ينبغي أن نكون ممتنين لكل الذين كشفونا أمام أنفسنا، لقد وفروا علينا وقتا طويلا، كنا سنقضيه مرتجفين في انتظار الخريف. السياقات التي يتسيد فيها مديح يفقأ عين الحقيقة، هي سياقات تعطل صلتنا بالحياة، الحياة التي صارت تمرينا صعبا، حتى أن الناس صاروا مضطرين لبذل مجهود كبير لإقناع أنفسهم بأنهم أحياء، هم يعيشون بالرغم منهم، إنهم يعيشون حياتهم كعقاب. إن الشيء الوحيد الذي يبقيهم أحياء هو السؤال التالي: لماذا نعاقب؟ ولأنهم يدركون خطورة السؤال، فهم يكتفون بطرحه على أنفسهم، هكذا يتحولون بالتدريج إلى مجرمين، يوقظون أنفسهم كل صباح ويجلدون أنفسهم بالحياة. تحارب الدولة بإخلاص منقطع النظير كل الذين يكشفونها ولا تكترث لإفلاس سوق المعنى. هي تتحجج بانشغالاتها بسداد الديون ومراودة احتمالات الرغيف، لا وقت للمعنى تحت سماء اقتصاد يرهقه لهاث الحاجة رهقا. لا وقت للمعنى والأرض تميد تحت أرجل الساسة، في سياق تدافع سياسي لا تُبقي فيه المناوشات ولا تذر. تعرت روح هذا البلد ولا شيء يعريها أكثر من تشقق الجسد. شقوق الجسد تحدثها الحاجات، غير أن الحاجة صارت عاهة مستديمة، قدرا يسحل كل الجسم السياسي والاقتصادي والثقافي، وفي هذا الجو من الإفلاس في العقل الإبتكاري يصبح الإفلاس عنوان حضورنا من باب النوايا الطيبة إلى باب الحقائق المفجعة. ولأن الموت مرآتنا العميقة، يتصور القادة موتهم السياسي على هيئتهم، لاشيء غيرهذا يبرر خوف بعضهم من ذلك الموت السياسي فيحرصون على البقاء أحياء سادة للمشهد حتى لو كانت تلك السيادة، في صورة ممسوخة تدعو إلى الرثاء. في تاريخ كل سياسي ثمة دائما زمن يتوجب عليه فيه أن يمارس شرف الاعتزال. السياسة هنا تشبه الرياضة، لكن هناك من السياسيين من يأتي في الصفوف الأخيرة لأنه ظل مصرا على الركض. البقاء لمجرد البقاء حقنة تضخ الحياة في عمر المهزلة وتطيل أمد حياة تعوزها الدلالة. أوجه إفلاس المعنى تسكن كل تفاصيل حياتنا. السياسة فقدت نبلها وتعرت من جوهرها الابتكاري، من منزعها لتكون إبداعا في تدبير شؤون الدولة لتتحول بشهوة ذوات مريضة لحركات بهلوانية لا مرجعية لها، سياسة تنتصر فيها الأمزجة وتتراجع البرامج لصالح سياسة أبوية تتغذى على هواجس براغماتية، تشظي المجتمع وتعرقل تبلور رهاناته وتصنع سياسة لا مكان فيها لمصلحة وطن يعارك تحدياته. إفلاس معنى السياسة ينسرب لامتداداتها، يفقر مفهوم الدولة ويحول المواطنة إلى فكرة لا جذور لها في الواقع، إنه يصنع جريمة تبطش بالعمق الذي يشكل جوهر الدولة ومناط وجودها وينهش صورة الأحزاب وقدرتها على التطور حتى أن الحزب الذي يتجدد باستمرار، بات يتشكل من الأشخاص الذين لا يتحزبون. يمتد إفلاس المعنى ليسكن علاقتنا بالمؤسسة فكرا ووجودا. فلم يفرح هذا البلد بتراكم الإنجازات، ولم يقطع الحبل السري بين الشخص والمؤسسة. حالة التماهي بين الأشخاص والمؤسسات أدخلتها في مفردات الإرث وامتدادات السطوة العائلية وهي ثقافة ما تزال الدولة تغذيها تحت سقف أبوية مستفحلة بهوية مغلقة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها. من المعنى يرضع الوطن وجوده والمواطنون مبرر حياتهم حين يفلس المعنى، تفقد الخارطة ملامحها وتتحول الهوية إلى شكل من أشكال الاعتقال، ليتسيد قمع، يسلب الوجود معناه. صناعة الإفلاس قمع خفي لايحمل اسما، ديكتاتورية ماكرة، تُسَوق كنوع من الإرهاب الذكي، ذلك الذي يصنع سلوكك بالليل ويقنعك بأنك لبسته طواعية في أول النهار.