أخذت مقعدي بمطعم مختبئ تحت أشجار الأرز، التقطت أذني نَغَمًا شجيا لأغنية شعبية يرسلها مذياع لزبون يجلس بمحاذاتي! كما لفت انتباهي زبون آخر يترنح على مقاطع أغنية تَنْبَعِثُ من آلة تسجيل وضعها أمامه. وبين الفينة والأخرى، تتوالى المفاجآت، إذ يلج المطعم زبائن يحملون إما مذياعا أو هاتفا محمولا يحمل مقاطع موسيقية. سألت النادل: ما الذي يجري؟ أجاب: في البداية سمح صاحب المطعم لزبون ألح على سماع أغنية من مذياعه الخاص، فقلده باقي الزبناء، اضطر بعدها للإذعان مخافة كسادٍ يُصيب المحل!! وها أنت ترى !! ارتفعت الأغاني المتنافرة بتنافر الطّباع، وتكلمت بصوت واحد، وسمح البعض لنفسه أن يرقص ويَزْعَقَ بلا حسيب ولا رقيب !! بدا لي المشهد غريبا، لكنني سرعان ما تقبلته، إذ رأيت المشهد ذاته يتكرر في أماكن أخرى. في قبة البرلمان لا أحد يُصيخ السمع لأحد، إذ يتكلم الجميع في آن واحد، ولا أحد يحترم أحدا، ولا أحد يترك لأحد قسطا من النوم والراحة آناء العصر !! وقد يسْتَفِزّ أحدهم السائل، فينصرف الجميع عن الإنصات للجواب إلى سماع السِّبابَ وينقطع الإرسال !! ورأيت الشيء نفسه كذلك في مشاهد الحركات الإصلاحية، التي تتكلم لغات متباينة، وتسير قطارات الترميم في التوقيت نفسه على سكك متوازية لا تلتقي ولن تلتقي أبدا، ولا يقوى أحد على إسكات أحد، إذ هناك الدستور، وهناك حقوق الإنسان، وهناك العولمة، وكلها ثوابت شكلية واجبة الاحترام !! في الثقافة والرياضة والاقتصاد والسياسة والعدالة، نماذج متكررة للمشهد الذي عاينته في المطعم إياه، ومن باب العنت والتحدي يرفع أحدهم من صوت المذياع، فيجيبه جَارُهُ بالأسلوب ذاته، فلا يقلق أحدٌ أحداً. ففي الوقت الذي يَسْتَمْتِعُ فيه الزبناء بأغانيهم، يقدم النادل المأكولات والمشروبات بخفة، في المقابل تنفرج أسارير صندوق المطعم بوفرة المداخيل !! لم أدر كيف استطعت تقبل هذا الضجيج الذي سيّجني من كل جهة، فقررت البقاء لبعض الوقت بالمكان، ربما، لمعاينة فوضى منظمة تحقق لكل من هؤلاء نزواته ومصالحه فلا يتضايق منه الآخر، وربما لأننا نحيا فعلا وسط هذا الضجيج المجتمعي الصاخب بشكل يومي، فقد سيطرت آلة النطق على آلة السمع بإحكام !! ناولت النادل النقود، التي ألقاها في جيبه دون تفحّصٍ، وقال: قلدتنا المطاعم المجاورة، ولو مررت بمحاذاتها لرأيت العجب !! غادرت المطعم، ملقيا نظرة على باقي المطاعم، حيث أغلب الزبناء ينصتون إلى أغانيهم هانئين راقصين، حالمين، لا مبالين، عقول غائبة مع اللحن الشجي، إذ لم تتأثر الآذان باختلاط الأنغام والأصوات والألفاظ، هم يصلون إلى درجة الإشباع مهما بلغت الفوضى مداها، فالكل مستفيد!!
رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]