لعله من الصعوبة بمكان أن يضطلع أي محلل سياسي بمناقشة محدِّدات السياسة الخارجية الليبية، أو أن يبحث في دوائر اهتمام الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى! إبان حقبة الأخ العقيد، عميد الحكام العرب، ملك ملوك إفريقيا، أمير المؤمنين معمر القذافي! ولعل باقة الألقاب والمسميات التي خلعها القذافي على نفسه وعلى دولته تكشف لنا عن حجم العشوائية والارتجالية التي كانت تتسم بها الدولة الليبية طوال ما يربو على أربعة عقود من حكم الزعيم الفرد، الأمر الذي يجعل مِنَ المبالغ فيه أن نعتبر ليبيا دولة - أصلاً - بالمفهوم الحديث للدولة في أدبيات العلوم السياسية. القذافي... حينما تختزل الدولة في شخص: ويمكن القول: إن الخبرة الليبية في حقل السياسة الخارجية تمثل معضلة حقيقية للباحثين[1]؛ فحينما تتساءل: من الذي يخطط للسياسات في ليبيا؟ ومن الذي يتخذ القرار في السياسة الخارجية الليبية؟ ومن الذي يمتلك وصف المصلحة الوطنية التي تنطلق منها هذه السياسة؟ ومن الذي يغير ذلك الوصف في أي وقت شاء وكيفما شاء؟ فستجد أن الإجابة واحدة لكل الأسئلة السابقة، بل وغيرها من أسئلة الحكم والدولة؛ ألا وهي: معمر القذافي فقط لا غير. وحينما تختزل الدولة - أي دولة - في شخص واحد، تصبح دراسة هذا الشخص هي مفتاح الفهم لسياسات وسلوكيات هذه الدولة (الشخص) في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وهو ما يعرف في أدبيات السياسة الخارجية بأثر ودور القائد السياسي؛ لا سيما مع وصول هذا القائد السياسي إلى سدة الحكم في بلاده بأسلوب يحمل طابعاً دراماتيكياً؛ مثل انقلاب عسكري، أو ثورة شعبية، أو نصر انتخابي ساحق... الأمر الذي يجعل من هيمنة القائد السياسي على مجريات صنع القرار في دولته أمراً محتملاً بشكل كبير حتى في النظم الديمقراطية العريقة نفسها. وهذا ما حدث مع معمر القذافي الذي وصل إلى سدة الحكم في بلاده بانقلاب عسكري على الملك إدريس السنوسي عام 1969م، سمَّاه بثورة الفاتح من سبتمبر العظيم، متأثراً بتجربة انقلاب الضباط الأحرار في مصر، ومتخذاً من الرئيس جمال عبد الناصر قدوة وأسوة ونموذجاً للحكم؛ حيث كان القذافي ينظر إلى نفسه ويروج لحكمه داخلياً وخارجياً باعتباره زعامة كاريزمية تاريخية مستلهماً خطاب عبد الناصر الشعبي في معاداة الإمبريالية الغربية ورفض ممارسات الهيمنة على مقدَّرات الشعوب واستعمارها لبلدانهم بشتى السبل. ومن ثَمَّ فقد رفعت ليبيا القذافي أهدافاً ثورية شعاراتية لسياستها الخارجية خلال الفترة من 1969م وحتى 1992م، لعل أهمها: العمل على تحقيق حلم الوحدة العربية، ومقاومة الإمبريالية الغربية بكافة أشكالها، وملاحقة التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، ودعم النُّظُم والحركات الثورية في العالم الثالث. ثم انقلب الحال في أهداف السياسة الخارجية الليبية مع نهايات القرن الفائت عبر تفكُّك الاتحاد السوفييتي الذي كان يدعم ما يسمى بالنُّظُم الثورية في العالم الثالث وعلى رأسها نظام العقيد القذافي، وما تبعه من هيمنة القطب الأمريكي الأوحد على رأس النظام الدولي، ثم ضلوع ليبيا «الثورية» في تفجير طائرة بان أميركان فوق بلدة لوكربي باسكتلندا عام 1988م، وما أعقبه من فرض عقوبات دولية على ليبيا عام 1992م، ومن ثَمَّ فقد توجهت بوصلة القذافي منذ ذلك الحين باتجاه مغازلة الغرب (الإمبريالي)؛ فبدأ في الانفتاح التدريجي على القوى الغربية، التي طالما وصفها بالإمبريالية والاستعمارية، وصولاً إلى الانفتاح على الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، وتخليه طواعيةً عن برنامجه النووي الوليد وكافة برامج أسلحة الدمار الشامل، وتأكيده عبر تصريحات لابنه سيف الإسلام[2] أن بلاده لم تعد ترى في وجود إسرائيل دولةً تهديداً لأمنها، وأنها لم تعد تعتبر نفسها فى مواجهة مع إسرائيل. كل هذه التحولات الجذرية لسياسة ليبيا الخارجية، تؤكد لنا حقيقة مفادها أنه كلما اتسعت دائرة المشاركين في صنع القرار السياسي للدولة من حيث عدد الأفراد، ومن حيث أدوار المؤسسات الدستورية الفاعلة، كان ذلك دالة على تطور حقيقي في أداء النظام السياسي لتلك الدولة، ومن ثَمَّ فإن احتمالية النجاح للإستراتيجيات والأهداف السياسية تصبح أكبر من احتمالات الفشل والعكس بالعكس. وبما أن توجهات وسياسات ليبيا القذافي كانت وَفْق ما يتفتق عنه ذهن وقريحة الزعيم الفرد من أهواء، وما يراه من مواقف، وما يعتقده من مدركات تتسق ورؤيته للعالم، فقد ظلت السياسة الخارجية لليبيا دائماً خارج نطاق التاريخ، بل وخارج نطاق الجغرافيا أيضاً، وهذا ما يدفعنا نحو تحليل الاضطرابات الحاصلة في العلاقات الليبية مع محيطها الإقليمي إبان حقبة القذافي طويلة الأمد. سياسة ليبيا (القذافي) الإقليمية والدوائر الثلاث: يمكن تقسيم الدائرة الإقليمية للسياسة الخارجية الليبية إلى ثلاث دوائر فرعية، وهي: الدائرة المصرية، والدائرة المغاربية، والدائرة الإفريقية جنوب الصحراء، وكان تغير ترتيب دوائر الاهتمام في السياسة الخارجية للدول إنما يندرج تحت أربعة أطر نظرية طبقاً لتحليل تشارلز هيرمان[3] (Charles Hermann): الإطار الأول: ما يمكن وصفه بالتغير «التكيفي» Adjustment Change: ويعني التغير في مستوى الاهتمام بقضية ما مع بقاء أهداف الإستراتيجية وأدواتها تجاه التعاطي مع تلك القضية كما هي من دون المساس بها أو تغييرها. والإطار الثاني: وهو ما يطلق عليه التغير «البرنامجي» Program Change: وهو ينصرف إلى تغيير أدوات الإستراتيجية ووسائلها من دون أي تغيير في ما يتعلق بالأهداف أو الغايات المقصودة من ورائها. والإطار الثالث: ما يسمى بالتغير «الهدفي» Goal Change: وفي هذا النمط تتغير أهداف الإستراتيجية ذاتها ومن ثَمَّ تتغير أدواتها ووسائلها بالتبعية. والإطار الرابع: وهو التغير «التوجهي» Orientation Change وهو أكثر الأنماط الأربعة تطرفاً وجذريةً؛ إذ ينصرف إلى تغير يمس التوجه العام للسياسة الخارجية للدولة بما في ذلك تغير الإستراتيجيات وما يتبعها من أهداف وغايات ووسائل وأدوات. ومن ثَمَّ فإنه يمكن القول: إن سياسة القذافي الخارجية تجاه المحيط الإقليمي لليبيا متمثلاً في الدوائر الفرعية الثلاث سالفة البيان، إنما تندرج تحت النمط الرابع الأكثر راديكالية وهو التغير التوجُّهي، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تقلُّب المزاج العام للقذافي، وتأثُّر السياسة الخارجية لليبيا بهذا المزاج الحَدِّي الذي ينتقل من النقيض للنقيض بلا أية مبررات منطقية، ما بين السلم والحرب، والصداقة والعداء، والانفتاح والانغلاق... وهكذا. فبعد الانبهار والتأثر إلى حد المحاكاة والتقليد لنموذج عبد الناصر في مصر، تجد العداء والكراهية بل والشروع في عمل عسكري ضد خَلَفه الرئيس أنور السادات، ومِن تذبذب وعدم ثبات في العلاقات مع مصر في حقبة مبارك إلى دعم لمبارك أثناء الثورة المصرية بل وأسف وحزن على الإطاحة به وبحكمه، ومع شعارات الوحدة العربية ومحاولات الاندماج في أطر وكيانات عربية جامعة كالاتحاد المغاربي، فإنك تجد انحرافاً عن هذه البوصلة بدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، ومن ثَمَّ معاداة المملكة المغربية الأمر الذي جمّد من فاعلية الاتحاد المغاربي على مدى سنوات، وبعد صراع عسكري ممتد مع الجارة الجنوبية الإفريقية تشاد انتهى إلى تنفيذ حكم دولي بأحقية تشاد في إقليم (تيزى أوزو) المتنازع عليه، تتحول بوصلة القذافي مجدداً نحو الدعوة إلى إقامة الولاياتالمتحدة الإفريقية على غرار نموذج الولاياتالمتحدةالأمريكية، والسعي نحو تحويل منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقي ليكون نواة لذلك، وهو ما تحقق بالفعل في قمة سرت عام 2001م، تلك التي شهدت ميلاد الاتحاد الإفريقي مؤسسةً إقليميةً لحفظ السلم والأمن في القارة السمراء. الدوائر الإقليمية لليبيا ما بعد القذافي: والسؤال الآن: ما مستقبل السياسة الخارجية لليبيا ما بعد القذافي إزاء محيطها الإقليمي (الدائرة المصرية، والدائرة المغاربية، والدائرة الإفريقية)؟ هناك ثلاثة عوامل أساسية قد تكون حاسمة في تشكيل الإجابة عن تساؤل من هذا النوع؛ وذلك في ما يُعرَف بمفهوم التغير في السياسة الخارجية Foreign Policy Change للدول[4]، وهي: أولاً: مدركات وتصورات النخبة الجديدة الحاكمة (Perception of the new ruling elite) التي ستفرزها المرحلة الانتقالية الحالية وما بعدها، ومن ثَمَّ رؤية مكونات هذه النخبة الجديدة بشأن الدولة الليبية وقوَّتها المدركة (Perceived Power) ودورها في محيطها الإقليمي وحدود ذلك الدور، وكذلك رؤية النخبة الجديدة بشأن طبيعة النظام الدولي السائد International System وأطره ومكوناته وتفاعلاته وموقع الدولة الليبية من ذلك النظام وحدود التأثير فيه والتأثر به. وثانياً: البدائل الإستراتيجية المتاحة لسياسات الدولة الليبية الحالية - وهي التي ورثتها البلاد عن حقبة القذافي - ومدى ملاءمة تلك السياسات لتصورات تلك النخبة الجديدة ومدركاتها ورؤيتها على النحو سالف البيان. وثالثاً: ما يفرضه ذلك التغيير المراد من قِبَل النخبة الجديدة من تكلفة مادية ومعنوية ومدى قدرة الدولة على تحمُّل تبعات وضريبة ذلك التغيير. لقد انزاحت الغمة عن الليبيين بسقوط نظام القذافي المثير للجدل، وإذا كان الشعب الليبي قد استطاع أن يقتلع نظام القذافي بعد اثنتين وأربعين سنة من الحكم الديكتاتوري الفردي، فإن التحدي الحقيقي بالنسبة لليبيا وشعبها هو مرحلة ما بعد القذافي[5]؛ التي ستكون حاسمة في تحديد معالم الدولة الليبية من حيث هياكلُها ومؤسساتها وتوجهاتها الإستراتيجية، لقد ترك القذافي بلاده بلا دولة وبلا سياسة وبلا مؤسسات؛ إذ كانت السياسة الليبية (داخلياً وخارجياً) تدار بشكل شخصي، وعلى أهواء العقيد ومزاجه الحاد المتقلب... لذلك فمن المتوقع والمأمول خلال المرحلة الانتقالية أن ينعطف المجلس الانتقالي بعيداً عن شخصنة السلطة، وأن ينحو باتجاه مأسسة بنية الدولة الليبية بشكل هيكلي سليم وفعَّال، بما يمكِّنها من انتهاج سياسة خارجية متوازنة ومؤثرة في علاقاتها الدولية، قائمة على المصالح المشتركة بينها وبين محيطها الخارجي لا سيما دائرتها الإقليمية بتقاطعاتها الثلاثة. وأخيراً: فلا يمكننا في هذا الإطار إغفال دور الجوار الإقليمي لليبيا الثروة، لا سيما في دائرته المصرية، في توجيه بوصلة النخبة الليبية الجديدة نحو قضايا الأمة؛ وذلك لئلا تجنح بعيداً عن السرب، بما يصب في مصلحة المتربصين بالثروات الليبية الهائلة من النفط، وخاصة من قوى الناتو التي تريد أن تقبض فاتورة دعمها العسكري واللوجستي للثوار الليبيين على مدى شهور الثورة بدعاوى إنسانية زائفة تخفي وجه الغرب القبيح المتعطش لجني ثروات هذا البلد عبر ثورته وجهاده. إنه على مصر ما بعد الثورة أن تضطلع بدورها القيادي تجاه ليبيا بشكل خاص، وتجاه محيطها الإقليمي العربي والإسلامي بشكل عام، وإذا كانت مصر - باعتبارها قائداً إقليمياً - قد عانت حالة من الانحسار النسبي لدورها إبان حقبة مبارك؛ حيث تراجع حضورها على صعيد ملفات دوائر اهتمامها التقليدية على المستويات العربية والإفريقية ومن ثَمَّ الإسلامية، فإن الدور المصري - لا سيما مع تصاعد الأجواء الثورية الشعبية التي تعيشها المنطقة - لا يزال يحمل بريقاً خاصاً تجد صداه في نفوس كثيرين من أبناء الأمة الإسلامية بما يسهِّل من عبء الاضطلاع بهذه المهمة؛ إذا أرادت مصر ذلك. فلتكن البداية عبر البوابة الليبية المفتوحة على مصراعيها، ومن يطرق الباب يوشك أن يفتح له. .... [1] من الدراسات المتميزة التي طرحت كثيراً من الأسئلة البحثية حول معضلات السياسة الخارجية لليبيا في حقبة القذافي، ميلاد مفتاح ميلاد الحراثي، «قضايا التخطيط واتخاذ وتنفيذ القرار في السياسة الخارجية الليبية: أسئلة - والأجوبة الغائبة»، المجلة العربية للعلوم السياسية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، عدد 28، خريف 2010. [2] انظر تصريحات سيف الإسلام القذافي بهذا الشأن، الجزيرة نت: 8/1/2004م. [3] Charles Hermann: «Changing Course: When governments choose to redirect foreign policy», International Studies Quarterly, No. 34, 1990, p. 5. [4] Kjell Goldmann: Change and Stability in Foreign Policy, The Problem and Possibilities of Détente, New York, Harvester, 1988, p. 26. [5] انظر: أبرزالتحديات التي تواجه ليبيا في المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط القذافي: علي العنزي، «ليبيا ما بعد القذافي»، الحياة اللندنية: 27/8/2011م. وأحمد غلوم بن علي «تحديات ليبيا ما بعد القذافي»، السياسة الكويتية: 3/9/. 2011.