يحذر الكاتب والمحلل البريطاني بيتر أوبورن في مقال نشرته صحيفة ديلي تلغراف من تدخل الغرب في الدول التي تشهد ربيعا عربيا، وقال إن التدخل لن يفضي إلى فوضى عارمة أو اندلاع حروب أهلية وحسب، بل أخطر من ذلك، وهو تقديم المبرر من جديد لصعود تنظيم القاعدة. وأشار إلى أن نتائج انتخابات تونس ومصر لاحقا قد تأتي بما لا يشتهي الغرب، ولكنه عليه أن يتعلم من دروس التدخل في الماضي. وحسب الكاتب، فإن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون اللذين كان لبلادهما الدور الأكبر في حملة حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي، قد يكونان معذورين حينما قالا إن الربيع العربي دخل على ما يبدو مرحلة مفعمة بالأمل بعد مقتل العقيد الليبي وإجراء أول انتخابات حرة في تونس مهد ثورات الربيع العربي. لكن بقدر هذا التفاؤل عليهما أن يشعرا بالقلق أيضا، ففي ديسمبر/كانون الأول المقبل تحل الذكرى السنوية العشرون "للربيع الجزائري" الذي بدا لوهلة أنه سيطوي صفحة طويلة من الديكتاتورية البغيضة بعدما أجرت السلطات أول انتخابات حرة. لكن تلك الانتخابات لم تجلب للجزائريين الخلاص الذي يداعب اليوم خيال ساركوزي وكاميرون، بل على العكس من ذلك، دشنت عقدا طويلا من الحرب الأهلية التي قضى فيها أكثر من 160 ألف جزائري وتجرع الجزائريون مرارات ومآسي لا تزال ماثلة حتى اليوم. ومع دخول الربيع العربي مرحلة جديدة، من الضروري أن نتساءل: كيف تحول ربيع الجزائر إلى شتاء قارس؟ هذا هو السؤال الأهم اليوم بالنسبة لدول الربيع العربي الراهن، لأن أوجه الشبه بين الحالة الجزائرية قبل عشرين عاما والحالة الراهنة في كل من تونس ومصر وحتى ليبيا متقاربة جدا. في العام 1991، كانت مشكلات الجزائر قد بلغت مستويات خطيرة عبرت عنها انتفاضة شعبية في ديسمبر/كانون الأول 1988 احتجاجا على تفاقم معدلات البطالة والفقر والحرمان، فعم السخط الاجتماعي والعنف في الشوارع. وقتذاك اضطر الرئيس الشاذلي بن جديد للدعوة إلى انتخابات، فسادت البلاد حالة من الأمل والتفاؤل، وانطلقت أحزاب المعارضة تعد نفسها للانتخابات التي عدت حرة ونزيهة بدرجة كبيرة وخرجت منها الجبهة الإسلامية للإنقاذ منتصرة. غير أن الجيش الجزائري المدعوم بقوة من فرنسا ووكالة المخابرات الأميركية (سي آي إيه) عاجل الجميع بأن ألغى نتيجة تلك الانتخابات وأية انتخابات مستقبلية وأعلن حالة الطوارئ وقيد حرية التعبير وحرية التجمع والتجمهر، فكانت النتائج كارثية. اليوم نقف أمام موجة جديدة من الانتخابات في دول شمال أفريقيا، بالأمس تونس وفي الشهر المقبل مصر، وبعد ثمانية أشهر ليبيا. قد تفوز الأحزاب الليبرالية في هذه الانتخابات كما يتمنى الغرب، لكنها لن تحقق نتائج قوية، ففي انتخابات تونس يستعد حزب حركة النهضة الإسلامي ليكون أكبر الأحزاب الفائزة، وتلك نتيجة لن تروق لفرنسا التي لا تزال تنظر إلى تونس التي استقلت عنها قبل 50 سنة كدولة واقعة في مجالها الحيوي. أما في مصر، فثمة انقلاب عسكري صامت مدعوم ضمنيا من الولاياتالمتحدة نجح نسبيا في فرملة التحول نحو الديمقراطية. فالانتخابات التي كانت مقررة الشهر الماضي تأجلت، وضرب الشهر المقبل موعدا جديدا لها. ورغم هذا، فالانتخابات واقعة لا محالة، وعندما تقع، فليس من شك في أن جماعة الإخوان المسلمين ستكون القوة المسيطرة. وفي تقديري فإن نسخة ما من الشريعة الإسلامية ستطبق على الأرجح في مرحلة ما في جميع أنحاء مصر. لننظر في المشهد الليبي، فمن المستحيل التكهن بوجهة الأحداث بعد مقتل القذافي، هناك أصوات كثيرة في الحكومة الانتقالية الجديدة تعكس في الحقيقة الرؤى الليبرالية والعلمانية للديمقراطية الغربية، لكن من الممكن جدا أن نجد عبد الحكيم بلحاج القائد العسكري الصاعد الذي عذبته المخابرات الأميركية في سجون سرية قد أصبح قوة رئيسية في الساحة الليبية، وقد يتحالف مع إسلاميين آخرين ويأخذون ليبيا في اتجاه على عكس ما ترغب أميركا وبريطانيا وفرنسا. ماذا عسانا نفعل؟ الجواب في اعتقادي هو أن نترك الأمور تسير دون تدخل. ففي هذه المرحلة، من الضروري أن نتنبه إلى وجود عدة روايات متنافسة لتفسير الربيع العربي، فالرواية الرائجة في الغرب تفسره بوصفه انتصارا للحرية والديمقراطية على طغمة من النظم الاستبدادية. هذه الرواية صحيحة في حد ذاتها، لكنها للأسف غير كاملة، فالنظم الأوتوقراطية المخلوعة كلها دون استثناء هي صنيعة الغرب أو ربيبته. فالرئيسان المخلوعان بن علي ومبارك وحتى القذافي في ليبيا كلهم كانت لهم ارتباطات بالدول الغربية، فأجهزتهم الأمنية غالبا تلقت تدريباتها لدينا، وأجهزة مخابراتهم تعاونت معنا وشركاتنا حققت أرباحا طائلة معهم. ذلك ثمة وضع متناقض خطير يتشكل في هذه اللحظات، فالربيع العربي كان دون شك انتصارا للحرية والكرامة ضد الاستبداد والقمع. لكنه كان في الوقت نفسه وبنفس القدر ثورة ضد الهيمنة الغربية على العالم العربي. لقد سعينا على الدوام لتجاهل أو تناسي هذه الحقيقة المرة، لكن القوى الثورية في مصر وتونس وليبيا واعون بهذا أشد الوعي. لهذا من الضروري بمكان ونحن نراقب انتخابات تونس أن نستذكر مأساة الجزائر، فإذا ما تحركنا ثانية لوقف تقدم الحركات الوطنية في شمال أفريقيا، فنحن لا نجازف فقط بإغراق المنطقة في الفوضى وأتون حرب أهلية، وإنما قد نتسبب في شيء أخطر ومدمر، قد نقدم المبرر لصعود جديد للقاعدة. الربيع العربي كان هزيمة كبيرة لأيديولوجيا العنف التي تبنتها القاعدة، فمجمل ثورات هذا الربيع أثبت أن التغيير نحو الأفضل يمكن تحقيقه بطرق سلمية وبأدوات ديمقراطية. أما إذا اخترنا التدخل لإحباط ذاك التغيير الديمقراطي، فإن الربيع العربي قد يتحول إلى شتاء قارس مظلم وطويل.