه الظروف الراهنة، فلا تظهر أمامنا حلولٌ جاهزة، وليس هناك حل مثالي. وكيفما كان الاختيار، نجد أنفسنا أمام صعوبات حقيقية ونقط سلبية عديدة. وما علينا إلا أن نصنف الخيارات المُتاحة حسب معايير محددة، لكي نخلص إلى أن نختار الحل، ليس الأفضل، بل "الأقل سوءاً". فهناك البعض، وهم أقلية، يدافعون، من خلال الشبكات الاجتماعية، على تبني سنة بيضاء. وهو "رأي" ينطوي على انعدام المسؤولية وقلة النضج، حيث لا يستوعب حاملوه حجم الخسائر والمآسي والآلام التي من شأن هذا الاختيار أن يتسبب فيها، ليس فقط بالنسبة للتلاميذ وأسرهم، ولكن أيضا بالنسبة للمجتمع وللدولة ككل. إن ضمان تمدرس جميع التلاميذ في ظروف مواتية هو واجبٌ وطني وحق دستوري لا يمكن قَبول أي تردد في شأنه. ونحن أمام خيارين: إما العودة إلى التعلم الحضوري مع تجاهل محاذير الجائحة، وإما مواصلة تجربة التعليم/التعلم عن بُعد، كما تم تطبيقه بعيوبه ونقائصه خلال مرحلة الحجر الصحي. كِلَا الخيارين يحملان مخاطر جدية، حيث تميل الكفة، في الحالتين معاً، للجوانب السلبية على حساب الإيجابيات. فالتعليم الحضوري من شأنه أن يُفاقم الوضع الوبائي الذي بلغ، أصلا، مستوياتٍ مخيفةً. ومن ثمة، فتبني هذا الخيار يندرج في باب المغامرة التي من المرجح أن تؤدي إلى ظهور "بؤر تربوية" يصعب جدا التعامل مع تداعياتها، كَمَا من شأن هذا السيناريو أن يُحَوِّلَ مؤسساتنا التعليمية إلى "معامل لصناعة الموت". أما الخيار الثاني، فمن جهته أيضا، هو خيارٌ تنقصه النجاعة،ولا يوفر تساوي الفرص في التحصيل الدراسي، لكونه خيارا تمييزياً على المستويين الاجتماعي والمجالي. وإذا كانت سلبيات هذا الخيار قائمةً حتى في البلدان المتطورة التي تعرف نوعا من الدمقرطة الرقمية، فماذا عسى أن نقول عن بلد مثل بلدنا الذي لا يزال يعاني، ليس فقط من "القِفار الرقمية"، ولكن أيضا من معدلات مرتفعة للأمية والجهل؟! وتنضاف إلى هذه الحدود الموضوعية المرتبطة بالحق في الولوج، حدودٌ أخرى تتعلق بالمناهج البيداغوجيةوالديداكتيكيةالجديدة التي تقتضيها العملية التعليمية/التعلمية عن بُعد. وهي المناهج التي تتسم، إلى حد الآن، بعدم التمكن منها، وبالأحرى التحكم فيها. وللتذكير فإن كثيرا من المناهج البيداغوجية المستعملة في التعليم الحضوري، رغم بعض الرتوشات التي أُدخلت عليها تواليا، تعود إلى قرونٍ خلت. وهو ما يبين صعوبة وتعقد هذا الأمر، حيث المناهج التربوية هي بمثابة عِلمٍ وفن يُلقنُ ويُكتسب ويُصقل عبر مسار زمني يمتد على عقود طويلة. تأسيسا على كل ذلك، يبدو لنا أن السبيل الوحيد يمر عبر المزج الخلاق بين التعليم الحُضوري والتعليم عن بُعد. ولذلك ينبغي إعطاء استقلالية أوسع للمؤسسات اللامركزية، من قبيل الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، مع إشراك نساء ورجال التعليم والمتمدرسين والأسر في تدبير المسألة وتحمل المسؤولية، من خلال الحوار الدائم مع المنظمات النقابية وجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ. كما علينا تفادي اتخاذ قرارات متسرعة من شأنها أن تُثير الانتقادات الواسعة وتزرع الشك في صفوف الأسر المغربية، وهو ما حدث تماما بعد صدور البلاغ الشهير لوزارة التعليم في ساعة متأخرة من الليل، وفي عطلة نهاية الأسبوع. وهو البلاغ الذي تمت صياغته بشكل رديء ومرتبك. ومن حسن الحظ أنْ تَمَكَّنَ الوزير المعني من تصحيح الوضع نسبيا بعدما قام بمحاولة وضع البلاغ المذكور في قالبٍ جديد، وهو ما ساهم، ولو نسبيا، في تهدئة الرأي العام، دون بلوغ درجة الطمأنة. ومن أجل الطمأنة، يتعين القيام بما هو أكثر، وبكل الوضوح اللازم. فالحكومة، المسؤولة عن الأمر أولا وأخيرا، مُطالَبَةٌ بالعمل بكل الجدية التي يفرضها الوضع، وبدون انقطاع، مع كل المتدخلين والمعنيين، لأجل ضمان دخول مدرسي، ليس في ظروف جيدة، ولكن على الأقل في ظروف مناسِبة. ينبغي أن نضع حدا للاختباء وراء "مبرر" شح الإمكانيات، والعمل، بالمقابل، على توفير الوسائل الواجب توفيرها، علما أن الاستثمار في التعليم هو أفضل وسيلة لضمان الإنعاش الاقتصادي. فجميع الأسر تقدم، فرديا، تضحيات جسام من اجل تأمين تمدرس أبنائها. كما أن الجماعة، في شخص الدولة، تُضحي بدورها، ولكن عليها اليوم، في ظرف الأزمة، أن تقدم أكثر. فكم يكلفنا توفير اللوحات الرقمية والهواتف الذكية بالنسبة للتلاميذ المنتمين للأسر المعوزة؟ وكم تكلفنا تغطية مجموع التراب الوطني بشبكة الأنترنيت وبصبيبٍ مرتفع؟ وكم يكلفنا اللجوء إلى طاقات الشباب الحاملين للشواهد العليا للتعاقد معهم لمدة معينة من أجل المساهمة في تأطير التلاميذ في وضعية صعبة وتدريبهم على استعمال التكنولوجيا الحديثة للتعلم؟ فوزيرنا في المالية ما فتئ يحدثنا عن "التمويلات المبتكرة". فما هو المجال الأجدر أكثر من التعليم بمثل هذه الأدوات التمويلية؟! خلاصة القول: إن أخطر ما يمكن أن يحدث لنا هو أن نضحي بمستقبل أطفالنا تحت تأثير التقشف المُبالَغِ فيه، أما ما دون ذلك، فكل شيء قابل للنقاش والحوار.