نجح المغرب يوم الجمعة 25 نوفمبر 2011 في امتحان عسير تخُوضه المنطقة العربية بأسرها. إنه امتحان الانتقال الديمقراطي السِّلمي، الذي يأتي بالتغيير مع الإستمرارية، في ظل التوافق على أن صندوق الإقتراع هو وحده الحَكم في تدبير الشأن العام.. هو المانح وهو المانع، وكل الأطراف ترضى بما يعطيه. واليوم، يستطيع كلّ فاعل سياسي بالمغرب أن ينسب النجاح لنفسه، وإن كانت القراءة المُتأنِّية لِما يجري في البلاد والمحيط الإقليمي منذ حلول عام 2011، تخلص إلى أن الجميع، كلّ من موقِعه وموقِفه، ساهَم في تحقيق هذا النجاح الذي لا يكاد يُشكك فيه أحد. يوم الجمعة 25 نوفمبر، توجّه ملايين المغاربة إلى صناديق الإقتراع، لانتخاب أول سلطة تشريعية بعد إقرار الدستور الجديد وإفراز حكومة برئاسة الحزب الفائز بالمرتبة الأولى. والصناديق أعطت حزب العدالة والتنمية ذِي التوجّه الإسلامي هذه المرتبة (107 مقعد من 395 مقعد)، بفارق كبير عن وصيفه حزب الاستقلال (60 مقعدا)، الذي كان الحزب الأول في برلمان عام 2007. الإعلام، خلال الساعات التي تلَت الإعلان عن النتائج الجزئية ومنحت العدالة والتنمية المرتبة الأولى، انشغل بهذا الحزب وتوجّهاته الأصولية والتركيز على تدبيره للحريات الشخصية للمواطنين، متجاهِلا المُناورة والذكاء السياسي، الذي باتت عليه الحركة الأصولية، ذات التوجه الإسلامي والتحوّلات التي عرفه خطابها ابتداءً من العدالة والتنمية التركي، وصولا إلى العدالة والتنمية المغربي، مرورا بحزب النهضة التونسي. والتجاهل الأهم في تعاطي الإعلام، خاصة الأوروبي، مع الانتخابات المغربية وإفرازاتها، كان للقصْر الملكي والملِك محمد السادس، الذي امتلك خلال الأشهر الماضية، التي شهدت تفجر تسونامي الحريات والثورات في سِياق الربيع العربي، حِسّا سياسيا لتدبير الملَل الذي كان يدُب بالشارع المغربي والإحتقان الإجتماعي والسياسي، نتيجة الفساد في مؤسسات الدولة وبروز تيار مؤثِّر يدفع البلاد باتِّجاه استنساخ نظام تونس بن علي، فكان خطابه يوم 9 مارس 2011 انطلاقة للإصلاحات الدستورية، المُتمثلة في دستور جديد، استفتى عليه المغاربة في شهر يوليو الماضي، أزال فيه عنه صِفة القداسة وتنازَل عن صلاحيات يمنحُها له الدستور وخوّلها لرئيس الحكومة. هذه الإصلاحات كانت ثِمارا لخروج الشارع المغربي في تظاهُرات شِبه أسبوعية، للمطالبة بإصلاحات تُؤطّرها حركة 20 فبراير، وما كان يُمكن أن يحدث بالشارع المغربي، إذا لم تكن تلك الإصلاحات قد تحقّقت، حتى وإن لم تكن كافية لإقامة مَلَكية برلمانية، ويستطيع اليوم نُشطاء هذه الحركة (التي لا زالت لم تستكن وتخرُج إلى الشارع مشكِّكة أولا، بنزاهة الانتخابات قبل إجرائها، وثانيا، بإمكانية حزب العدالة والتنمية على إحداث التغيير)، أن ينسبوا ما أنجِز لهم ولحركتهم، رغم القساوة السياسية والمعنوية وحتى المادية، التي وُوجِهوا بها في مراحل مختلفة في مسار حركتهم على مدى الشهور التِّسعة الماضية. وفي واقع الأمر، تُعتَبر انتخابات 25 نوفمبر، انتصارا للمغرب بكل مكوِّناته، لأن الشكّ كان سيِّد الموقف لدى العديد من الأطراف، الداخلية والخارجية، بخصوص القُدرة على تدبير التظاهرات الإحتجاجية الأسبوعية لحركة 20 فبراير، دون أن تسيل دِماء، وإجراء إصلاحات دستورية والمدى التي أخذته هذه الإصلاحات وإجراء انتخابات نزيهة وذات مصداقية، بعد أن عانت البلاد طيلة خمسة عقود من التشكيك وعدم مِصداقية المؤسسات الدستورية المُنتَخَبة. وبالتأكيد، فاز حزب العدالة والتنمية بجَدارة. فاز أولا في تقديم نفسه كحزب له القُدرة على التعاطي مع قضايا المجتمع بمُقاربة أقرب للمقاربة المدنية، دون طغيان الخطاب الدِّيني، وإن كان هذا الخطاب لم يغِب، إن خلال مساره الانتخابي الذي اتَّخذه منذ عام 1997 تحت عَباءة الحركة الشعبية الدستورية أو كحزب عدالة وتنمية بعد ذلك واحتلاله المرتبة الثانية في تشريعيات عام 2007. وفاز الحزب ثانيا بالمرتبة الأولى بالإنتخابات بعدد مقاعد ونِسبة أصوات لم يحصل عليها حزب مغربي منذ تشريعيات 1963، دون أن يشكِّك أحد في سلامة وصحة هذه النتيجة، بل إن الخاسرين بالإنتخابات توجّهوا جميعا لتهنِئته. وقد يكون ما ساهم في تعاطُف الناخب المغربي معه، الحملات التي شُنَّت عليه وما تعرّض له من مُضايقات منذ عام 2003 وخطابه المعارض أمام فراغ من خطاب معارض مقبول أو خطاب أغلبية مُقنع. والأهم، أن مَن كانوا في مواجهته، كانوا جزءا من السلطة وحمَّلهم المواطن مسؤولية ما آلت إليه البلاد وما تعاني منه من أزمات اقتصادية واجتماعية. العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي لم يستقبل عبد الاله بن كيران في السابق، رغم أنه زعيم لحزب العدالة والتنمية منذ عام 2008، استدعاه لمقابلته في ميدلت (وسط المغرب) يوم الثلاثاء 29 نوفمبر، أي بعد أربعة أيام فحسب من إجراء الانتخابات، ومن المنتظر أن يكلَّفه - حسب النص الدستوري - بتشكيل الحكومة الجديدة ما سيُدخله في سلسلة امتحانات، سيتوجب عليه الآن أن يُبرهِن على قُدرته على تجاوزها والنجاح فيها. امتحانات منها المستعجل والآني ومنها المتروك للسنوات الخمس القادِمة من عُمر حكومته، وإن كان بن كيران أدرك خلال الأسابيع الماضية، طبيعة هذه الإمتحانات وبعث بأجوبة عليها من خلال حملته الإنتخابية أو عبر تصريحاته المتدفّقة خلال الأيام التي تلت الإعلان عن فوز حزبه بانتخابات 25 نوفمبر. أولى هذه الامتحانات الآنية، هي تشكيل الحكومة ومكوِّناتها الحزبية. فعدد المقاعد الت يحصل عليها الحزب (حوالي 27%)، لا يمكنه من تشكيل الحكومة لوحده، وهو بحاجة لتحالُفات، أطلق إشاراتها الأولى قادة العدالة والتنمية باتِّجاه تحالف الكتلة الديمقراطية، المكوّن من حزب الاستقلال والإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية، وهي أحزاب وطنية ويسارية تاريخية، لا زالت تحظى باحترام نِسبي من المواطن المغربي، لكن حزب العدالة والتنمية أيضا لا يريد أن يكون رهينة هذا التحالف وإكراهاته. وقال عبد الاله بن كيران، إن حزبه منفتِح على كل الأحزاب التي فازت بالإنتخابات، بغَضّ النظر عن انتماءاتها الفِكرية والأيديولوجية والسياسية، باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة، خصمه اللدود. في المقابل، لا زالت الظروف التي تحكم الأحزاب، مُربكة لقياداتها، بعد ما اعتبرته هزيمة لها، وخرجت أصوات متعدِّدة داخل هذا الحزب أو ذاك، تدعو للجلوس في مقاعد المعارضة، إن كان رفضا للتحالُف مع العدالة والتنمية، كحزب أصولي إسلامي أو لقراءة هادئة لمسار طويل، أدى إلى هزيمتها. وبعد انتهاء عبد الاله بن كيران، كرئيس مُعيَّن للحكومة، من تحديد المكوّنات السياسية لتشكيلة فريقه الحكومي، يدخل بامتحان اختيار الشخصيات التي ستحمل حقائب وزارية. والتوجّه السائد حتى الآن، أن تكون هذه الحقائب قليلة العدد، مع الإستعانة بكتّاب الدولة، وعلى بن كيران أن يُرضي المستوزرين بحزبه وأيضا أن يُرضي الأحزاب المشاركة. ويبقى الامتحان الأصعب أمام حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب ذو التوجّه الإسلامي، هو قُدرته على تنزيل دستور ينحى بالبلاد نحْو الحرية الشخصية والتسامُح. وقد أعطى خطاب الحزب خلال حملته الانتخابية، إشارات تطمين للجهات المعنية، لكن التناقُض الذي يُحتمل أن يظهر خلال الممارسة، سيضعه في إحراج أمام ناشطيه وأنصاره. عبد الاله بن كيران قال في ندوة صحفية بعد إعلان النتائج، إن أولويات حكومة حزبه، هي القضايا الكبرى للبلاد "ولن ينشغِل بالمخمورين والمتبرجات" ولا تستطيع أية حكومة بالمغرب أن تمسّ بالحياة الشخصية للمواطنين. القضايا الكُبرى بالنسبة لابن كيران، هي التعليم والصحة والبطالة، في ظل أزمة اقتصادية حادّة يعرفها المغرب. ومن المؤكد أن التعثُّر في تدبير هذه الأزمات، سيجعل من حركة 20 فبراير (وهي إحدى المكوِّنات التي أدى تحركها إلى حماية حزبه من مصير صعْب، بعد أن وضعته أطراف بالدولة نُصب عينيْها وقرّرت احتواءه، تمهيدا لضربه)، قوّة مناهضة له في الشارع ومعها أطراف من حزبه، إضافة إلى خصومه التقليديين. من ناحيته، يعتقد عبد الاله بن كيران أن السبب الرئيسي لأزمات البلاد، هو الفساد والإستِبداد، وسيضع أولويات برنامج حكومته، محاربتهما وتدبير انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على المغرب، مثلما تُدبِّرها الدول الأخرى. لكن تنزيل الدستور يعني ممارسة الحكومة ورئيسها، للسلطات والإختصاصات التي منحها إياه الدستور الجديد، وكانت الأوساط السياسية شكت خلال السنوات الماضية من تدخّل مستشاري الملك وآخرين "لا صفة لهم" في عمل الحكومة والوزراء. في هذا السياق تحديدا، يؤكد بن كيران أنه لن يكون هناك وسيط بين الملك ورئيس الحكومة، وأن مرحلة تدخّل مستشاري الملك في عمل الحكومة و"بَهْدَلة" وزرائها، انتهت. وشدّد أيضا أنه على وزراء الحكومة، التي سيرأسها حزبه، أن لا يخافوا على كراسيهم وقال: "أتمنى أن لا نخاف كثيرا على الكراسي"، مؤكِّدا أنه "لا يمكن حُكم المغرب ضدّ إرادة الملك"، على اعتبار أن الملك هو رئيس الدولة، كما ينص على ذلك الدستور، إلا أنه تحدّث عن مولاي أحمد العراقي، الوزير الأول في نهاية ستينات القرن الماضي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يُكاتب الملك، وإذا لم يتلقّ أي ردٍّ منه خلال ساعتين، يعمل بقراره، على أساس أن الملك غيْر مُعترض. وقال بن كيران، هناك وزراء ينتظرون التعليمات ويقولون يجِب أن نستشير الملك في بناء مدرسة أو مستشفى. وتساءل ساخِرا: "هل مثل هؤلاء جاؤوا ليشتغِلوا أم ليُزعِجوا؟". أما كيفية تدبير اختلاف الرأي مع الملك، فيعتقِد أنه يمكن للوزير أن يرد على الملك "بالآداب والصّواب"، وتوضيح الأمر، وإذا لم يقتنع، فليخرج (من الحكومة) كما دخل إليها، "لأن هناك 30 مليون مغربي يمكن أن يحلّوا محله". على صعيد آخر، أتى فوز حزب العدالة والتنمية، في سياق تولي أحزاب ذات نفس التوجه الإسلامي إلى الحكم في دول عربية أخرى، وهو ما قد يساعده على تدبير الشأن العام المغربي. فحزب النهضة فاز بأغلبية بتونس ما بعد بن علي، والإسلاميون يُسيطرون على ليبيا ما بعد القذافي، والإخوان المسلمون في مصر يستعدّون للفوز بانتخابات أول برلمان ما بعد حسني مبارك، وحزب الإصلاح اليمني فاعِل أساسي في يمن ما بعد علي عبد الله صالح، والإخوان المسلمون بسوريا، يقودون الشارع السوري باتِّجاه مرحلة ما بعد الأسد، وجميع هذه الأحزاب تأخُذ من حزب العدالة والتنمية التركي نموذجا للحُكم، إن كان للدّلالة على نجاح التيار الإسلامي في تدبير شؤون الدولة وتقدّمها والحفاظ على ديمقراطيتها واستقرارها أو رسالة للدول الكبرى المؤثِّرة، بأن الأصولية الإسلامية، ليست مُعادية بالمُطلَق للغرب. وحزب العدالة والتنمية وجّه مثل هذه الرسالة وقال: "إن علاقة المغرب مع أوروبا والولايات المتحدة تقوم على أُسُس فلسفية تاريخية، لكنه يسعى لتوازُن المصالح في هذه العلاقات". إنها امتحانات صعْبة، الآنيّ منها والبعيد، أمام حزب كاد سنة 2003 أن يُحظَر ويُعتبَر حزبا إرهابيا، بعد أن حُمّل من طرف البعض "المسؤولية المعنَوية" لهجمات انتحارية استهدفت الدارالبيضاء، لكن يبقى أمامه أنموذج حزب مغربي بالإتجاه الأيديولوجي الآخر، أي الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كاد أن يُحظَر عام 1981 إلا أنه تولّى تدبير الشأن العام من سنة 1998 إلى 2002 واستمرّ شريكا بالحكومة، التي سيَرِثُها حزب بن كيران. مناهضو الحزب، يؤكدون أن مصيره "سيكون نفس مصير الإتحاد الاشتراكي"، الذي احتلّ المرتبة الخامسة بالإنتخابات الأخيرة، لأنه تماهى مع الحكومة وانشغل بها، فتاه مناضِلوه وانفضّ مِن حوله مؤيِّدوه، إلا أن السنوات الخمس القادِمة، ستظهر إن كان حزب العدالة والتنمية سيستنسِخ تجربة الإتحاد الاشتراكي، الذي قد يكون شريكه بالحكومة، أم أنه سيكون مثل صِنوه التركي، الذي يحمل اسمه؟ محمود معروف