في كل ملف من الملفات التي تتعلق بالحريات الفردية، خاصة عندما يتعلق بشخصيات عمومية، أو مشهورة، يركن الكثير منا إلى الحل السهل؛ الحديث عن مؤامرة ضد المعنيين بالأمر، يزيد من حجمها متصيدو القضايا في ردهات المحاكم، ممن يلتقطون حالات خاصة من أجل تمرير مواقف شخصية، سياسوية تزيد صب الزيت على النار، ولا يهم أن تؤدي إلى إحراق المتابعين، أو المتهمين، مادام سيحقق في النهاية أصحابها "أهدافا" في شباك الدولة. لا يهم أن نغامر بحرية الآخرين ودفعهم إلى تبني مواقف معينة، مادام أصحابنا سيستغلون الفرصة لإدانة الدولة. طبعا مواقف العائلات والمقربين يجب تفهمها، لكن خارج هذه الدائرة نحتاج للكثير من اليقظة للتمييز بين التضامن الصادق، والتضامن المبني على الركمجة، التضامن المبدئي والتضامن السياسوي… وإذا كان ليس من المفيد التعليق على وقائع هي الآن بين يدي القضاء لتقييمها قانونيا، والنظر في مدى احترام قواعد المسطرة الجنائية للإجراءات المصاحبة للملف منذ لحظة الاعتقال إلى لحظة الإحالة على الجلسة للنظر في الملف، فلا بد هنا من التأكيد على ما يلي: لا يمكن إلا المطالبة بتمتيع الصحافية ومن معها بالسراح المؤقت، من منطلق حقوقي صرف يؤمن بقدسية الحرية، وبكون الإجراءات السالبة للحرية مهما كانت مستندة على القانون فهي في نظر الدستور، والاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان.. إجراءات "ظالمة" لأنها تمس أهم حق، وهو الحق في الحرية، خاصة أن رئيس النيابة العامة سبق له أن أكد في منشور له على ضرورة ترشيد الاعتقال الاحتياطي، وأن المسطرة الجنائية المغربية تفتح في العديد من موادها الباب نحو اعتماد إجراءات التدابير الوقائية، من قبيل المراقبة القضائية، كفالة الحضور، سحب جواز السفر..وهو ما يفتح الباب على أمل المتابعة في حالة سراح في حال طرح الأمر من الزاوية الحقوقية والقانونية. في كثير من الحالات يتم تعليل رفض طلبات السراح بخطورة الأفعال والمتهمين، ثم بانعدام ضمانات الحضور؛ وبالنظر إلى طبيعة الأفعال المتهمة بارتكابها الصحافية ومن معها، فهي لا يمكن تكييفها بأي حال من الأحوال على أن لها خطورة على المجتمع أو الدولة، خاصة أن المجتمع والدولة ناقشا معا ولو بشكل غير قوي مضمون الأفعال المتهمين بها، العلاقات الجنسية الرضائية ثم الإجهاض أو الإيقاف الإرادي للحمل، على اعتبار أنه قرار شخصي يتعلق بطرفي العلاقة، ولا يهم المجتمع في شيء، كما أنه لا يمس قيمه، سواء الحضارية أو الدينية المتفتحة، بل على العكس من ذلك. كما أن المتهمين لهم كافة ضمانات الحضور: صحافية، وأستاذ جامعي-ناشط حقوقي مشهود له بحب المغرب. اعتماد قرينة البراءة كأصل، ومنطلق في الملف، وكمبدأ نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي اعتبره أحد شروط المحاكمة العادلة، والدستور في ديباجته ومختلف مواده، ثم المسطرة الجنائية التي أكدت على هذه القاعدة الحقوقية والقانونية. وقرينة البراءة تتلازم مع الحرية، وتعزز مطلب الحقوقيين والديمقراطيين في أهمية متابعتهم في حالة سراح. وننتظر بت المحكمة في الملف والقناعة التي ستشكلها انطلاقا مما سيروج أمامها، ومن التصريحات التي ستستقيها من المتهمين، ومن وثائق الملف وما سيطرحه الدفاع من دفوعات في إطار مهمته. إلى جانب هذين النقطتين، ودون الدخول في تفاصيل المحضر والتصريحات المنسوبة للمتهمين، التي تظل ردهات المحاكم هي الأولى بمناقشتها، فلا يمكن من جانب آخر إلا أن نسجل الملاحظات التالية: إن أي توجه نحو إعطاء الانطباع وكأن الملف محسوم التوجه فيه قضائيا هو ضرب لاستقلالية القضاء، ويدخل في باب تبخيس جهاز نحن في أمس الحاجة إليه، كجهاز مستقل، واستقلاليته هي كلية عن الدولة وباقي السلط، وعن عدم التأثير عليه، سواء لهذا الاتجاه أو ذاك، بل هي لحظة توجب تعزيز الثقة فيه، وفي الهيئة التي ستنظر في الملف. إن محاولة التصعيد الإعلامي أو الخروج بتصريحات إعلامية، سواء منها للبحث عن "البوز" الإعلامي، أو الضغط، والتهييج… هي كلها تصريحات لن تفيد الملف في شيء، ولن تسعف في خلق الأجواء الضرورية لمحاكمة عادية، عادلة، بل سيتم خلق شروط غير طبيعية، فيها الكثير من الاصطدام، والتوتر، ولن يكون ضحيتها إلا المتهمون. إن هذه اللحظة هي لحظة القطع مع ازدواجية الخطاب والمواقف، هي لحظة العودة للنقاش الذي كانت المنظمات الحقوقية قد فتحته، وانخرط فيه المجلس الوطني لحقوق الإنسان. ويكفي التذكير هنا بموقف رئيس الحكومة السابق من قضايا الحريات الفردية عندما طرح القانون الجنائي للمناقشة سنة 2015. هناك تسجيل صوت وصورة لموقفه من الحريات الفردية في ندوة نظمتها الحركة الشعبية بمراكش، وكيف وجه مدفعيته نحو الحقوقيين ونحو المجلس الوطني لحقوق الإنسان آنذاك. هذه الازدواجية في المواقف حان القطع معها، ليس لصالح الحريات فقط، بل لصالح التيار الديني، المحافظ حتى لا يثار معهم في كل مرة هذا النقاش، وحتى يتقدم المغرب في هذا الباب نحو صون الحقوق وتعزيزها. طبعا هنا لا أدين المتهمين، بل الملاحظة موجهة للتيار الديني المحافظ بالمغرب للتخلص من ازدواجية العباءة، والخطاب، واللسان. يجب تحديد "العدو" بذكاء، فالمواجهة ستكون خاطئة لو وجهت ضد النيابة العامة، أو ضد القضاة والقضاء.."العدو" إن جازت التسمية هي النصوص القانونية الجنائية التي تجرم الممارسات التي تدخل في باب الحقوق الفردية، بل موضوعها هو الفرد نفسه وحريته الشخصية، ما دام أن شرطي الإكراه والتهديد منتفيان فيهما. لا يمكن الاتفاق مع من يروج لأطروحة عدم المطالبة بالحرية للصحافية فقط لأن عمها هو أحمد الريسوني. هذا المنطق خاطئ، إذ وجب التمييز بين السجال الذي قد يكون معه ومع مواقفه المتناقضة، وبين الموقف المبدئي من الحرية عموما والحريات الفردية خصوصا، لأن منطلقينا مختلفين، ولأن مشروعهم يعتمد على مجتمع النفاق، ونحن نريد مجتمع الوضوح والحرية المسؤولة. النقاش الذي تفرع عن الملف كان متوقعا، وفي تفاصيله لا يمكن القبول بانتهاك الحقوق والحريات.