الدم خارج الجسد، الدم داخل الجسد، تلك هي الحدود الخرافية لقارة الإنسانية. يختصر هذا السائل العجيب كل حكاية البشر على هذه الأرض. الدم واحد، الدم متعدد، دم نبيل ودم وضيع، دم للحرب ودم للسلم، دم للاحتفال ودم للصراخ، دم لاستعادة الدم ودم للثأر للدم، دم للبكاء على الدم ودم للفرح بالدم. دم يعتلي صهوة دماء أخرى، ودم يبحث عن موطئ قدم كي يكون له لون. دم بلا ذاكرة ودم تعذبه الذاكرة. دم يكتمل خارج شريانه ودم يضيق به شريانه. دم لا قبيلة له، دم مفرد أعزل، ودم يمشي بألف قدم ويشرئب من ألف رأس. دم يبحث عن أتباع ودم يحارب الظلال. دم يشهد ودم لا شهود له. دم يبرئ ساحة امرأة ودم يدين أخرى. دم يراوغ، ودم يسكن المستقيم. دم يوحد ودم يفرق. نبتت طفولة البشرية من الدم وبالدم اختار التاريخ أن يكتب فصوله الكبرى. أن تعي دمك مغامرة وتورط، تلبس بمعنى، وقوع في شرك الانتماء، توقيع ممهور بحمرة قاسية تضعك حيث يشاء الدم. أن تنكر الدم، أن تقرر في لحظة أنه لا لون لدمك، معناه أن تعلن حربا تواجه فيها كل الذين سكنوك على غفلة منك. أن تحارب دمك يقتضي منك بشكل ما أن تسفح دمك لاستعادة دمك المسروق منك. يومياتنا مشاهد دم: نستيقظ وفي يدنا سكين تقطر دما، الدم أحمر يفور كأنه ما يزال يتكلم، لا أثر لجرح فينا ولا أثر لجثة في الجوار، ليس هذا هو المريع، المرعب حقا هو أننا نتوجه بتثاقل للمغسلة ثم نتناول فطورنا وبعينين نصف مغمضتين نتابع أخبار الحياة على جريدة. الثقافة التي تمجد القتل تحت أي عنوان تكتب للدم معنى يقع خارج حدود الجسد، في تلك المساحة المتوترة حيث الدم دائما ضريبة، هبة، قربان، رشوة، حجاب. في مجتمعنا اليوم تُكتب حضارة دموية، تقدم العنف كشطارة حياة، والركض فوق جسد الإنسانية كتمرين رياضي. مشاهد الدم بأسلوب الضخ المتكرر تفقد الدم لونه وتستبيح جلاله. للوطن دم وللأرض دم وللفكرة دم وللدين دم. والثقافة التي تتعلم صناعة الخنجر وشحذ السكين، سكين اليقين الزائف أو سكين الحاجة أو سكين العبث هي ثقافة تتمرن على القتل وتستبيح حرمة الحياة، إنها تحارب الله وتحارب كل معنى يسند الوجود. في الوطن عيون فقدت قدرتها على الإبصار، عيون لم تعد ترى دم الوطن النازف ولم تعد تبصر دم معان كانت تُعطي للحياة قيمة، ودم إنسانية تسلخت قيمها لترتفع أسهم إفلاس شمولي. الدماء المستباحة في الطرق والثقافة والسياسة والاقتصاد، تذكرنا بقولة نيتشه: «أبدا لا يُعَاقَبُ المرء بعنف، إلا بسبب فضائله». سيتحدثون كثيرا عن الجريمة، سيصفون شناعتها وسينصبون المقاصل ويشحذون الحافات لمن يسمون بالمجرمين، لكن لا أحد سيلتفت لمعنى الدم، المعنى الذي يُصيب الحياة بالسرطان. الحروب والجرائم هي تطبيقات عملية لمعاني الدم في كل ثقافة. دم يُراق على دم أريق وحتى في حالات الانتحار، فالدم هنا حاضر، دم يغادر مرعوبا من فقدان الدم لمعناه، حالة العبث واللامبالاة التي يعيشها مجتمعنا الذي يرهقه إفلاس المعنى هي أيضا حالة تدعو الدم لكي يغادر الجسد ويغادر الحياة. إفلاس المعنى صنع انتحارا آخر حيث الدم يبقى، ولكن بدون معنى. لون الدم هو لون الداخل، لون الحركة، لون نقل مفردات الحياة، خارج الجسد لا معنى للدم، خارج الجسد، تفقد الإنسانية وطنها. [email protected]