إذا تأملنا ما يحدث في الحملات الانتخابية التي نعاينها في مجتمعاتنا العربية أو في باقي المجتمعات الأخرى، فإننا نجد الأشخاص المرشحين للانتخابات السياسية يقدمون على بعض الممارسات والسلوكات التي نشمئز منها ونرفضها انطلاقا من القيم الدينية والأخلاقية التي نؤمن بها، وذلك من قبيل التزوير والرشوة والكذب والخداع واستغلال النفوذ، فهل يمكن اعتبار تلك السلوكات وما شابهها مقبولة ومشروعة من الناحية السياسية، وإن كانت مرفوضة من الناحية الأخلاقية؟ وهل يمكن فعلا اعتبار السياسة لعبة يجوز فيها استخدام جميع الوسائل، الأخلاقية وغير الأخلاقية، من أجل تحقيق الفوز على الخصوم السياسيين؟ وإذا تأملنا مثلا النشيد الوطني المغربي، فإنني نجده ينتهي بشعار "الله، الوطن، الملك". ومن ثم نجد فيه حضورا للبعد الأخلاقي والديني الذي يرمز إليه لفظ "الله"، إذ لا انفصال بين الدين والأخلاق، فقد جاء في الحديث النبوي: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". كما نجد فيه حضورا للبعد السياسي الذي يحيل إليه لفظي "الوطن" و"الملك"؛ باعتبار أن الوطن هو مجال ترابي يسكنه أفراد تجمع بينهم روابط ثقافية وقيمية من جهة، وروابط دستورية وسياسية من جهة أخرى. أما الملك فهو رمز للحكم وتطبيق مبادئ الحق والعدالة وتدبير شؤون المواطنين، وهي مبادئ ذات أبعاد أخلاقية وسياسية واضحة. وحتى ولو نظرنا إلى شعار بعض البلدان الأوروبية العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة، فإننا نجد أن شعاراتها الوطنية ترتكز على مبادئ تحمل دلالات أخلاقية وسياسية في الآن نفسه مثل: الإخاء والحرية والعدالة والمساواة. وهذا ما يدفعنا إلى إثارة إشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة، والعمل على محاولة تبيان التقاطعات والتداخلات القائمة بينهما. فحينما يدبر الحكام والملوك والأمراء والرؤساء ورجال السياسة عموما الشؤون السياسية للمجتمع، ما الذي يتحكم في تدبيرهم للشأن السياسي؟ هل يرتكز تدبيرهم على قوانين إدارية وتشريعية وسياسية لا علاقة لها بالقوانين الأخلاقية بتاتا؟ ألا يمكن القول بأن قوانين الإدارة والسياسة نفسها يراعى في وضعها جملة القيم الدينية والأخلاقية التي يؤمن بها أفراد المجتمع؟ وهل يمكن فعلا إبعاد الدين والأخلاق نهائيا عن مجال الممارسة السياسية؟ وهل السياسة لعبة للمكر والخداع ولا دخل للمنطق الأخلاقي فيها؟ ألا يؤدي استبعاد الأخلاق من السياسة إلى سيادة منطق القوة وجعل السلوك السياسي أقرب إلى الهمجية منه إلى السلوك الإنساني المتحضر؟ وحتى المجتمعات التي طبقت العلمانية وفصلت الدين عن الدولة، ألا يمكن القول أن أفرادها يؤمنون بقيم أخلاقية ويحتكمون إليها في حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية؟ وهل يمكن عزل الحياة الأخلاقية عن الحياة السياسية؟ ألا يمكن القول بوجود تداخل بينهما بحيث يعتبر الإنسان كائنا سياسيا مثلما هو كائن أخلاقي؟ لنحاول استقراء بعض المحطات من تاريخ البشرية، والنظر في بعض التصورات الفلسفية، وملاحظة بعض الوقائع والأحداث السياسية، في محاولة لمقاربة ومعالجة تلك التساؤلات الإشكالية في تداخلها وترابطها. يمكن القول إن كل من السياسة والأخلاق تعبر عن جملة مبادئ وقواعد يضعها الإنسان لتنظيم حياته الاجتماعية والسياسية. ومثلما قيل عن الإنسان أنه حيوان سياسي، فقد قيل عنه أيضا أنه حيوان أخلاقي. وقد تم تصنيف السياسة والأخلاق، منذ أرسطو، ضمن العلوم العملية التي تنظم المعاملات والسلوكات والعلاقات القائمة بين الأفراد داخل المجتمع. ويظل الهدف الأساسي من وضع القواعد الأخلاقية هو تهذيب السلوك البشري وتوجيه الغرائز وتنظيمها، من أجل الارتقاء بالإنسان من الحياة الطبيعية البهيمية المدمرة إلى الحياة العقلية الإنسانية الآمنة. فمنذ أن وجد الإنسان القديم نفسه مضطرا للعيش مع أفراد نوعه ضمن جماعات بشرية، وهو يجتهد في سن قوانين لتنظيم حياته الاجتماعية ووضع مجموعة من الحقوق والواجبات التي يتعين على كل فرد أن يتمتع بها أو يلتزم باحترامها. وهكذا فقد كانت هذه القوانين العرفية والأخلاقية بمثابة دستور سياسي يوزع الأدوار والمهام الاجتماعية بين الأفراد، ويحدد مختلف العلاقات القائمة بينهم. ويمكن القول بأن الكثير من هذه الأعراف والقوانين قد تحولت إلى نوع من الديانات الوضعية، إذ عمل الناس على اختراع إله ما ونسبوا إليه تلك الأفكار والمبادئ الأخلاقية من أجل منحها نوعا من التقديس والتسامي من جهة، وإلزام الأفراد بالامتثال لها من جهة أخرى. وحينما ظهرت الديانات السماوية، فإنها جاءت أساسا لنشر الأخلاق الفاضلة بين الناس ومنع الظلم القائم بينهم. وقد كان النبي يتصرف، بحكم السلطة الدينية والأخلاقية التي يتمتع بها، وكأنه حاكم سياسي يصدر الأوامر ويوزع المهام ويفض النزاعات التي قد تنشأ بين أفراد الجماعة المؤمنة. بل قد كان أمراء الجيش والقضاة والولاة في الإسلام فقهاء، فجمعوا بين الممارسة الفقهية الدينية والممارسة السياسية الدنيوية، أي بين الدين والدنيا وبين الأخلاق والسياسة. غير أنه مع مرور الزمن، وبحكم تعقد الحياة الاجتماعية وظهور النزاعات حول المصالح الاقتصادية والسياسية، بدأ يحدث انفصال على أرض الواقع بين الدين والسياسة، وبدأ معظم الخلفاء والأمراء يدبرون الشأن السياسي بمنطق المصلحة والمنفعة وتحقيق الفعالية والسيطرة على زمام الحكم. لكن بالرغم مما حدث على مستوى الممارسة الواقعية والفعلية من انفصال بين الدين والسياسة، فقد ظل الحكام مع ذلك يغلفون ممارستهم السياسية بمنطق أخلاقي وديني، بل استخدم الدين والأخلاق كوسيلتين لتحقيق المآرب السياسية. وإذا نظرنا إلى تاريخ المجتمعات الأوروبية، تبين لنا أن الكنيسة المسيحية كانت طيلة القرون الوسطى تحكم الناس باسم الدين والأخلاق. فقد اعتبر القساوسة والكهنة أنفسهم مسؤولين عن تطبيق تعاليم الإله على أرض الواقع، وهذا ما جعلهم يسيطرون على الناس ويسيرون شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية باعتماد الدين والأخلاق كوسيلتين في ذلك. وحينما نجمع هنا بين الدين والأخلاق، فلأن الفصل بينهما لم يكن ممكنا في العصور السابقة، إذ اعتبر الوحي الديني من طرف رجال الدين والعديد من الفلاسفة هو مصدر المبادئ والتشريعات الأخلاقية. وحتى بعض الفلاسفة القدامى، كأرسطو وأفلاطون، حينما نظروا للأخلاق بعيدا عن الدين، فهم مع ذلك لم يفصلوا فصلا نهائيا بين الأخلاق والسياسة، بل كان تنظيرهم للدولة وللقوانين السياسية يتم من منطلق فكري وأخلاقي واضح. فقد ذهب أرسطو مثلا إلى أن "الأمر الذي يميز الإنسان بشكل خاص هو كونه يدرك الخير والشر، والأمر العادل والجائر، وكل العواطف الشبيهة بذلك، والتي يكون التواصل بها مؤسسا للأسرة وللدولة".(كتاب السياسة) ومن هنا، وبخلاف الحيوانات غير العاقلة، فالإنسان حيوان سياسي يشرع لنفسه قواعد سياسية وأخلاقية ينظم بها العلاقات الموجودة بين الأفراد داخل المجتمع. ونحن نلاحظ هنا وجود تداخل بين القوانين الأخلاقية والقوانين السياسية، بحيث يصعب الفصل بينهما. فحينما يدرك الإنسان الخير والشر ويضع قوانين للتمييز بينهما، فهو يطبقهما على الأسرة والدولة معا. ومعنى ذلك أن المبادئ الأخلاقية تنطبق على الممارسة السياسية نفسها. وحتى أفلاطون نفسه ماثل بين الفضائل المتعلقة بالنفس والفضائل المتعلقة بالدولة؛ فقسم النفس إلى ثلاث قوى هي القوة الناطقة التي تتصف بفضيلة الحكمة، والقوة الغضبية التي تتصف بفضيلة الشجاعة، والقوة الشهوانية التي تتصف بفضيلة العفة، وكذلك فعل نفس الشيء في ما يخص تقسيمه للطبقات المكونة للهرم الاجتماعي للدولة؛ بحيث نجده يتكون من طبقة الذهب أو الحكام المتصفة بفضيلة الحكمة، وتليها طبقة الفضة أو الجنود المتصفة بفضيلة الشجاعة، ثم تأتي طبقة النحاس في أسفل السلم الاجتماعي وهي المكونة من العبيد وأصحاب المهن المختلفة ممن تكون مهمتهم هي العمل اليدوي لتوفير ما تحتاجه الجمهورية من مؤونة ومتطلبات بيولوجية عديدة. ومن هنا نلمس هذا الحضور القوي للفضائل الأخلاقية في قلب التنظير للممارسة السياسية. لكن مع البدايات المبكرة لعصر النهضة الأوروبية، سوف تظهر بعض الكتابات السياسية التي ستفصل بين الأخلاق والسياسة، وذلك من منطلق ما كان يجري على أرض الواقع من حروب وصراعات واستخدام للقوة المادية من أجل بسط الهيمنة السياسية. ويمكن أن نستحضر هنا الكتابات السياسية لنيكولا ماكيافيلي، والذي بنا الممارسة السياسية على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن «على الأمير أن يكون ثعلبا لمعرفة شبكة الفخاخ، ويكون أيضا أسدا ليخيف الذئاب.»(كتاب الأمير) ومن هذا المنطلق، فهو يبيح للأمير استخدام كل الوسائل من أجل تحقيق مطامحه السياسية والمحافظة على أمن الدولة واستقرارها، بما فيها الوسائل المنافية للقيم الأخلاقية كالكذب والمكر والخيانة. فما دام أن الناس ليسوا أخيارا في الواقع، فلا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادئ الأخلاقية في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة. وهكذا بين ماكيافيلي أن هناك أمراء في عصره أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم. وقد دعا ماكيافيلي إلى ضرورة استخدام الأمير لطريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية؛ الأولى تعتمد القوانين، بحيث يستعملها بحكمة ومكر ودهاء، وبشكل يمكن من تحقيق مصلحة الدولة، أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش، ولكن في الوقت المناسب. ومن هنا يجب على الأمير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في شبكة الفخاخ. وإذا كان التصور الماكيافيلي يضرب الأخلاق بعرض الحائط حينما تتعارض مع الأهداف السياسية التي يسعى الحاكم إلى بلوغها، فهو بالمثل قد يستخدمها كوسيلة لتحقيق تلك الأهداف. ومن هنا فقد يتظاهر الأمير بالورع والكرم وحسن الأخلاق في اللحظات التي يستدعي فيها الأمر ذلك، فتصبح الأخلاق في هاته الحالة بمثابة وسيلة لخدمة السياسة. وهذا يتماشى مع المبدإ الماكيافيلي القائل بأن كل الوسائل مباحة، سواء كانت أخلاقية أو غير أخلاقية، من أجل المحافظة على الدولة وتحقيق الغايات السياسية. وقد وجد هذا المبدأ السياسي الماكيافيلي صداه في الممارسات السياسية لمختلف الدول الحديثة والمعاصرة، سواء في أوربا أو غيرها من البلدان الأخرى. وإن كان قد تم تطبيقه بأشكال مختلفة وبحسب خصوصية النظام السياسي لكل بلد. ذلك أن مختلف الأنظمة السياسية، لاسيما في الدولة المتخلفة والنامية، تسعى دوما إلى المحافظة على نظامها السياسي وعلى الامتيازات التي تحظى بها الطبقة الحاكمة في البلاد، وهو الأمر الذي يجعلها تجد في "السياسة الماكيافيلية" ضالتها المنشودة؛ إذ تحتال على القوانين وتستخدم قناع الدين والأخلاق وتبرر قراراتها وممارساتها السياسية طبقا للأهداف التي تسعى إلى بلوغها، وهي أهداف تروم المحافظة على الوضع القائم. وإذا كانت الفلسفة السياسية الماكيافيلية ترتكز على مبدإ يتمثل في القول بأن الغاية تبرر الوسيلة، فإن هذا المبدأ يظل مشروعا إذا ما كانت هذه الغاية التي يتم السعي إلى تحقيقها غاية مشروعة من الناحية الأخلاقية والقانونية، خصوصا إذا كانت هذه القوانين ديمقراطية وتجسد الإرادة العامة للشعب. فإذا ما اضطرت الدولة مثلا إلى الزيادة في الضرائب على الأغنياء من أجل استثمار هذا الدخل الضريبي في تشغيل فئة من الشباب الحامل للشهادات والعاطل عن العمل، فإن هذه الوسيلة تظل مشروعة مادامت الغاية التي تسعى إلى تحقيقها هي مشروعة أيضا؛ إذ من حق هؤلاء الشباب الحصول على شغل يضمن لهم كرامتهم، ومن واجب الأغنياء وذوي الدخل العالي أن يؤدوا الضرائب للدولة حتى لا تزداد الهوة بينهم وبين الفقراء، وحتى يساهموا بأموالهم في حل بعض المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع. وإذا ما احتاجت الدولة إلى جنود يدافعون عن الوطن، فإنها يمكن أن تلجأ إلى وسيلة التجنيد الإجباري على أن يتم ذلك بمعايير متكافئة بين الفئة المستهدفة من أجل هذا التجنيد. ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة للزيادة المعقولة في الأسعار حينما يكون الهدف هو حماية الاقتصاد الوطني أو حماية خزينة الدولة من الإفلاس، على أن يوازي ذلك عدالة اجتماعية وتنمية اقتصادية مستدامة تمكن من توفير فرص الشغل والعيش الكريم. ففي كل هذه الحالات وغيرها، تكون الوسائل التي تلجأ إليها السلطة السياسية مشروعة مادامت الغايات التي تستهدفها هي مشروعة أيضا. لكن، وبالمقابل، إذا كانت السلطة الحاكمة تلجأ إلى وسائل لخدمة مصالحها الخاصة ولو على حساب حقوق المواطنين وكرامتهم الإنسانية، فإن هذه الوسائل لا يمكنها أن تحظى بالمشروعية مادامت الغايات والنتائج المترتبة عنها غير مشروعة في ذاتها. ولذلك فإن قمع رجال السلطة والأمن مثلا لتظاهرات سلمية وقانونية تطالب بحقوق المواطنين، أو تندد بأعمال غير مشروعة صدرت عن أفراد من الدولة أو عن جهاز من أجهزتها، لا يمكنه أن يحظى بالمشروعية القانونية والأخلاقية معا، اللهم إلا إذا كانت تلك التظاهرات غير قانونية أو تجاوزت نطاقها المسموح به، ومست بحقوق الناس وأمنهم وحرياتهم وممتلكاتهم. وهكذا، فإذا كانت الممارسة السياسية تتأطر داخل مجموعة من البنود والقواعد والقوانين الدستورية والتشريعية والسياسية، فإن هذه القوانين نفسها قد ارتكزت لأول مرة أثناء وضعها من طرف الشعب على قيم ومبادئ أخلاقية، سواء تعلق الأمر بأخلاق سماوية مستمدة من الدين أو بأخلاق وضعية اخترعها الناس وأصبحوا يؤمنون بها. ففي الدول الإسلامية مثلا نجد حضورا قويا للأفكار الأخلاقية الدينية في دساتيرها المنظمة لممارستها السياسية. وقد لا يتم تطبيق تلك التعاليم والأحكام الأخلاقية إلا بشكل نسبي على أرض الواقع، نظرا لتدخل المصالح الاقتصادية والسياسية، ولكن مع ذلك يظل الفكر الأخلاقي حاضرا في قلب التنظير للشؤون السياسية حينما يتعلق الأمر بالمجتمعات "الدينية" التي لم تعلن صراحة تطبيق مبدإ العلمانية، ولم تتبنى فكرة إبعاد الدين عن مجال الممارسة السياسية. وإذا ما تأملنا عملية الانتخابات السياسية التي تحصل في المجتمعات العربية والإسلامية، فإننا نجد أن المعيار الأخلاقي والديني يشكل أحد المعايير الأساسية المعتمدة في عملية اختيار المترشحين؛ فبالرغم من طغيان منطق المصلحة والمال والعشيرة، فإن التغيير الذي حصل في وعي الشباب العربي المعاصر جعله يلجأ إلى اختيار مترشحين يرى أنه تتوفر فيهم المواصفات الدينية والأخلاقية التي يؤمن بها. ولعل فوز حزب العدالة والتنمية في توركيا والمغرب، وفوز الإخوان المسلمين في مصر، وأحزاب إسلامية في بلدان أخرى هو دليل على صعوبة الفصل بين السياسة والأخلاق وبين السياسة والدين في الوعي العربي الإسلامي. فحتى البلدان التي يسود فيها النظام الملكي الوراثي، تستخدم الدين والأخلاق كورقة تراهن عليها من أجل ضمان استمراريتها على رأس السلطة السياسية. أما المجتمعات الغربية العلمانية، فإن إبعادها للدين عن الممارسة السياسية لا يعني إبعادها للأخلاق عنها؛ ذلك أن إبعادها للدين قد تم انطلاقا من ملابسات تاريخية معروفة، تمثلت أساسا في ما شهده التاريخ الأوروبي من استغلال بشع للدين من طرف الكهنة والقساوسة في القرون الوسطى من أجل السيطرة على الناس واستغلالهم. ولذلك فما حدث ابتداء من عصر النهضة، هو أنه قد تم إقصاء العقل الديني من أجل إتاحة الفرصة أمام العقل السياسي والأخلاقي لكي يشرع للناس القوانين والمبادئ التي من شأنها أن تمكن الناس من تنظيم وتدبير شؤونهم في الحياة. وهكذا فقد سعى فلاسفة التعاقد الاجتماعي، كروسو وهوبز وجون لوك واسبينوزا، إلى جعل الحق السياسي يتأسس على قيم طبيعية وأخلاقية مرتبطة بما ينبغي أن يتمتع به الكائن البشري بحكم طبيعته. فتحدث هؤلاء عن حقوق كونية ومشروعة، من قبيل الحرية والأمن والحياة والكرامة، تتأسس عليها أية قوانين سياسية متعاقد عليها. فجعلوا بذلك في أساس كل حق وضعي حقا طبيعيا محايثا له؛ فإذا كان مما يتنافى مع المبادئ الأخلاقية أن ألحق الضرر بحرية إنسان ما أو أهدده في أمنه أو أسلبه حياته أو أمس بكرامته، فإنه ستتم مراعاة هذه القيم والمبادئ الأخلاقية أثناء سن القوانين والتشريعات السياسية والقضائية. وهذا يدل على حضور الأفكار والقيم الأخلاقية أثناء التشريع للقوانين السياسية، مما يوضح التداخل الحاصل بين الأخلاق والسياسة حتى في المجتمعات المسماة علمانية. وقديما اعتبر الفيلسوف شيشرون أن قوانين الشعوب لا تمثل جميعها مبادئ الحق والعدالة، لأنها قد تكون من وضع الطغاة والمستعمرين. ولذلك نجده يسعى إلى تأسيس القوانين السياسية على مبادئ العقل الأخلاقي، إذ أن الحق الوحيد هو الذي يؤسسه قانون واحد مبني على قواعد العقل الأخلاقي السليم الذي يشرع ما يجب فعله وما يجب اجتنابه. ولذلك يرى شيشرون أنه «لن توجد عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة للعدالة»(كتاب في الجمهورية)، والمقصود بها هي تلك الطبيعة الخيرة التي تتمثل في ميلنا إلى حب الناس، والذي ينبغي جعلها أساسا للحق وللقوانين التي تسعى إلى تجسيده على أرض الواقع. ويذهب شيشرون إلى القول أيضا أنه «طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى»(نفسه). ومن هنا نجده يؤسس الحق تأسيسا عقليا وأخلاقيا، مما يؤشر على أن الأخلاق تمثل قاعدة ترتكز عليها التشريعات والقوانين السياسية. ولعل هذا هو ما جعل الفيلسوف هيجل حديثا يعتبر أن الدولة تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل الأخلاقي الموضوعي. فالدولة هي التحقق الفعلي للروح الأخلاقي باعتباره إرادة جوهرية وكونية. ومن واجب الأفراد أن يكونوا أعضاء في الدولة وأن يتعلقوا بها لأن في ذلك سموهم وعلو مرتبتهم؛ فلا يتمتع الفرد بوجود حقيقي وأخلاقي إلا بانتسابه إلى الدولة. ومن هنا فالحياة الأخلاقية للناس هي نفسها حياتهم السياسية؛ فإذا كان الإنسان يسن لنفسه تشريعات سياسية، فإنه يفعل ذلك من أجل تحقيق نوع من السمو الأخلاقي بذاته، ولكي يبتعد من خلالها عن الحياة الحيوانية والهمجية ويحتكم إلى قوانين عقلية تنظم علاقاته مع غيره من الناس، على أساس من الحقوق والواجبات المتبادلة. وهذا التداخل بين ما هو أخلاقي وما هو سياسي هو الذي جعل المؤرخ والعلامة ابن خلدون يرى أنه يجب على الملك أن يتأسس على الجودة والصلاح. ومن هنا يجب على السلطان أن يحقق لرعيته كل ما هو صالح لهم، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يلحق بهم السوء والضرر. كما يجب أن تكون العلاقة بينه وبين رعيته مبنية على الرفق والاعتدال في التعامل، لأن قهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن. (أنظر كتاب المقدمة) وهذا ما جعل ابن خلدون يؤسس الممارسة السياسية على خصلتين أخلاقيتين رئيسيتين هما الرفق والاعتدال. وكمثال على خصلة الاعتدال، نجد ابن خلدون يرى أن على رجل السياسة أن يتصف بالكرم كخصلة وسطى بين التبذير والبخل، ويتصف بالشجاعة كخصلة بين التهور والجبن. أما الرفق فهو خصلة تجمع في طياتها الكثير من القيم والصفات الأخلاقية كالتسامح واللين والمحبة والإيثار وغير ذلك. وهذا يعني أن تلك الصفات الأخلاقية مطلوبة في جميع الأفعال الإنسانية، بما فيها الفعل السياسي نفسه. ولهذا، فبالرغم من أن منطق الفعل السياسي غالبا ما يرتكز على أسس تتعلق بالمصالح السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، إلا أن التداخل الحاصل بين العقل الأخلاقي والعقل السياسي، بين قيم الأخلاق وقيم السياسة، يجعل وضع الدساتير والقوانين السياسية يراعي، أو يستلهم على الأقل، القيم الدينية أو الأخلاقية التي تؤمن بها الجماعة السياسية، كما يجعل الشعوب تحاكم رجال السياسة والحكم، بل وتغير الحكومات وتثور على الأنظمة السياسية، انطلاقا من مساسها وانتهاكها لتلك القيم الأخلاقية نفسها، وفي مقدمتها قيم الحرية والكرامة والحق والمساواة.