في مسرحيات الدمى المتحركة، نكاد لا نرى الخيوط الرفيعة جدا التي تحرك الكراكيز، وحتى إن تراءت لنا، فلا نهتم إلى أين تنتهي ولا نسأل من يكون خلف الستار، نستمتع فقط، ونضحك كثيرا، وقد تدمع عيوننا فرحا أو «قرفا»، ونحن نتابع بتركيز ودهشة العرائس وهي تقفز وتتمايل في مسرح الدمى المتحركة.. الدمى مجرد تماثيل جامدة من خشب، روحها في أنامل محركها، هي جزء منه، وخيال ظله، هي الصدى لصوته، وهي مرآة ضميره.. عبر وجوهها التي لا تخجل، يمرر المحرك أفكاره الجريئة ورسائله إلى من يهمهم الأمر.. وإذا مر العرض رديئا، فالمذنبون هم الدمى، والمحرك المجهول يختفي وسط الجماهير الساخطة ويرفع معهم عقيرته احتجاجا، ويرجم الدمى البليدة بحجارة نهاية الخدمة. الدمى المتحركة في البلدان الديمقراطية، هي دمى متخيلة أبدعها فنانون في أجواء حرية التعبير، ملامحها استنساخ كاريكاتوري لشخصيات عامة فاعلة سياسيا، وعروضها عبارة عن نقد ساخر لمفارقات حياة سياسية حقيقية، بمسؤولين منتخبين حقيقيين، يمارسون سلطة فعلية ويخضعون لرقابة ومحاسبة الشعب والإعلام. في بلادي، لسنا في حاجة إلى دمى متحركة من صنع الخيال الفني، فالفرجة عندنا تشبه تلفزيون الواقع، وأكثر صدقية وواقعية.. لأن دمانا المتحركة من لحم ودم ولها شارب ولحية، والشعب كومبارس، والفاعلون السياسيون الحقيقيون هم محركو «الكراكيز» بخيوط دستورية. كثرت الدمى النطاطة في مشهدنا السياسي البئيس، تعددت العروض الساخرة، وتنوعت التماثيل والأقنعة.. وهناك عرض هزلي طويل بدأ ولم ينته، ولا مؤشر في الخط الدرامي للوقائع يوحي بنهايته القريبة.. فالأحداث لا تتحرك، الشخوص تلوك الحوار نفسه، العقدة في ذروتها، والكراكيز بدأت تتعب، الجمهور مل واكتأب، ورمضان على الأبواب، والكركوز الذي يلعب دور البطولة بدأ يفقد عقله ويخرج عن سياق النص، وباقي الدمى الصامتة خيوطها معطلة.. والفنانون المبدعون الذين يحركون الجميع، إما شاردون، أو مستمتعون، أو منشغلون بفكرة صناعة دمى جديدة لتدبير فرجة الولاية الحكومية المقبلة. في مسرحية الدمى المتحركة ذات العرض البطيء، يتكرر مشهد واحد، فيه «أراكوز» واحد، يتحرك لوحده، يتحدث مع نفسه، يسب الدمى اليمينية واليسارية، يرقص وحيدا، أحيانا على نوبة انصراف العشاق، وأحيانا على إيقاع الكدرة الحزين، وأحيانا يتمايل على أنين الناي في رقصة الثعبان، وفي أكثر الأحيان ينخرط في جذبة جنونية تنهل من تراث الخرافة والتطير وجلسات إخراج الجن. في نهاية مسرحيات الدمى المتحركة، لا أنصحك بالصعود إلى الكواليس لتحظى بصورة تذكارية مع دميتك المفضلة، لأنك ستصدم لمشهدها البئيس.. فلن تجدها كما شاهدتها في العرض منتصبة القامة وسليطة اللسان.. ستجد فقط أقنعة خشبية بملامح ميتة ملفوفة في أكفان من ورق داخل صناديق كرتونية.. أنصحك بالسؤال عن مكان مقصورة المخرج، فإذا وجدته هناك؛ هنئه باسم الشعب المتفرج على سحر أنامله الرشيقة في تحريكنا بخيوط ناعمة خلف الستار.