كان زميل عزيز من زملاء مهنة المتاعب يردد دائما ملاحظة لاذعة حين يقرأ مقالات رديئة أو يصادف بعض أدعياء الصحافة، «يكفي أن تحفظ 300 كلمة من القاموس وها أنت صرت صحافيا!». لماذا الذهاب إلى معهد أو التسجيل بكليات الإعلام؟ لماذا قراءة الروايات والأدب وتطويع اللغات والتنقيب في سير كبار الساسة ومذكرات الرموز الوطنية والدولية حين يكفي أن تحشو رأسك بكلمات قليلة، وتعبّر بها عن كل شيء وكافة الظواهر وكل الأخبار وتنال بها صفة صحافي، وتأتي على الأخضر واليابس باسمها، وتحظى بحماية وإكراميات خدّام الدولة المنتشرين في مختلف أصقاع البلاد. مع الثورة التقنية في الهواتف المحمولة والإكسسوارات المصاحبة لها من عصي السلفي والحوامل ثلاثية الأركان صغيرة الحجم، خر سقف 300 كلمة الذي وضعه زميلي العزيز الذي سبقني إلى الميدان، وبات يكفي أن تعرف كيف تضغط على زر تسجيل أو التقاط صور أو تكون صنديدا بما فيه الكفاية لتحشو هاتفك في فم أحد المسؤولين وهو يتحدث، لتصير صحافيا ناقلا للصور (Jri)، أو صحافيا مختصا في الوسائط المتعددة، أو رقميا أو فضائيا أو عابرا للقارات أو ما تشاء.. قد يتطوّر إحساس بالضيق لدى بعض القرّاء وهم يقرؤون هذا المقال. ضيق من فكرة أن المقال، ربما، يعادي حرية التعبير والرأي، وبخاصة صحافة المواطن وما إلى ذلك. وهذا بالضبط أكبر موطن التباس يعيق الحديث في هذا الموضوع. الصحافة وأهلها في صدارة المدافعين عن حرية الرأي والتعبير بأشكاله ودعاماته المختلفة، والإقبال على كتابة الرأي والتدوين وتوجيه النقد للسلطة والمجتمع على حد سواء، أمر يدعم دور الصحافة سواء تم عبرها أو في إطار دعامات ووسائل نشر مستقلة، بل التعليق داخل في أجناس الصحافة، وتمارسه هي كما تنشر تعاليق وآراء من هم خارجها، ومجموعة من المؤسسات الإعلامية الرائدة وضعت سمعتها وعلامتها (التجارية) في مجال الإعلام رهن إشارة أقلام متقدة من صحافيين ومدونين وأدباء وشعراء ليكتبوا فيها وينشروا عبرها آراءهم المختلفة، كتابة وصوتا وصورة وفيديو (مدونات سي إن إن، مدونات بي بي سي، الجزيرة، هافنتون بوست، لوموند..). أين المشكل إذن مادام الأمر بهذا الشكل؟ المشكل يحدث حين يقفز أحد الأشخاص من التعبير عن رأيه في أعمدة الصحف وصفحاتها أو في مدونة شخصية أو قناة على يوتيوب أو عبر أثير إذاعة، إلى ارتداء عباءة الصحافي المهني (تكوينا ومعاشا)، دون أن تتجسد فيه ولا واحدة من شروط ومهام الصحافي، الذي يدرس المهنة ويقلّب تاريخها وحاضرها وأشكالها واتجاهاتها وآثارها بمعهد أو كلية مختصة، وفي عمله يتحرّى الأخبار ويدققها ويقابل بين مصادرها وقد يحيلها على زملاء يراجعونها بعده ويثرونها ويمدونه بمصادر علمية -سياسية – ثقافية ممكن أن تكون مفيدة في كتابة قصته الإخبارية، ثم يضع لكل ذلك عنوانا شيّقا أنيقا، ويكتب كما علّمه أهل الاختصاص أن يكتب، بدقة واختصار وحرص وطيد على آداب المهنة، دون تفاخر أو طلب للظهور أو بحثا عن مركز اجتماعي موهوم، وهذا حال يتطلّب دوام العلم والعمل، وهو مجال مفتوح على من لبّى هذه الشروط وسعى للصحافة سعيها. أما ما يحصل اليوم من إغراق غير مسبوق للإعلام بالأدعياء والانتهازيين والسماسرة والأقلام المكسورة والإعلاميين المختصين في كل شيء، فلا يضر القطاع وحده، يضر المجتمع والدولة بأنظمتها الثقافية والاقتصادية والسياسية والمالية، لأنه يلحق قطاعا بالغ الأهمية، مهمتهُ إشاعة ثقافة المسؤولية والمحاسبة والحس الإنساني والرأفة والتضامن وإبراز منجزات الجماعة والأفراد وكشف مناطق العتمة، بلائحة القطاعات المعطوبة والمريضة، بجهة مشاكل البلد، لا بجهة الحلول. طبعا هذا لا يعني أن اللوحة كلّها سواد، اليوم هناك صحافيون مواطنون ومدونون وأصحاب برامج على يوتيوب يسهمون مع وسائل إعلام مهنية بمواد مبتكرة، تقوّي شوكة الإعلام ودور الصحافة وتفتح أمامها آفاقا أرحب في إطار متوازن وسليم. فربما بناء جسور بين المبدعين في الجانبين، واستيعاب وسائل الإعلام لإسهامات غير المحترفين وتنظيمها، يمكن أن يجعل الإعلام من جديد مهنة أعزّ من أن تُدرك ب 300 كلمة وعصا سِلْفِي و»جبهة عريضة»..