في ظل أجواء إعلامية شديدة التنافسية، يحتفل العالم باليوم العالمي للإذاعة يومه الثلاثاء. ومع الانتشار اللافت لوسائط الإعلام الحديثة، واتساع الفضاءات الافتراضية بشكل فاق كل التصورات، يعود التساؤل حول قدرة الإذاعة على الصمود وسط سيل الوسائط الناقلة للمعلومات، المتدفق من كل حدب وصوب. ويستقي هذا التساؤل مشروعيته، في الوقت الراهن، من الواقع، إذ باتت الهواتف المحمولة والألواح الإلكترونية في متناول أعداد متزايدة من الناس في كل ربوع المعمور. كما أضحى الارتباط بالأنترنت أٌقل تكلفة وأكثر إتاحة. فهل يستطيع الراديو، الذي يجر خلفه مئة عام ويزيد من معانقة الأثير، على مواكبة هذه التحولات العميقة والمتسارعة التي خلخلت أنماط التواصل ووسائط الإعلام؟ للوهلة الأولى، قد يبدو أن المذياع، هذه الآلة المصدرة للأصوات فقط، يصعب أن يجد موطئ قدم تحت شمس التنافس الحاد بين وسائط تسعى إلى استقطاب متابعين للمواد الإعلامية والإعلانية معا. لكن الحقيقة ليست في ما يظهر بادئ الرأي، إذ تشير الإحصائيات إلى أن الراديو لا يزال وسيطا إعلاميا مرغوبا لدى شرائح واسعة ومتزايدة من سكان الكوكب. إن ثمة جانبا وجدانيا في علاقة المتلقي بالإذاعة، لا ينسحب على وسائط الإعلام الأخرى. ومهما بلغت التحسينات اليومية لهذه الوسائط، والتحولات غير المسبوقة للمشهد الإعلامي في اتجاه مزيد من توظيف التكنولوجيا، فإن للراديو نكهة أخرى. ولعل سر صمود المذياع، على مدى الأعوام الماضية، في وجه التلفزيون والفيديو والسينما والهاتف النقال واللوح الإلكتروني والأنترنت وهلم جرا، يكمن في هذا المنحى العاطفي الذي تتخذه علاقة المستمع بالمنجز الإذاعي. ذلك أن الأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما يقول الشاعر العربي. إنه، بعبارة واحدة، "سحر الخيال". وقد يظهر الوضع معكوسا إذا قلنا إن الإذاعة "ترسم الأحداث بالأصوات". لكنه وضع طبيعي حين نتحدث عن الراديو. إذ يتصور المستمع الأحداث المبثوثة كما شاءت له مخيلته، دون أن تفرض عليه الصورة (في التلفزيون مثلا) إطارا ضيقا لحركة العين ومجالا أضيق لانطلاق الخيال ! وحين تنزع وسائط الإعلام نحو التلوين والإبهار وشد الأنفاس، لا يملك المذيع من وسائل التواصل غير صوته. لكن مكمن التميز في ذلك، إذ يضفي دفء الصوت والعواطف المتدفقة بين الكلمات ألقا إنسانيا على العملية التواصلية برمتها، وهو ما يظل مفتقدا في وسائط الإعلام الأخرى. وأبعد من ذلك، فإن للأذاعة أدوارا تعليمية واضحة، فضلا عن وظائف الإخبار والترفيه، بحكم أنها تنفتح على شرائح اجتماعية شديدة التنوع، في الحواضر وفي القرى، كما أن الاستمتاع إليها لا يتطلب "طقوس فرجة" معينة، بل إن المرء يمكن أن يقوم بعمله اليومي المعتاد دون أن يمنعه ذلك من متابعة الأخبار والبرامج الإذاعية. وعلى الرغم من التنافس المحتد، فإن وسائط الإعلام الحديثة والتكنولوجيا المتاحة ساهمت في انتشار الإذاعة على نطاق واسع، واستقطبت شرائح لم تكن من متابعي هذه الوسيلة الإعلامية. ويتبدى ذلك من خلال التطبيقات الإذاعية على الهواتف المحمولة والبث المباشر على صفحات التواصل الاجتماعي، ما يكشف قدرة المذياع على التكيف مع الأوضاع المستجدة والإفادة منها. وفي هذا العام، تحيي منظمة اليونسكو اليوم العالمي للإذاعة تحت شعار "الإذاعة والرياضة". وتتوخى من وراء ذلك تعزيز التنوع والسلام والتنمية من خلال بث الرياضة. وهي القيم الإنسانية التي تراهن الإذاعة على إفشائها، بالكلمة والنغمة والتفاعل الحي مع قضايا الناس في كل مكان. إن الإذاعة – كما يقول الكاتب الكبير توفيق الحكيم – "صيحة عابرة، لا تقف حتى يسمعها من ذهل أو يفهمها من جهل"، لكنها أيضا "صيحة باقية" في وجدان الإنسانية منذ ما يزيد عن المئة عام. *سمير بنحطة