منذ أواخر السنة الماضية ، ثم بشكل أكثر حدة مطلع السنة الحالية اجتاح تسونامي وباء كورونا المستجد مختلف مناطق العالم مخلفا وراءه أضرارا شملت جميع الميادين وخاصة الاقتصادية والاجتماعية ، الأمر الذي أرغم جميع الدول المتضررة على التكيف مع هذه الوضعية الجديدة واتخاد اجراءات وتدابير بهدف الحد من أخطار هذا الوباء . هكذا وفي إطار هذه الظروف الاستثنائية وعلى مستوى قطاع التعليم بكل مستوياته و أنواعه وحتى لا تنقطع صلة التلاميذ والطلبة بمعين العلم والتعلم منذ إعلان السلطات العمومية للحجر الصحي وإغلاق كل المؤسسات التعليمية سواء المدرسية أو الجامعية أو المهنية ، فقد أصبح التعليم الرقمي أو التعليم عن بعد هو البديل وحل محل التعليم الحضوري . وهنا لابد من الإشادة وتقدير وتثمين جميع المجهودات التي تبدلها السلطات وجميع المتدخلين من أجل السهر على حماية المواطنين والمواطنات من تداعيات هذه الجائحة وينبغي على الجميع الوعي بأهمية الاجراءات والتدابير التي فرضتها السلطات من أجل التصدي لهذا الوباء والحد من أخطاره .. إذن إذا كان فيروس “كوفيد 19” قد استدعى توقيف العديد من المؤسسات الانتاجية الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية في إطار الاجراءات الاستباقية التي اتخذتها معظم دول العالم بما فيها بلادنا حرصا على صحة المواطنين وتفاديا لانتشار هذا الوباء المستجد ، فإننا سنحاول في هذا المقال التركيز على ميدان التعليم والمساهمة في ابراز مدى استفادة المتعلمين من التعلم والتكوين عن بعد في ظل هذه الظروف الاستثنائية . بطبيعة الحال ليس من السهل في البداية تقبل الوضعية الجديدة من خلال التزام مقرات السكن وعدم الذهاب للمؤسسات التعليمية ، فالتلميذ (ة) الذي كان يوميا يقصد مؤسسته التعليمية وفي أحضانها يعيش حياة وأجواء تساعده على التعلم والتمكن من مكتسبات وقيم وسلوكات تعينه على بناء شخصيته وسط الفضاءات المدرسية المفعمة بالحيوية والتي يحاول كل فرد داخلها إثبات ذاته وحضوره ، وانطلاقا منها يكتسب روح المواطنة والمشاركة في تحمل المسؤولية والانخراط بجدية في كل ما تقدمه المؤسسة التعليمية من خدمات تعليمية وتثقيفية وتنشيطية . فالتلميذ (ة) لا يحضر للمؤسسة فقط من أجل تحصيل العلوم والمعارف ولكنه يدخل في علاقات اجتماعية يومية مع زملائه التلاميذ مما يجعله يطور من مهاراته وقدراته ويتدرب على التأقلم مع كل الظروف ،بل إن بعض المؤسسات التعليمية والمهنية تتوفر على داخليات يقيم بها التلاميذ ويجتازون بها أغلب أيام السنة الدراسية حيث هي المأوى ومكان التعلم والترفيه وممارسة الانشطة اليومية ولا يلتقي هؤلاء بعائلاتهم إلا خلال العطل أو في بعض الأعياد … لكن فجأة وجد هذا التلميذ (ة) نفسه محاصرا في بيته ،يعيش جوا من الملل ونفسيته مهزوزة وممنوع عليه الخروج واضطربت حياته بشكل كامل وأصبح ملزما بمتابعة التعليم عن بعد من دون استعداد أو تعود على ذلك ومن دون تمهيد أو تلقي تكوينات في هذا الباب ، بل ربما مع قلة ذات اليد عند بعض التلاميذ و أهاليهم ،مما يصعب عليهم متابعة الدروس المباشرة عن بعد نظرا لعدم التوفر على أجهزة الحواسيب أو الهواتف الذكية أو اللوحات الالكترونية وكذلك صعوبة الاستفادة من خدمات الأنترنيت لعدة أسباب ،وهذا ما سيؤدي إلى أزمات وصدمات نفسية لدى العديد من تلاميذنا وسيصعب مواصلتهم للتعلم ويجعل شريحة كبيرة منهم عرضة لهدر مدرسي لا إرادي .. لقد أفرز لنا التعليم عن بعد نوعا من عدم تكافؤ الفرص واتساع الفوارق بين التلاميذ سواء بين المجالين الحضري والقروي أو داخل كل مجال على حدى ،فالعديد من المناطق التي تعاني من الهشاشة الاجتماعية يجد بها التلاميذ صعوبة في الربط مع شبكة الأنترنيت والكثير منهم لا يتوفر على الوسائل الالكترونية اللازمة لكي يمر هذا التعليم في أحسن الظروف وأحيانا بعض هذه الوسائط و الوسائل الالكترونية تكون مشتركة من طرف تلميذين أو أكثرمن نفس العائلة ،مما يجعل أحدهما يضحي بحصة درسه إذا تزامنت مع درس أحد إخوانه… كذلك من الوسائل التي تم اعتمادها لمواصلة السنة الدراسية نجد الدروس المسجلة في منصات وزارة التربية الوطنية والموضوعة رهن إشارة المتعلمين وبطبيعة الحال فهي بدورها تستوجب على المتعلم التوفر على وسائط إلكترونية والربط مع شبكة الانترنت وهنا تطرح أيضا إمكانيات وقدرات الأسر على توفير ذلك لأبنائهم ،إذ أن عددا كبيرا من أولياء أمور التلاميذ فقدوا الشغل ومصدر أرزاقهم خلال هذه المحنة التي تمر منها بلادنا ويجب تفهم الأوضاع الاجتماعية والنفسية التي أصبحت تعيش في ظلها العديد من الأسر المغربية وما لذلك من انعكاسات سلبية على التلاميذ ومكتسباتهم . من الحلول الأخرى التي تم اعتمادها لمواصلة العملية التعلمية نجد الدروس المصورة التي تقدم على شاشة التلفزيون والتي تعتبر مفيدة ومهمة ويستفيد منها المتعلمون والمتعلمات ولا يمكن إنكار ذلك، إذ يتم تقديم دروس متنوعة في جميع المواد ولمختلف المستويات من طرف مفتشين وأساتذة يجتهدون قدر المستطاع لتصوير الدروس وشرحها كل في تخصصه حتى يستفيد منها جميع التلاميذ ،فتحية تقدير لكل الساهرين على إعدادها ، وتبقى نقطة قوة هذه الدروس المتلفزة أنها تصل إلى معظم التلاميذ أينما كانوا سواء في المناطق الحضرية أو القروية نظرا لتوفر الأغلبية الساحقة من المغاربة على أجهزة التلفاز ولتغطية البث التلفزي لكل المناطق ، غير أن الاشكال الذي ربما تطرحه هو أنها لا تتيح للتلميذ (ة) التفاعل وإبداء رأيه أوطرح أسئلة قصد توضيح وشرح ما لم يتم فهمه واستيعابه أثناء مشاهدة ومتابعة الدرس التلفزي ولا ننسى أيضا أن جهاز التلفاز ليس ملكا فرديا للتلاميذ وكل فرد من العائلة ينتظر برامجه المفضلة لكي يتابعها ،ولنا أن نتصور إذا تزامنت هذه البرامج مع الدروس المتلفزة في نفس الوقت … من هذه القراءة والمتابعة نخلص أن الأسر الميسورة أو الأفضل حالا من الناحية المادية هي التي يستطيع أبناؤها مسايرة هذا التعليم عن بعد بشكل أفضل نظرا لتوفرها على الوسائل الضرورية لذلك وهنا نخص بالذكر تلاميذ المؤسسات التعليمية الخاصة وشريحة أخرى محظوظة في التعليم العمومي ، وحسب ما نعلم فإن التعليم عن بعد ليس بالأمر الجديد، إذ منذ مدة غير يسيرة و هو حاضر بقوة عند الدول المتقدمة حتى قبل هذا الوباء ويعتبر مكملا ومساعدا للتعليم الحضوري ونعتقد بأنه في حالة امتداد مدة الحجر الصحي في دولة ما لمدة طويلة فإن التعليم عن بعد لن يعود تكميليا فحسب بل إنه سيصبح في الواجهة و ضروريا وإلزاميا باعتباره يشكل البديل ،فنحن نرى ونتابع بشكل يومي أخبار هذا الوباء على الصعيد العالمي نتوصل إلى أن دول العالم لا يمكن وضعها في نفس الكفة ،لأنه إذا كان بعضها يسجل أرقاما كبيرة في الإصابات والوفيات مع تباين في درجة الشفاء فهناك دول أخرى تسير في الطريق الصحيح للتغلب على هذا الوباء ومحاصرته والأسابيع المقبلة ستوضح الرؤيا أكثر ونتمنى أن تسير بلادنا في الطريق الصحيح قصد محاصرة هذا الوباء والقضاء عليه بشكل نهائي وعودة الحياة إلى طبيعتها العادية في جميع الميادين بما فيها ميدان التعليم . فمنذ انطلاق التعليم عن بعد ظهرت محدوديته في تعويض التعليم الحضوري وكذلك عوائقه الكثيرة إذ أن عددا كبيرا من الاسر لا تستطيع توفير ظروفه وبيئته الملائمة لأبنائها في العديد من المناطق الحضرية ذات الهشاشة الاجتماعية وأيضا بالعالم القروي الذي تسود به الهشاشة بشكل أكبر سواء من حيث التوفر على الوسائط الالكترونية أو من حيث التزود بخدمات الانترنت ودرجة جودة هذه الخدمة ، هذا دون إغفال مسألة التكوين والقدرة على استعمال هذه الوسائل سواء من طرف المعلمين أو المتعلمين ، مما يزيد من تعقيد عمليات التواصل الدراسي عن بعد ،إذ كيف سنطالب بالجودة والمردودية الحسنة في أشياء لم يسبق الاستئناس بها أو أخد تكوين حول أبجدياتها ، كذلك وحتى إن توفرت بعض أبسط الظروف لدى بعض الأسر لاستعمال الوسائل الالكترونية كجهاز الحاسوب أو الهاتف الذكي نجد العديد من أولياء الأمور أميين في استعمال هذه التقنيات وأبناؤهم في مستويات التعليم الابتدائي أو الثانوي الاعدادي محتاجون لمن يأخذ بأيديهم أثناء التواصل مع أساتذتهم عبر التطبيقات ومنصات التعليم عن بعد التي يتم تنزيلها بالحواسيب والهواتف الذكية واللوحات الالكترونية ، ذلك أن الآباء والأمهات انضافت الى مهامهم العادية مهمة جديدة خلال فترة الحجر الصحي وهي مساعدة أبنائهم الصغار الذين لا يحسنون التعامل مع الوسائط الالكترونية والالتزام معهم خلال فترة الدرس المقررة وما لذلك من انعكاسات نفسية على أولياء الأمور الذين تنتظرهم التزامات أخرى وبعضهم قلق ومضطرب من الأوضاع المستجدة بسبب فقدان الشغل والتوقف عن العمل…، ولنا أيضا أن نتصور إذا كان هؤلاء الآباء والأمهات أميون بدورهم فمن المؤكد أن أبناءهم قد دخلوا في عطلة مفتوحة منذ 16 مارس . بالإضافة إلى ذلك وبغض النظر عن المستوى المادي للأسر و مدى توفر الامكانيات لمتابعة الدراسة عن بعد ، يجب أن نتساءل حول الفضاء المنزلي الذي يتلقى فيه التلميذ هذا التعليم هل هو ملائم ويساعد على التركيز ؟ هل يتوفر كل تلميذ على غرفة خاصة به تبعد عنه ضجيج وتشويش إخوته أثناء التعلم ؟ هل هناك تحفيزات من الوسط العائلي ؟ هل أهداف التعليم تتحقق ؟ كيف يمكن تقويم مكتسبات التلميذ عن بعد ؟ ماهي وسيلة قياس تركيزه ؟…أسئلة كثيرة وأجوبتها معقدة. لقد أثبتت جائحة كورونا أن التعليم عن بعد لا يمكنه أبدا تعويض التعليم الحضوري وأن الأجهزة الالكترونية مهما تعددت و بمختلف تلاوينها لن تشبع ظمأ التلميذ (ة) المتعطش للمعرفة مثل ما يقوم به المعلم والأستاذ والمدرس داخل الفصل خلال حصة الدرس الحضوري ،على اعتبار أن التلميذ (ة) في هذا الفصل مهيأ نفسيا لمتابعة دروسه وحضر من منزله قاطعا مسافة قد تكون طويلة أو قصيرة حسب موقع المؤسسة وهدفه الرئيسي والأوحد هو التحصيل ، كذلك بحكم التجربة والتمرس الطويل فإن المدرس خلال الدرس الحضوري يستطيع معرفة احتياجات كل تلميذ والعراقيل التي يواجهها في مسيرته التعلمية وبالتالي يعمل على توجيهه للطريق الصحيح وتبسيط معلومات وأنشطة الدروس حتى يتم إدراكها واستيعابها . إننا ونحن نقدم هذه المساهمة نؤمن بأهمية إدراج الوسائط التكنولوجية في حياة المتعلمين والمتعلمات ،غير أنه في ظل المؤشرات المتوفرة حاليا نعتقد أن التعليم عن بعد حاليا في بلادنا قد يكون تكميليا ومساعدا للتعليم الحضوري الذي مازال هو الأساسي وتجب العناية به ،ونتمنى بعد رفع الحجر الصحي أن يتم تدارك وتعويض ما تبقى من المقررات الدراسية ووضع استراتيجيات مستقبلية لتطوير التعليم عن بعد لكي يبقى بجانب التعليم الحضوري ومساعدا له خلال الظروف الصعبة مثل نموذج أزمة كورونا الحالية أو أحيانا خلال بعض الظروف الطبيعية الصعبة التي تؤدي إلى توقف الدروس الحضورية بسبب الفيضانات والعواصف الثلجية …،إذ أنه خلال مثل هذه الظروف يمكن للدراسة أن تستمر عن بعد حتى تزول العوائق التي تسببت فيها وتتم العودة للتعليم الحضوري .. *أستاذ باحث