في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. «أنا روح في الربى أشذو بلحني وهي نفس ذات أحلام وحسن قد سباها ما سباني في تمني و هواها من هوى أنغام فني إنها ملهمتي في كل آن و أنا ذكرى على مر الزمن ساهر أهذي بها دون الحسان» كلمات غناها الراحل الرقيق أحمد الغرباوي ذات زمن فني جميل، وخلدته في الذاكرة الفنية المغربية. إن سأل محبوه عنه، فهو بالتأكيد نفس من «إنها ملهمتي» وسحر من الإيقاعات الحليمية وعبق من القصيد الذي يجد ألقه في الإيقاعات المغربية الأصيلة. وبين هذا وذاك هو«السي أحمد» الفنان المتألق الذي كانت لا تعوزه الدعابة ولا تخونه الابتسامة للتأثير على محاوريه. في كلماته طفل يتوارى خلف الشهرة والأبوة، وفي ابتسامته الأمل كل الأمل. وعلى الرغم من الأغاني الكثيرة (400 أغنية) التي لحنها وغناها المطرب الراحل أحمد الغرباوي على امتداد أكثر من 57 سنة من العطاء، فإن لأغنية» إنها ملهمتي» تأثيرا خاصا على مسار الغرباوي، إلى درجة جعلت اسمه رديفا لأغنيته التي عشقها وحفظها أغلب المغاربة وتعلق بها عشاق الستينيات وعذارى السبعينيات. في مساره الفني الطويل، ظلت أغنية «إنها ملهمتي» السر الذي احتفظ به الغرباوي حتى مماته، فقد سبق له أن أكد في حوار سابق مع إحدى اليوميات المغربية- قبل سنتين- أن أغنية «إنها ملهمتي» تغنى بها تعلقا بفريق «سطاد الرباطي» الذي كان أحد أنصاره الغيورين عليه، إذ كان لا يتردد في غناء القطعة في كل فوز للفريق. وعلى الرغم من تأكيده تعلق الغرباوي بفريق سطاد الرباطي، فقد نفى المطرب الكبير وصديق الفنان الراحل عبد الواحد التطواني صحة ذلك بالقول: «أغنية «إنها ملهمتي» قطعة عاطفية صرفة يحتفظ مؤلفها أحمد نديم، الذي كان يشغل منصب مدير مدرسة المغرب العربي بالرباط، بأسرار نظمها، وما يمكن قوله في هذا الصدد أن الأغنية كانت ضمن قصيدة مطولة تضم أكثر من ثلاثين بيتا شعريا وقد اختار كلماتها إدريس العلام وعبد الكريم بوعلاكة، قبل أن يتم الاحتفاظ في الأخير بعشرة أبيات فقط. هذه الأغنية التاريخية التي خلدت صديق عمري السي أحمد الغرباوي لي معها ذكريات خاصة». ذكريات، يقول عنها عبد الواحد التطواني: «أغنية «إنها ملهمتي» لحنها لي الغرباوي لأغنيها وتمرنت عليها رفقة الجوق الملكي، وقد صادف يوم التسجيل سفري إلى مدينة مراكش، فاضطر الغرباوي- في ظل تأكده من غيابي- رحمه الله إلى غنائها بنفسه، فأبدع فيها أيما إبداع بشكل فني أصيل». وفي تعليقها على العلاقة المميزة التي تجمع الراحل أحمد الغرباوي بالأغنية الشهيرة، ذكرت لطيفة بوكرين أرملة الراحل أن «أغنية «إنها ملهمتي» كانت عشق الغرباوي ولا يتردد في التغني بها». وأضافت أنه في اللحظة الأولى التي تعرفت عليه، طلبت منه أن يغني لها قطعة «إنها ملهمتي»، ومنذ تلك اللحظة انطلق المسار العائلي إلى حين وفاته السنة الماضية». و يحكي المطرب عبد الواحد التطواني أن للإذاعي محمد ريان دورا مهما في انتماء الغرباوي للمجال الفني، بمساعدته في تسجيل أول قطعة له في الثالث والعشرين من شهر يناير من سنة 1958 بعنوان «بيضة ومزيانة»، قبل أن يسجل في العام ذاته أغنية «هي هي»، كما سجل أغنية «غريب» على آلة العود فقط. في سنة 1962 سجل المطرب أغنيتي «إنها ملهمتي» و«واد سوس»، وبعد ذلك بسنة واحدة غنى قطعة «حكاية رسالة» رفقة مجموعة الجوق الوطني. هذه السنة كانت أساسية في مساره، إذ سجل فيها العديد من القطع، من بينها أغنية «لا تقبلي» و«بلغوها» و«وفاء» و«فين عذابي»، وفي سنة 1964 غنى أحمد الغرباوي قطع» عد يا حبيبي» و«يا هاربا مني»، وفي سنة 1965 غنى أجمل أغانيه التي حملت عنوان «أماه»... عرف الغرباوي بكونه أحد الفنانين المحبوبين لدى الحسن الثاني، ومن فرط ثقة الأخير به- تحكي مصادر- أنه كان يكلفه بمرافقة العندليب الأسمر في جولاته بالرباط. وذات يوم اقترح عبد الحليم أن يأكل في أحد المطاعم الشعبية، فاختار الغرباوي أن يطعمه أكلة خفيفة من سمك السردين، وما أن انتهى العندليب من أكل الوجبة حتى شعر بألم حاد في معدته جراء هذه الأكلة، قبل أن يحمل عبد الحليم للمستشفى لغسل أمعائه، ونتيجة لذلك، تعرض أحمد الغرباوي لعتاب خفيف من لدن الملك الراحل الحسن الثاني. ومن الأشياء المميزة للفنان الغرباوي الذي لم تفارقه الابتسامة إلى حين وفاته، أنه كان يغني قطعة «إنها ملهمتي» أمام الملك الحسن الثاني، كما كان يقلد عبد الحليم حافظ في أغانيه، دون نسيان الإشارة إلى أن الراحل شهد انقلاب «الصخيرات» الذي حوصر فيه إلى جانب فنانين مغاربة وعرب. «أنا روح في الربى أشذو بلحني وهي نفس ذات أحلام وحسن قد سباها ما سباني في تمني و هواها من هوى أنغام فني إنها ملهمتي في كل آن و أنا ذكرى على مر الزمن ساهر أهذي بها دون الحسان»