راكم المخرج مصطفى الدرقاوي، تجربة سينمائية، تستحق المزيد من الالتفات والقراءة والتحليل من طرف النقاد للكشف عن هويتها الفنية و صيغها الجمالية، باعتباره واحدا من بين المخرجين المغاربة الذين ساهموا في التأسيس لسينما مغربية وطنية ورسموا هويتها الفريدة، ويتجلى ذلك من عدد الأفلام التي أشرف على إخراجها، بدءا بالأفلام القصيرة من قبيل ” الجدران الأربعة ” و ” ذات يوم في مكان ما” وأفلام طويلة ك” عنوان مؤقت” و ” أبواب الليل السبعة” وصولا إلى فيلمه الأخير ” كازا داي لايت” الذي دخل بعده المخرج في وضعية توقف اضطراري بسبب ظروفه الصحية التي لا يمكن فصلها عن اشتغاله بالسينما، وقد كانت صدمتي وقوية حين علمت أنه غامر بكل مدخراته المالية ودخل في موجة من القروض، إيمانا منه بضرورة إخراج فيلمه “كازا داي لايت” ولم تنصفه لجنة الدعم ما بعد الإنتاج في المركز السينمائي المغربي وخلق له الأمر أزمة نفسية انتهت بجلطة دماغية أقعدته، وشلت حركته، وحرمت بذلك ساحة الإبداع السينمائي من مساهمات قامة فنية من طراز وطينة نادرين. تستحق تجربة المخرج مصطفى الدرقاوي الفنية والإنسانية والفكرية، أن يتعرف عليها جيل اليوم من المخرجين السينمائيين والمهتمين بالسينما عموما، ومن الأعمال التي برز فيها المخرج مصطفى الدرقاوي، منخرطا مع الموجة الجديدة من الأفلام المغربية مطلع الألفية الثالثة، أي الاقتراب من نبض الشارع وتلبية رغبة الجمهور في أن يرى نفسه وذاته في السينما دون غموض، ودون جهد لفهم مضامين الخطاب السينمائي ما صوره في فيلم ” كازا باي نايت ” 2003 ، هذه التجربة التي تأتي بعد سلسلة من الأعمال بدا فيها حسب النقاد ميالا نحو الغموض، ونوع من التفلسف في تقديم تصوراته عبر الصورة السينمائية، هذا الفيلم هو الذي سنحاول في هذه المقال جرد بعض دلالاته. دلالات العنوان ورمزية الدارالبيضاء حظيت مدينة الدارالبيضاء بحصة وافرة من الحضور في السينما المغربية، هذا الحضور لا يتعلق باحتضان فضاءاتها للتصوير فقط، بل باختيار المخرجين عنونة أفلامهم بها أو تضمينها في العنوان، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنها تارة ترد بالدارالبيضاء وتارة أخرى ب ” كازابلانكا” وفي أفلام أخرى مثلما سنرى ذكرت كازا وحدها. ويعود أول إدراج لها إلى عهد الحماية، حيث عنون المخرج الأمريكي ميكايل كورتيز فيلمه ب”كازابلانكا” سنة 1942، وهو من أشهر الأفلام الأمريكية حيث اعتبر سنة إنتاجه من أحسن عشرة أفلام أمريكة من طرف جريدة نيويورك تايمز، فيلم أخر لعبد القادر لقطع حمل عنوان” حب في الدارالبيضاء” سنة 1991، ليأتي ذكر الدارالبيضاء في فيلمين لمصطفى الدرقاوي ويذكر فيها الدارالبيضاء الأول ” كازا داي نايت ” و الثاني ” كازا داي لايت ” ونفس الاستثمار في الاسم قام به نور الدين الخماري في ” كازا نيكرا”، بل واصل نفس النهج من خلال فيلميه ” زيرو” و” بون أوت”، حيث لم يخرج من عوالم الدارالبيضاء نفسها، وأخيرا هناك فيلم ” الملائكة لا تحلق فوق الدارالبيضاء” لمحمد العسلي، وغيرها. إن هذا الحضور في السينما المغربية للدار البيضاء فضاء و اسما له ما يبرره في تجارب المبدعين السينمائيين، فهي مدينة ذات عوالم دسمة للتصوير السينمائي على المستوى الجمالي والدرامي، مدينة تنبض بالحياة، مدينة يلتقي فيها الغنى الفاحش بالفقر المدقع، ويتجاور فيها التطرف والزهد في الحياة بأقصى درجات الانحراف والإقبال على كل المتع، فيها تجد المساجد تجاور الحانات ودور الدعارة، أما على مستوى السلوك فهي خليط هجين من السلوكات تجمع بين الإيجابي والسلبي فقد نجد زنا المحارم والقوادة والنصب والاحتيال وكل الأمراض الاجتماعية، كما نجد من يعتني بالمشردين أو بالقطط أو الأمهات العازبات. كانت الدارالبيضاء نموذجا للمدينة المغربية الحديثة التي لعبت مكانتها الاقتصادية كبوابة للمغرب منذ فترة الحماية دورا هاما في جعلها قبلة للساكنة من مختلف جهات المغرب، وهو ما جعلها على المستوى الاجتماعي ذات خصوصية فريدة، تجمع بين أصالة المدن المغربية القديمة وحداثة المدن الأوربية. رغم أن المخرج عبد الكريم الدرقاوي ولد في مدينة وجدة سنة 1944 إلا أنه هاجر لمتابعة دراسته في الدارالبيضاء وخبر عوالمها المعقدة والمتشابكة، وانتقل إلى أوربا وبالضبط إلى بولونيا لمواصلة التكوين في السينما، وبذلك خبر ظروف العيش في مجتمع أوربي بخصوصياته الفريدة، وقارنها بما يحدث في مدننا وعلى رأسها الدارالبيضاء التي مارست كل غوايتها على كاميراه، ليخصص لها أفلاما كثيرة اثنين منها وقعا بكازا. انتقال الدرقاوي لتصوير أفلام من طينة الفيلم الذي نقاربه أملته آراء الشارع خاصة الجمهور، الذي كان يعيب عليه صعوبة فهم أفلامه، ولهذا كان طبيعيا أن يفكر في الدارالبيضاء حين أراد تصوير أفلام ذات توجه تجاري، ويهجر سينما أفلام المؤلف التي خلقت له مشاكل مع المسؤولين سياسيا، وحين أخرج فليمه الأول في هذا الصنف “كازا باي نايت” أراد أن يتصالح مع الجمهور واختار عنوانا بدلالات عميقة، فهو يحيل على ليل الدارالبيضاء المليء بالسواد والمحن، وكل أنواع الاستغلال، والإشارة إلى الليل يقصد بها صعوبة الرؤية، وصعوبة فهم خيوط الكثير من الحكايات التي تعيشها الدارالبيضاء كل ليلة كسوق الشياطين، والبارون، وحكايات المثليين… كما أنها علامة على أن ما سيتناوله الفيلم مرتبط بعوالم سرية، تصفى فيها الحسابات قبل طلوع الفجر، وقد تعمد أن يبدأ الفيلم بعد جنيريك البداية بأذان صلاة العشاء لإعلان بداية الليل، وعاد إليه قبل بزوع الفجر للإعلان عن قرب نهاية الحكاية. ليل كازا الأسود والاستغلال تجري أحداث الفيلم في ليلة واحدة، وهو بذلك يكون وفيا لعنوان فيلمه “كازا باي نايت”، فيلم اختار المخرج فضاءات تصويره بعناية، مركزا على الوجه السلبي بها من الحي الشعبي الذي تقطنه بطلة الفيلم كلثوم عياش إلى جانب أسرتها والمومسات وبائع الكاسيط و حلوى غريبة( معجون مخدر)، إلى الحانات والكباريهات بزبائنها ومسيريها المختلفين من حيث سحناتهم وأصواتهم وحركاتهم، وشوارع المدينة ليلا، والمستشفى الذي لا تخلو اللقطات التي صورت فيه من نقد للمنظومة الصحية بالمدينة. إلا أن مشاهدة الفيلم تكشف أن هناك ما تشترك فيه كل الفضاءات المذكورة لا يخرج عن الحرمان والقهر والتسلط الذي يمارسه القوي على الضعيف، فالكومسير” بالحسن” المتقاعد له سلطة في الرياض الذي يقطنه متخذا منه دارا للدعارة تدر عليه المال، ويستغل فيه سلطته وماله وعلاقاته مع رجال الأمن، لحمايته من مخالفة القانون والاستغلال الجنسي لسيدة متزوجة وابنتها، هذه السلطة تم التعبير عنها في العصى التي يستعملها وطريقة جلوسه وأسلوب التعامل معه من طرف محيطه، بل ومن طرف رجال الأمن في مخفرهم. أما مسيرو الكاباريهات فلا صوت يعلو على صوت الاستغلال والتحرش والقوادة دون الأخذ بعين الاعتبار لسن المرتادين له ك ” كلثوم” القاصر التي تم استغلالها بشكل بشع من طرف عدة عناصر، بدءا بخالتها إيزا وزوجها “الصردي”، والكوميسير المتقاعد ثم مسير الكاباري الأول والثاني والبارون وكل الذين حضروا في تلك الفضاءات التي رقصت فيها ” كلثوم”، استغلال وقع نهايته المأساوية مسير “ملهى نجوم الليل” الذي اغتصبها بوحشية مؤديا الدور الذي لم يقم به البارون، الشيخ الهرم الذي لم تساير رغبته الجنسية ضراوة جسد كلثوم الفتي، فأغمي عليه دون أن ينال مراده منها. وبين ثنايا رحلة البحث عن المال الكافي لأداء فاتورة عملية جراحية لشقيق كلثوم، ظهرت شخصية سائق التاكسي الأنيق، المختلف تماما عن “الصردي” سائق التاكسي الثاني المولع بالنساء بشكل مبالغ فيه، شخصية أدى دورها الممثل عزيز حطاب الذي جاء ليمنح للمشاهد اطمئنانا نفسيا على أن “كلثوم” ستكون بخير بوجوده، وقد برز هذا الاتجاه منذ إيصالها إلى المنزل لتلتحق بخالتها “إيزا” بعده في الحانة، وانكشف دور حطاب أكثر حين انقدها من الكلب و الحريق، دور سيعوضه فيه الشاب “زير” بعدما تكفل بإتمام المهمة بعد اعتقال المنقذ الأول بسبب إشعاله للنار في الملهى الليلي. استغلال آخر كشف عنه الفيلم في المستشفى حيث تكون أرواح المواطنين بما فيهم الأطفال رهينة أداء مبالغ مالية لا تقدر الأسر الفقيرة على أدائها مما يدفع بأفرادها إلى الانحراف والانخراط في سلوكات ممنوعة على رأسها الدعارة، ورغم ذلك حاول المخرج أن يعطي قيمة بطريقة أو بأخرى للجمعيات المدنية التي تقدم مساعدات إنسانية للعديد من الحالات الإنسانية في ظل لفظها من طرف المستشفيات العمومية التي كان من المنتظر أن توفر خدماتها للمواطنين مجانا دون اعتبارات طبقية أو جنسية أو عرقية. السرد بالمتوازيات وتكسير الإيقاع اعتمد المخرج مصطفى الدرقاوي أسلوبا سرديا، خاصا في فيلمه، بالاعتماد على حكايتين رئيسيتن متوازيتين، مع حكايات ثانوية تجمع بينها ترابطات من حيث الشخصيات أو الدوافع المحركة لها مع الحكايتين السابقتين، إلا أن السرد كان مرتبكا في البداية، بعد الدخول إلى دار الدعارة ودار أسرة كلثوم، وظلت بعض الأمور غير مفهومة بعد نهاية الفيلم، مثل موقع أخت زهرة في الفيلم. بعد ارتباك البداية بدأت خيوط الحكاية تتضح بالتركيز على مصير الطفل في العملية الجراحية ومصير كلثوم بين أيدي مستغليها والمتعاطفين معها، ومن الأمور التي لم تكن موفقة في نظري ذلك القطع الذي يتم بين الرقص والموسيقى وصوت الآلات الطبية ونبضات قلب الطفل، فالمشاهد يندمج في عالم الموسيقى الجميل ورقصات الأجساد والإنارة الخافتة، وفجأة ينتقل المخرج به إلى الألم والمأساة في المستشفى، بل إن صور إجراء العملية كانت صادمة شيئا ما بتصوير تلك التفاصيل، خاصة حين ننتقل من لقطة للرقص إلى لقطة لنبضات القلب، كما نسجل نوعا من المبالغة في تصوير مشاهدة الأم للعملية من النافذة. محمد زروال/ ناقد سينمائي من المغرب / بني ملال