تحتاج الحرية المعاشة اليوم، إلى تقنين وفق سياسة عمومية، لمواجهة كل المشاكل التي يعانيها المجتمع، بسبب ذكاء الهروب من الالتزامات ومن العقاب وتخطي الأخلاق، فتمّ خلق منطقة زرقاء وعازلة، تتجاوز فيها السلوكات الفردية دائرة القيم والأخلاق، ولا تصل إلى درجة الاصطدام مع القانون الجنائي، ماعدا إذا تمّ رصد السلوكات بالتحقيق وتعميق البحث، وتمّت العودة إلى الأخلاق كمصدر لتحديد السلوكات المنافية مع الضمير المجتمعي. إن رقعة المعاملات بين الناس، أصبحت تعتمد على تغييب قواعد العدالة والالتزام، وتنظر فقط إلى قواعد الربح والخسارة، أو المستفيد والضحية، أي المستغِلّ والمستغَلّ، وهو ما فقدت معه الثقة، وطغت السلوكات والمعاملات غير المراقبة، والتي يتفادى من خلالها الأفراد، ترك الأثر لتفادي الاصطدام بين الحرية والحق و اللجوء إلى القضاء الجنائي. إن موضوع الشرف والكرامة، و الكلمة والعهد، لم يعد لها قيمة أمام التدفق الهائل لمفاهيم واحتياجات الحياة السيبرانية، والتي أصبحت معها الحرية غالبة على الحق، لدرجة لم يعد الحق المغلوب قادر على مواجهة الحرية، بسبب العلاقة بينهما المبنية على الثقة المخادعة. إن قواعد المعاملات السيبرانية استنسخت قناعات شبيهة، بقواعد المعاملات المعروفة في الأوساط الاجتماعية من قبل، لكنها مختلفة، ولا تعتمد على روابط وعلاقات مستقرة، بل تعتمد على منهج الكذب بدرجة أساسية، وتجاوزت بذلك الحدود الزمانية و المكانية و القانونية، ومردّ ذلك إلى تصدّع العلاقة بين الأخلاق والحالة المدنية ونمط العيش، بالإضافة إلى ظهور مواضيع ثقافية جديدة حلّت محلّها وليست لها قيمة معنوية. إن ازدياد ضعف الإنتاج المحلي، في مقابل هيمنة عولمة الإنتاج، وازدياد المنظمات السياسية، و موت الدولة القومية، خلص الأفراد من الانضواء تحت ضوابطها الرمزية والعقدية، كما أن ازدياد انتهاك نظام الشركات، وغياب مشروعات اجتماعية، كتوفير السكن و الرقابة البيئية و التجارة العادلة، في مقابل صمت المستفيدين، و تعالي أصوات المتضررين، غير الماسكين بقرارات التغيير…، هو ما خلق أجيال بعيدة عن الأخلاق، ولا تحتمي بالوطنية، لأنها تتأطّر خارج قوانين الدولة، وتتحاشى في نفس الوقت، فكرة الاصطدام بالقوانين الوطنية. إن سياسة مكافحة التفاوتات السيبرانية، مسألة ضرورية لكونها تتغذّى من السياسة، وتتذرّع بالانفتاح والاختلاف، لتنال المكتسبات المادية والرمزية، واختلط الأمر بين ماهو مشروع وماهو غير مشروع، من وجهات نظر أخلاقية وقانونية، فكانت البداية مع انتشار لعب الأطفال المتعدد الصناعة، وبشكل غير مسبوق. إن هناك إشكاليات متقدمة تمّ اغفالها، بدعوى جهل المواطن أو لبلادته، وينبغي طرح زبد العصر الفاسد للنقاش العمومي، والعدول عن بذل الجهد، لنيل تصفيق من وضعونا في مختبرات تجاربهم، ويراقبوننا ويغيرون اتجاهنا كلما أحسوا بتثبيت بوصلتنا في الاتجاه الصحيح، فقد سلبت منا العقيدة وحلّت محلها الحرية، بدعوى أنهما أخوين مثل ماهو الحال في الدول الغربية، في حين حصل العكس لكون الحرية في مجتمعاتنا، تحتاج إلى تأطير ومراقبة، وبسبب غياب سياسات عمومية تؤطر الروافد الثقافية السيبرانية، تاهت الحرية وتخطّت الحدود الأخلاقية، مع البحث عن ضمانات الابتعاد عن القانون الجنائي، حتى يتمّ تعميم الحياة السيبرانية المنافية، لقواعد الأخلاق التي تقاس بالضمير و العقل. فقد أثبت الواقع، أن الناس ليسوا متساوين في الشعور، و لا في الحقوق، ولا حتى المعاملات، لا تتم بروح الإيخاء كما جاء ذلك في الفصل الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. * أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بتطوان، ومنسق ماستر التدبير الاستراتيجي للسياسات العمومية الأمنية.