لا يختلف اثنان على أن التصوف عنصر أصيل في الشخصية المغربية ، طبعها على مر التاريخ ولازال حتى أن عددا من العادات والممارسات الاجتماعية المغربية تجد لها جذوراً صوفية بحتة ، بحكم أن الذوق المغربي العام ميال نحو الروحانية في ممارسته الدينية و الاعتقاد الراسخ لكثير من المغاربة في المظاهر الغيبية المرتبطة بالتصوف ( الكرامة البركة ) مما أهل بلاد المغرب الأقصى لأن تصير أرض الأولياء و الشرفاء خصوصا و أن آل البيت ( الأدارسة و العلويين ) وجدوا فيه مستقرهم ومقامهم الآمن بعد الاضطهاد الذي لاقوه بالمشرق من طرف الأمويين و العباسيين. وبالتالي لم يكن مستغربا انتشار التصوف و الطرقية في المغرب خاصة إذا علمنا بأن كبار الصوفية كانوا ينتمون إلى آل البيت ، كالقطب مولاي عبد السلام بن مشيش الذي تعتبر الطريقة التي أسسها تلميذه أبو الحسن الشاذلي الطريقة الأم لأغلب الطرق والزوايا المنتشرة اليوم بالعالم الإسلامي، كما لم يكن مستغربا أن يلعب التصوف ذلك الدور التاريخي الكبير الذي لعبه في تشكيل البنى الاجتماعية و السياسية المغربية منذ تأسيس الدولة الادريسية ، وضبط نسق الاعتقاد الديني و المذهبي وتوجهاته الأساسية عبر منظومة الزاوية و الرباط و عبر الايديولوجيا الصلحاوية التي وجدت لها أنصارا و امتدادا داخل النسيج القبلي الامازيغي فأنتجت بالموازاة مع الشرفاوية ( الأدارسة و العلويين ) ، النسق الثقافي للسلطة والعناصر الأساسية لنظام الحكم في المغرب عبر اثنتا عشر قرنا لم تكن فيه الدولة سوى التعبير السياسي عنها في مستوياتها الأفقية. و رغم ذلك فقد عرفت علاقة الزاوية بالسلطة السياسية مستويات مختلفة من التفاعل تراوحت ما بين الصراع و القرب، تبعا لقوة الزاوية الطريقة و مواقفها من سياسة الحكم و هوية السلطة السياسية و اختيارات الدولة المذهبية واحتياجاتها لضبط المجالات الترابية و القبلية وضمان الولاء السياسي وتبعا كذلك للظرفية التاريخية التي كان يمر منها المغرب في العصور الوسيطة. ولازالت هذه العلاقة التقليدية بين الزاوية و الدولة قائمة إلى اليوم في مغرب المؤسسات والحق و القانون ، إلا أن صبغتها الأساسية هي التبعية شبه المطلقة لأغلب الطرق و الزوايا لسياسة الدولة ومخططاتها الرامية بالأساس إلى التحكم في المجال الديني وضبط مستوياته في إطار خطة هيكلته و إعادة رسم وظائفه ، من خلال الهبات و العطايا والذبائح التي تمنح للشيوخ و الشرفاء الساهرين على تسيير الزوايا و الطرق و الأضرحة ، و من خلال تنظيم المواسم الصوفية و الملتقيات الوطنية و الدولية للتعريف بالتصوف و الموسيقى و السماع الصوفي ، مع العلم أنه لا توجد أي نصوص قانونية تؤطر تدخل الدولة في المجال الصوفي وتعيين شيوخ الطرق سوى مؤسسة إمارة المؤمنين التي كرسها الفصل 41 من دستور 1 يوليوز 2011 باعتبارها الجهة الشرعية العليا القائمة على تدبير الحقل الديني. بعد أن شهد المشهد الديني المغربي في العقود الأخيرة نزوعا مذهبية نحو تيارات أصولية تعتمد في استقطابها الشعبي على خطاب متشدد تجاه نظام الحكم باعتبار مسؤوليته في تراجع القيم الإسلامية وتطبيقها في المجتمع كجماعة العدل و الإحسان أو كتيار السلفية الجهادية الذي يعتمد على العنف و الإرهاب من أجل تمرير مواقفه من الشأن العام ورفضه للدولة الحديثة التي تطبق القانون الوضعي بدل الشريعة الإسلامية ، وهذا التوجه الرسمي لدعم التصوف لم يقتصر فقط على المقاربة الأمنية فيما يسمى بصيانة الأمن الروحي للمغاربة ضد المذاهب الدخيلة و المتشددة خاصة بعد تولي السيد أحمد التوفيق لوزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ، أو ما يصطلح عليه بالأمن السياسي فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب و التطرف الديني ، فامتد ليشمل مجالات أوسع منها السياحي والثقافي من أجل تسويق صورة المغرب المنفتح و الحداثي في العلاقة مع العالم الخارجي من خلال مهرجانات الموسيقى الصوفية و الروحية و ملتقيات سيدي شيكر. كما أن الدولة تستدعي التصوف كلما عنت الحاجة إليه سواء محليا أو على المستوى الدولي ، من أجل ضبط التوازنات الاجتماعية و السياسية و خدمة الأغراض المختلفة للشأن السياسي و العلاقات الخارجية ، وأبرز مثال على ذلك هو التعامل التفضيلي الذي توليه الدولة للزاويتين التجانية و البودتشيشيه لما لهما من ثقل اجتماعي وتأثير شعبي بحكم كثرة أتباعهما . فبالنسبة للطريقة التجانية التي تتوفر على كم هائل من المريدين و الأتباع في إفريقيا ، حافظت الدولة المغربية على منهج واحد في التعامل معها منذ مقدم شيخها سيدي أحمد التجاني إلى فاس نهاية القرن الثامن عشر ، حيث لاقت العطف والدعم الكامل من المخزن السليماني الذي اعتمد على توجهها السني من أجل محاربة البدع و الطقوسية التي كانت منتشرة بشكل كبير في المجتمع المغربي ، فوجدت المجال الرحب لاستقطاب الأتباع و تأسيس الزوايا ليس في المغرب فقط ، بل امتد إشعاعها الصوفي إلى تخوم السودان الغربي وما وراء نهر السنغال وهو ما جعل كلمة شيوخها اليوم مسموعة حتى في أعلى هرم السلطة في عدد من دول الساحل الإفريقي ، وهذا ما دفع الدولة المغربية إلى الاستمرار في دعم الطريقة عن طريق الهبات و العطايا و تنظيم ملتقيات دولية لأتباعها بفاس من أجل توطيد علاقاتها الدولية بتلك الدول و ضمان دعمها للسياسة الخارجية المغربية ، التي لاقت صعوبات عدة على المستوى الإفريقي خصوصا في مسألة الوحدة الترابية ومشكل الصحراء بسبب دعم الجزائر و ليبيا في عهد القذافي للتوجهات الانفصالية للبوليساريو ووقوفهما وراء اعتراف الاتحاد الإفريقي بجمهورية الصحراء الوهمية انطلاقا من مرجعيتهما الاشتراكية العالم ثالثية و أموال النفط والغاز التي كانت تصرفانها بسخاء على بعض الدول الإفريقية من أجل نيل الزعامة في القارة السوداء. وقد أدى تفعيل الدور الدبلوماسي للتصوف من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية المغربية على الصعيد الإفريقي إلى لفت انتباه كل من الجزائر و ليبيا اللتين عمدتا بدورهما في السنوات الأخيرة إلى محاولة اللعب بنفس الورقة لتقليص حجم الانجازات المغربية في هذا المجال ، فحاولت الدولة الجزائرية في البداية أن تستميل شيوخ الزاوية التجانية وتستقطبهم للعب الدور المعاكس للسياسة المغربية عبر عقد الملتقيات بعين ماضي مسقط رأس الشيخ التجاني لإضفاء نوع من الشرعنة للاستخدام السياسي للطريقة ، إلا أنها اصطدمت بالروابط المتجذرة بين الدولة المغربية و أتباع الطريقة التجانية التي عبر عنها شيخ الطريقة بنيجيريا في كلمته التي ألقاها خلال ملتقى فاس بأن أمير المؤمنين في المغرب هو أمير المؤمنين لجميع التجانيين في العالم بحكم البيعة التي في عنق الشيخ المؤسس سيدي احمد التجاني للسلاطين العلويين. وعدم قدرتها على الاستقطاب الكبير لممثلي الطريقة عبر العالم عكس ما سجلته ملتقيات فاس ، كما أن غياب الوفد المغربي عن الحضور بعين ماضي شكل ضربة قاسية للجزائر التي كانت تراهن على أن يكون مقر الخلافة العام للطريقة بأرضها بدل المغرب حيث ضريح الشيخ سيدي أحمد التجاني. ويبدو من الواضح أن الربيع العربي و الحراك الاجتماعي غير كثيرا من معادلات التوازن الاستراتيجي الإقليمية في المنطقة المغاربية بعد سقوط نظام بن علي و القذافي ، إلا أنه لم يستطع أن يؤثر على ميكنزمات التصريف السياسي للتصوف في معجم الدبلوماسية المغربية و تأويلات علاقاتها الخارجية التاريخية مع بلدان الساحل الإفريقي أو في تغيير ملامح جغرافيا التصوف ، حيث لا زالت السياسة المغربية الرسمية تضبط المحددات الأساسية لمجال الاشتغال السياسي الصوفي و توجه خطابه بما يخدم الأمن القومي و تحدد طبيعة التعاطي مع الأطراف الفاعلة في مجاله داخليا وخارجيا ، عكس الأنظمة التي تهاوت بفعل الربيع الثوري. وقد كانت الحالة الليبية هي الأكثر إثارة للاهتمام خاصة بعد أن توج القذافي نفسه ملك ملوك إفريقيا و زعيم زعماء العالم الإسلامي و قيامه بتوجيه بوصلة الفاتح الوحدوية نحو القارة الإفريقية حيث بدأ هو الأخر يبدي اهتماما متزايدا بالتصوف والطرق الصوفية بعد أن كان يكن لها العداء الشديد لانتماء ملك ليبيا السابق إلى الطريقة السنوسية الذائعة الصيت ، كان آخرها المؤتمر العالمي للتصوف بليبيا الذي عقد من 8 إلى 15 فبراير 2011 أي قبل يومين من اندلاع الثورة الليبية ، حيث تدخلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من أجل منع الوفد المغربي من حضوره وهو ما فسر في حينه بأنها ردة فعل على عدم نجاح ملتقى سيدي شيكر ، إلا أن الأمر في نظرنا لم يكن سوى إجراء سياسيا طبيعيا هدف إلى عدم إضفاء الشرعية على التوجه الذي سلكه القذافي في جعل التصوف مدخلا جديداً لعلاقاته مع إفريقيا وهو ما يعتبر منافسة للمغرب على عنصر تاريخي يصعب التفريط فيه على مستوى الصيغة الإفريقية لخطابه الدبلوماسي خاصة مع دعم القذافي لجبهة البوليساريو الانفصالية أو ربما كان قراءة رصينة للوضع المتوتر الذي كانت عليه ليبيا واستشرافا لما كانت ستؤول إليه الأحداث لاحقا ، فداخليا جاء رهان القذافي على التصوف من أجل مجابهة التيار السلفي متأخراً جدا مقارنة مع جيرانه المغاربيين حيث لم تفلح جهوده في إحياء الزوايا و المواسم الصوفية وزيارة الأضرحة إلى جانب القمع الدموي الرهيب ، في كبح جماح التيار السلفي و انتشاره ، وهو ما ظهر جليا إبان الثورة الليبية حيث انضم اغلب السلفيين إلى الكتائب الثورية وشكلوا نواتها الأساسية ، ولم تنجح سياسة الولاءات القبلية في ليبيا واستجلاب المرتزقة الأفارقة و التهديدات باستخدام العنف الشامل في وقف انهيار نظام القذافي خاصة بعد تحالف الغرب مع الثوار من أجل إسقاطه ، وقد كان المغرب من أوائل الدول العربية التي شجعت على تدويل القضية الليبية و دعم المجلس الانتقالي الليبي. وكان من الطبيعي جدا في سياق الأحداث المتسارعة في المشهد العربي أن يتفاعل الشباب المغربي مع كل الحراك الاجتماعي والانتفاضات العربية ضد الأنظمة الاستبدادية و أن تعلو الأصوات المطالبة بالتغيير و الإصلاح و محاربة الفساد و القضاء على الاستبداد ، حيث تشكلت وفي وقت وجيز عدد من المجموعات على مستوى المواقع الاجتماعية الافتراضية تدعو إلى النزول إلى الشارع من أجل التعبير عن مطالب الإصلاح وحددت لذلك يوم 20 فبراير كموعد للاحتجاج ، و انضم سريعا إلى الحركة عدد من القوى المعارضة كانت جماعة العدل و الإحسان الإسلامية من أبرزها. و لم تنتظر الدولة طويلا للرد على مطالب الحركة ، فقد أعلن الملك محمد السادس في خطاب التاسع من مارس عن خطة شاملة للإصلاح السياسي و الدستوري في خطوة اعتبرها جل المراقبين السياسيين على أنها الوسيلة الناجعة لوقف احتجاجات حركة 20 فبراير ، إلا أن ذلك لم يلاقي تجاوبا كبيراً من القوى المشاركة في الحركة التي رفعت من سقف مطالبها السياسية من أجل اعتماد ملكية برلمانية لا تخول أي اختصاصات تنفيذية للملك ، وعاد الفصل 19 من الدستور السابق الذي يمنح الملك صفة أمير المؤمنين بالإضافة إلى اعتبار الدين الإسلامي دين الدولة الرسمي و دسترة مبدأ حرية المعتقد إلى واجهة النقاش العمومي خاصة بعد تكوين اللجنة المشرفة على تعديل الدستور التي بدأت تتلقى تباعا مشاريع و مقترحات التعديلات الدستورية من الأحزاب و الهيئات السياسية و الفاعلين الجمعويين ومكونات المجتمع المدني، في حين غاب المكون الصوفي وشيوخ الطرق الصوفية عن الإدلاء بمقترحاتهم الدستورية باستثناء الأستاذ علي الريسوني في فيديو على الشبكة العنكبوتية حيث طالب بالاعتراف بالرافد الأندلسي كأحد مكونات الهوية المغربية و دسترته . إلا أنه مع اقتراب تاريخ التصويت على الدستور وتعالي دعوات المقاطعة من حركة 20 فبراير ، ستظهر الطرق الصوفية مرة أخرى على مشهد الأحداث خاصة الزاوية البودشيشية التي أصدرت مشيختها بيانا تعلن فيها دعمها لمشروع الدستور و مطالبتها بالتصويت الايجابي عليه كما دعت أتباعها للنزول إلى الشارع من أجل الدعوة للتصويت بنعم في استفتاء فاتح يوليوز 2011 ، الأمر الذي نال تعاطيا إعلاميا كبيرا بحكم الأهمية التي تمتلكها الطريقة البودشيشية وموقعها في المشهد الديني المغربي خاصة و أن وزير الأوقاف أحمد التوفيق لا يخفي انتماءه لها حيث اعتبر موقفها ترجمة لتوجيهات الإدارة التي لازالت تعتمد على البنى التقليدية ( الزوايا و الطرق و...) في الترويج لخطابها السياسي في تنافر صارخ مع ما يسمى بالمشروع الديمقراطي المؤسساتي ، ثم تتالت بعد ذلك بيانات الطرق الصوفية الاخرى و التي صبت كلها في نفس سياق التأييد و الدعم لمشروع الدستور دون إبداء أي رأي أو ملاحظة أو اقتراح. ولعل ما يؤكده الربيع العربي في سياق رصدنا لدور المكون الصوفي في صناعة الأحداث السياسية ، هو أن تدخل الطرق الصوفية لم يأتي سوى في ذيل الأحداث ليخلق بشكل سلبي بعض المشاكسة الإعلامية الموجهة كما في الحالتين المصرية و المغربية رغم الاختلاف الهيكلي الشاسع بين النموذجين ، حيث يمتلك الصوفية بمصر منذ وقت طويل مجلسا أعلى للطرق يمثل جميع المنتمين إلى الحقل الصوفي وينظم علاقتهم بالدولة بل و عمد بعض الصوفية مؤخراً بعد نجاح الثورة المصرية إلى تأسيس عدد من الأحزاب و الهيئات السياسية التي استطاعت بالفعل خوض المعركة الانتخابية في مواجهة الأحزاب ذات التوجه السلفي التي رفعت شعارات معادية للمواسم والتصوف الشعبي الطقوسي و تمثيلها في الحوار مع المجلس العسكري الحاكم ، وهو ما يفتقده المكون الصوفي المغربي الذي لا يمتلك إطارا أو مؤسسات حديثة تمثله أمام الدولة حيث بقي إلى الآن حبيس الاستخدام السياسي الرسمي في إطار الدور الذي أريد للتصوف أن يلعبه على مستوى الاستقطاب في مواجهة الحركات الإسلامية المعارضة خاصة بعد تولى أحمد التوفيق تدبير ملف إعادة هيكلة الحقل الديني ، كما هو الشأن بالنسبة للزاوية البودشيشية مع جماعة العدل و الإحسان التي خرج مرشدها العام عبد السلام ياسين من كنف شيخها ليمارس معارضة شديدة للسياسة المخزنية وهو ما يفسر بالملموس المنطلقات الموضوعية لمساندة مشيخة الطريقة لمشروع الدستور مادامت جماعة العدل و الإحسان توجد في الجانب المناقض الداعي إلى رفضه و مقاطعة الاستفتاء عليه. و الحقيقة أن السياسة الرسمية المتبعة في توظيف التصوف لأغراض سياسية لاقت نقدا شديدا ليس فقط من قبل الحركات الإسلامية ذات التوجه السلفي و منابرها الإعلامية ، بل حتى من قبل بعض المتصوفة أنفسهم الذين وجدوا أنفسهم في ظل السياسة التوفيقية الجديدة خارج السياق خصوصا بعد عودة ظاهرة تعيين شيوخ الزوايا بظهائر ملكية سامية ، حيث وجه الدكتور يوسف الكتاني شيخ الطريقة الكتانية سابقا نقدا شديدا لسياسة التوفيق في مقدمة كتابه الطريقة الكتانية تراث الشيخ وتلاميذه الجزء الثالث بقوله ( من المعلوم أن الزوايا مؤسسات دينية اجتماعية فكرية تعتبر جزءاً أساسيا من المجتمع المدني وظيفتها تأطير المواطنين دينيا وتوجيههم روحيا وقيادتهم سلوكيا وتربويا فهي مرشدة الأمة وموجهة المجتمع أفرادا وجماعات وخاصة في المجال الأخلاقي و الجهادي دفاعا عن كيان الأمة و استقلالها ووحدتها ....فهي كالأحزاب لا يمكن التدخل فيها وتعيين شيوخها أو رسم سياستها كي تقوم بتأطير المجتمع وتربيته و تهذيبه ....ناهيك و أن تدخل الدولة أو الحكومة فيها يعرقل عملها ويجعلها تابعة لها متوجسة منها وخاصة إذا كانت ترفدها بالأموال و الهدايا كما بدأ يظهر في التعامل معها اليوم دون مراعاة أو تفكير أو تقدير للعواقب ... إذ كلما تدخلت الدولة في الأحزاب و الطرق الصوفية فقدت هذه وتلك ميزتها ووظيفتها ومصداقيتها التي تتنافى مع مهمتها الأساسية وهو التوجيه الديني و الروحي للأمة بكل استقلالية وتجرد ) وفي نقد لاذع لسياسة وزارة الأوقاف في عهد أحمد التوفيق يقول ( وأخيرا بالنسبة لتدخل الأوقاف السافر في أمر الزوايا و التصوف والذي تبث خطله وفساده ويكاد يجرف التيار الصوفي ويفسده كما هو شأن الوزارة في كل أمر تدخلت فيه مما ينذر بالشرور وبالزوابع سواء في أوساط الزوايا ومشيخاتها أو في المجالس العلمية و أعضائها ....) لقد كشف الربيع العربي عمق الانتقادات الموجهة لعلاقة الدولة الملتبسة بحقل التصوف والطرق الصوفية و اختلال بنية توزيع الأدوار بينهما في مجال الممارسة السياسية حيث أصبحت الطرق منفذا طيعا للتعليمات بدل أن تكون فاعلا مستقلا في محيطها الاجتماعي ، خاصة وأن الشفافية و المسؤولية وتخليق الحياة العامة تمثل شعار مرحلة الإصلاح الدستوري بالموازاة مع غليان شعبي يدعو لإسقاط الفساد و الاستبداد. فلم يكن التصوف كمنهج أخلاقي ومعرفي سوى الخاسر الأكبر في معادلة استخدامه السياسوي من قبل بعض المنتسبين إليه النافذين أو من قبل الدولة في مقابل التصوف النفعي الارتزاقي إن صح التعبير ، خاصة بعد أن أصبحت العلاقة بين الشيخ و المريد في تصور الكثيرين هي الخطاطة المجسدة للنماذج الديكتاتورية والمنتجة في آن للتسلطية المتعددة الأوجه اجتماعيا وسياسيا ليس في المغرب فقط بل في العالم العربي كما جسدها كتاب عبد الله حمودي الذي أراد أن يجعل من جدلية الشيخ والمريد الديالكتيك الجديد المفسر للتاريخ التسلطي العربي ، بناء على مشاهدات وتفسيرات لا تعدو أن تكون سطحية لبعض العادات المعقدة في المجتمع المغربي و الانحرافات السلوكية المرصودة في ممارسات بعض من يسمون زورا بشيوخ و المستقاة أساسا من دراسات المستشرقين ك ويستيرمارك و الاستخدام التعسفي لبعض المصطلحات الصوفية كاللدنية للتعبير الاسقاطي لنظرية الحق الإلهي القروسطوية وتعميمها المغلف بأدوات المنهج الانتربولوجي على مفاهيم السلطة في الحالة العربية ، فاللدنية كما يفهمها عبد الله حمودي لا تعدو أن تكون تشويها لمفهوم الكشف الصوفي حين ربطها بأنساق أخرى كالشرف الذي هو بالأساس عنصر قبلي ( بنو هاشم ) و بالظواهر الخارقة في التصور الشعبي أو بالحاكم في ممارسته التسلطية للحكم و هي أمور تخالف كليا الاصطلاح الصوفي لوظيفة الشيخ و المريد في التصوف الطرقي. إن الاستغلال الإيديولوجي والسياسي للتصوف أصبح اليوم يطرح أكثر من علامة استفهام بشأن مستقبله كمنهج تربوي ، وأفضى إلى تشويه التصوف و تاريخه المعرفي و بناه التنظيمية في شكله الجماعي حيث لم يعد من المقبول أبدا هذا العبث سواء أكان سياسيا أم أكاديميا خصوصا مع ظهور عدد من التيارات التغريبية المتخفية في عباءة بعض الطرق و التي تفصله عن أصوله القرآنية النبوية السلفية أو بعض الأطروحات و الدراسات التي توظفه في حقل الدلالات كنموذج للروحانية المنفلتة و رمزاً للتنميط الشعبي أو التسلطية ، فالتصوف مدرسة تربوية أخلاقية معرفية إسلامية ربانية محضة ، والمكون الصوفي عنصر أصيل في الثقافة الإسلامية بعيدا عن الانحراف العقائدي و الطقوسي و التلبيس الذي مارسته بعض الأطراف عبر التاريخ ولازالت تمارسه اليوم تحت مسميات متعددة خدمة لأغراض لا تمت للتربية الروحية و القيم الأخلاقية الإسلامية بصلة. بدر الدين الخمالي العنوان الأصلي للدراسة: التصوف في خضم الربيع العرب.. المغرب نموذجا