في مثل هذا الشهر، قبل اثنين وعشرين عاما، رحل محمد خير الدين، الطائر النادر الذي حلق سريعا في سماء الكتابة، قبل أن يضرب بجناحيه في اتجاه ذلك "القطر المجهول الذي من بعده لا يعود أحد"، كما وصف شكسبير الموت في إحدى مآسيه. ابن تافراوت المتمرد لمع مثل برق، ثم اختفى كأنه لم يكن. رغم كل هاته السنوات، مازال صاحب "النبّاش" يحتاج إلى من يزيل التراب عن كنوزه المطمورة، إذ يظل الكاتب شبه مجهول لدى قارئ العربية ومحدود التداول بين قرّاء الفرنسية، رغم أنه ترك روائع في الرواية والشعر والمسرح. خزانة مدهشة من الكتب التي انتزعت إعجاب الأوساط الأدبية الفرنسية، لدى صدورها، وبوّأته مكانة مرموقة بين الكتّاب الفرانكوفونيين، لدرجة جعلت الروائي الجزائري الكبير محمد ديب يقول عنه: «إنه الأكبر بيننا»، كما احتضنه سارتر في مجلة «الأزمنة الحديثة»، بعد أن أعجب بأسلوبه الذي يشبه مزاجه الحاد، وخصّص له راتباً شهرياً، وهو من أطلق عليه لقب «الطائر». ومازال البعض يتذكر نظراته المتقدة وحركات يديه المتوترة وهو يتحدث بلكنته المميزة، عن الكتابة والحياة، عند برنار پيڤو، أيام كان المرور من برنامجه الشهير «أبوستروف»، حدثا أدبيا. كان صاحب «أسطورة وحياة أغونشيش»، يقف في المشهد الأدبي بقبعة رامبو وجلباب "دّا احماد"، ويحرث لغة بودلير في أسلوب مدهش، مستنداً إلى ذاكرة متقّدة، مشحوذة بالأحلام والصور، كأنه يحمل رسالة غامضة تشرّد حياة كاملة من أجلها. كان مراهقا عندما أدهش أساتذته بالقصائد التي نشر في جريدة "la vigie marocaine"، أشعار محبوكة على الطريقة الكلاسيكية، في لغة فرنسية أنيقة. وفِي مستهل الستينيات، لفت إليه الانتباه كأحد ألمع الأسماء التي قدمتها مجلة «أنفاس»، بإدارة الشاعر عبداللطيف اللعبي… قبل أن يسقط مثل شهاب ناري في المشهد الأدبي الفرنسي، ويملأ حي سان جيرمان- دي- بري، بصخبه وفوضاه. في تلك الفترة كان مؤلف «قصة زوجين سعيدين»، شابا متمردا، يملك احتياطيا هائلا من الغضب، لذلك سمى كتابه الأول، «غثيان أسود»، قصائد تشي بيأس متأصّل وقرف وجودي في كلمات أنيقة. وستتكرس موهبته الاستثنائية عام 1967 حين نشرت دار "سوي" رائعته «أكادير»، التي كتبها في أعقاب الزلزال الذي دمّر المدينة عام 1960 وكانت تحمل عنوان «التحقيق» قبل أن يغيره الناشر، وتحكي "أگادير" قصة موظف تأمين بعثته مؤسّسته ليشرف على ملفات السكّان المنكوبين. من الصفحات الأولى يشدّنا هذيان سردي يخترقه الشعر والمسرح، ونكتشف شخصية حانقة على كل شيء، تتسلح بالسخرية والرفض كي تتعايش مع يأس الناس وخراب المدينة. في العام الموالي، نشرت «سوي» روايته الثانية «جسد سالب»، حيث يكرّس أسلوبه الثائر على الأجناس الأدبية عبر سرد أشبه بقصيدة طويلة تحبس الأنفاس، عن مراهق يتمرّد على الأسرة والأعراف والتقاليد. في 1969 جمع قصائد تعكس إحساساً حادّاً باليأس والنبذ والتمرّد، وتحفر عميقاً في اللغة، في ديوان سمّاه «شمس عنكبوتية». طبعا، لم يكتب صاحب «انبعاث الورود البرية»، شيئا بالعربية أو بالأمازيغية، لكنه يبقى كاتبا مغربياً حتى النخاع. في الخطابات الرسمية وغير الرسمية، يبدو الجميع اليوم متفقا على أن محمد خير الدين كاتب استثنائي قلّما يتكرر، لكن الدولة لم تفكر يوما في إنشاء مؤسسة تحمل اسمه أو إدخال بعض مؤلفاته ضمن مقررات التربية الوطنية أو حتى إطلاق مشروع جدي لترجمة أعماله وتوزيعها كما يليق بمبدع من عياره… مع الأسف، رغم مرور كل هذه السنوات، مازالت الكلمات العفوية التي دبجتها عنه قبل عشرين عاما في جريدة "العلم" صالحة للحديث عن مؤلف "نصب تذكاري" بضمير الغائب: "اليوم تمر ذكرى رحيله الثانية دون أن ينتبه إليه أحد، يمر نعشه في عربة يجرها حصان أخرس، كأننا نريد أن ننساه. كاتب من عيار محمد خير الدين ليس جديرا بكل هذا الصمت. ألأنه كان يعيش مع العواصف استحق كل هذا الركام من الغبار؟" حيّا أو ميتا، يبدو ألا مكان لكاتب مزعج مثل محمد خير الدين في "البلاد التي"… سماها ذات يوم بغير قليل من المرارة والسخرية: «Ce Maroc!».